الدرس 4

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

كان الكلام في الوجه الأول من الوجوه لإثبات الانحلال الحقيقي. وكان محصله: أن الركن الثاني من أركان العلم الإجمالي، وهو: تساوي الطرفين باحتمال الانطباق قد انهدم بحصول العلم التفصيلي بأحد الطرفين. وذكرنا أن المحقق العراقي كما في «تعليقته على فوائد الأصول» وفي «نهاية الأفكار»، أفاد: بأن الركن الثاني للعلم الإجمالي لم ينهدم، إذ ما زال الجامع محتمل الانطباق على كل من الطرفين، على سبيل البدل حتى بعد حصول العلم التفصيلي.

ولكنّ سيد المنتقى «قده»: «ج5، ص92»: أفاد: بأن ما ذكره المحقق العراقي إنما هو جواب على طبق مبناه في حقيقة العلم الإجمالي. لأن مبناه في حقيقة العلم الإجمالي أن المعلوم هو الفرد، غايته أنه كان معلوماً بصورة إجمالية وصار معلوماً بصورة تفصيلية. فما دامت الصورة الإجمالية باقيةً على إجمالها، فلم يتحقق الإنحلال. وهذا جواب غير صناعي بحسب تعبيره. لأن مقتضى الصناعة أن يجيب بجواب على سائر المباني. لا على طبق مبناه.

ولكن، عندما مراجعة كلام المحقق العراقي في الموردين، اي: في تعليقته على الفوائد «ج4، ص41»، وفي «نهاية الافكار، ج3، ص250»، يتبين أن المحقق العراقي أجاب على طبق سائر المباني، وكان بصدد التمييز بين دوران العلم بين الأقل والأكثر ودوران العلم بين المتباينين. فهو في هذا الصدد أفاد: بأن العلم الإجمالي بين الأقل والأكثر غير العلم الإجمالي بين المتباينين بعد حصول العلم التفصيلي. والسر في الفرق:

أنّ العلم الإجمالي بين المتباينين متقوم بقضية تعليقية مفادها: إن كان هذا فليس ذاك، وبالعكس. مثلا: إذا علمنا إجمالاً بأن المنذور صومه إما يوم الغدير؟ أو يوم عرفة؟، فمرجع هذا العلم الإجمالي إلى قضية تعليقية وهي: إن كان المنذور صوم يوم الغدير فليس صوم يوم عرفة منذوراً، وإن كان المنذور صوم يوم عرفة فليس صوم يوم الغدير منذوراً. وهو عبارة عمّا ذكره الاعلام من رجوع العلم الاجمالي إلى قضية منفصلة مانعة الخلو والجمع. ولذلك لو أن هذا العلم الإجمالي حصل بعده علم تفصيلي. كما إذا علمنا: بأن المنذور صومه إما يوم الغدير أو يوم عرفة، ثم علمنا تفصيلا بأن صوم يوم عرفة واجب بالنذر أو بغيره. فإن العلم الإجمالي لا ينحل لبقاء القضية التعليقية، حيث يصدق حتى بعد العلم التفصيلي بأن صوم عرفة واجب أن يقال: إن كان المنذور صوم يوم الغدير فليس هو صوم يوم عرفة وبالعكس، فما دامت القضية التعليقية باقية إذا العلم الإجمالي لم ينحل. بينما في باب الأقل والأكثر لا توجد هذه القضية التعليقية. مثلا:

إذا علمنا إما بوجود صوم يوم أو صومين. فلا يصح أن يقال: بأنه إن لم يجب صوم اليومين فيجب صوم اليوم، وإن لم يجب صوم اليوم فيجب صوم اليومين؛ لأننا نعلم بوجوب صوم اليوم على كل حال، فالقضية التعليقية وهي: إن كان المعلوم بالاجمال هو الاكثر إذا فالاقل ليس كذلك فالاقل معلوم على كل حال. والسر في ذلك: أن محط العلم الإجمالي في باب الأقل والأكثر هو الحدّ وليس أصل الحكم، أي: إذا علمنا بوجوب صوم يوم أو صوم يومين، فإن أصل الوجوب معلوم لا دوران فيه، وإنما الدوران في حد الواجب. هل أن حد الواجب واحد أو متعدد، فلأن مصبّ العلم هو الحد لا أصل الحكم، لذلك: لا تأتي فيه القضية التعليقية. وهي: أن يقال: ان كان الواجب هو الأكثر فالاقل ليس بواجب، إذاً: هناك فرق بين باب الأقل والأكثر وباب المتباينين. ففي باب الأقل والأكثر ينحل إلى علم تفصيلي بالأقل وشك بدوي في الأكثر لعدم وجوب القضية التعليقية. بينما في باب المتباينين لا ينحل ولو حصل علم تفصيلي بأحد الطرفين، لبقاء القضية التعليقية. ومن الواضح: أن ما شرحه فخر المحققين «قده» لا يرتبط بمنى دون مبنى في حقيقة العلم الإجمالي. فجوابه على ضوء جميع المباني.

ولأجل ذلك: فإن ما ذكره سيد المنتقى «قده» في نفس الصفحة، حيث قال: بأن الانحلال يتصور على مبنى من يقول بتعلّق العلم الإجمالي بالجامع. أو بتعلق الإجمالي بالفرد المردد. لأنه بعد حصول العلم التفصيلي في أحد الطرفين لا يبقى علم بالمردد لزوال التردد، ولا يبقى علم إجمالي بالجامع بحده الجامعي، لأن الحدّ الجامعي هو احتمال الانطباق على كل من الطرفين على سبيل البدل. وهذا الاحتمال قد زال للعلم بانطباقه على الفرد المعلوم بالتفصيل.

أما على المختار عنده «قده»: من أن المعلوم بالعلم الإجمالي هو الفرد المعين واقعاً المردّد إثباتاً. فعلى هذا المبنى: ما لم يكن العلم التفصيلي ناظراً للعلم التفصيلي معينا له بأن أقول: علمت بما كنت أعلم به. فقد علمت أولاً بوجوب صوم يوم إما الغدير أو عرفة، والآن علمت تفصيلا بأن ما نذرت صومه هو يوم عرفة، فما لم يكن العلم التفصيلي ناظراً لنفس المعلوم بالاجمال معينا له فلا انحلال.

فيريد ان يقول «قده»: بأن ما ذكره المحقق النائيني «قده» وتبعه سيدنا الخوئي «قده»: من دعوى الانحلال إنما هو على ضوء مسلك تعلق العلم الاجمالي بالجامع لا على مسلكه من تعلقه في الفرد.

ولكن ذكرنا: أنه على ضوء تحليل المحقق العراقي «قده» فلا فرق بين المسالك في هذه النقطة، لأن متعلق العلم الإجمالي الجامع لا بما هو جامع فلا أحد يقول بذلك، بل الجامع بما هو مشير لواقع وراءه، وبالتالي ما دام الواقع المشار اليه محتمل الانطباق على كل من الطرفين على سبيل البدل حتى بعد حصول العلم التفصيلي. إذا فلا انحلال.

هذا هو الجواب عن دعوى الانحلال وما يتعلق به.

الجواب الثالث: ما ذكره السيد الشهيد «قده»: «ج5، من البحوث»: ومحصله: أن هذا البرهان الصادر من النائيني والخوئي لم يسلط الدواء على الجرح ولم يضع النقاط على الحروف، فإن غاية ما ذكر: أن الركن الثاني من أركان العلم الإجمالي قد انهدم، ولكن حتى يتحقق الانحلال الحقيقي وجداناً لابد أن نحرز انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل، ولا يمكن احراز ذلك إلا إذا احرزنا أن الجامع خلي عن كل خصوصية يحتمل إباءها على الانطباق على المعلوم بالتفصيل وإلا إذا احتملنا ان هذا الجامع المعلوم بالاجمال فيه خصوصية تأبى الانطباق على المعلوم بالتفصيل، فمع هذا الاحتمال لا يحرز الانطباق، وإن لم يحرز الانطباق فلا انحلال بالوجدان. وهذا الاحراز يحتاج الى برهان آخر غير البرهان الذي ذكره العلمان. وهو ما سيأتي من السيد الشهيد مفصّلاً: من أن العلم الإجمالي له سبب، فسببه إن كان متساوي النسبة لكلا الطرفين بدرجة واحدة أحرزنا أن المعلوم بالإجمال وهو الجامع لا يحمل خصوصية تأبى الانطباق على المعلوم بنفسه. مثلا: إذا علمنا أن لدى الكافر الحربي إناءان، وبحكم المدة نقطع بأنه ساور أحدهما حتماً، فمقتضى دليل حساب الاحتمالات انه: ساور احدهما. وهذه المساورة سبب متساوي النسبة إلى الإناء الابيض والإناء الازرق على حد سواء، فما دام السبب متساوي النسبة لكلا الاناءين إذا المعلوم بالاجمال المسبب عنه الجامع الخالي عن اي خصوصية تأبى الانطباق على أحدهما، فلو علمنا بعد ذلك تفصيلا ان الكافر ساور الإناء الأبيض فإن العلم الاجمالي ينحل، لأننا احرزنا انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل والسر في الاحراز اننا لا نحتمل وجدانه لخصوصية تأبى الانطباق.

والسر في ذلك: أن السبب لهذا العلم الاجمالي متساوي النسبة. فهذا هو البرهان على الانحلال لا مجرد دعوى أن الركن الثاني من أركان العلم الإجمالي قد انهدم.

فإن قلت: إن مفروض البحث في باب الانحلال هو: إذا لم يكن المعلوم بالإجمال واجداً لخصوصية وإلا فإن كان واجداً لخصوصية فعدم الانحلال قطعي وليس محلا للبحث، وإنما محل البحث ما إذا كان خاليا عن الخصوصية لذلك يقال: هل ينطبق على المعلوم بالتفصيل أم لا؟.

فما ذكرته في مناقشة الاعلام مفروغ عنه في كلماتهم، لأن محل البحث عندهم ما ليس واجدا للخصوصية.

قلت: فرق بين الخصوصية المعلومة، والخصوصة المحتملة. محل البحث: كما أفيد في كلمات الاعلام: ان يكون الجامع المعلوم بما هو معلوم خاليا من الخصوصية، اي ان الصورة المرتسمة للجامع في اذهاننا خالية عن الخصوصية، هذا هو محل البحث. ولكن هذا لا ينفي احتمال الخصوصية. صحيح نحن علمنا بنجاسة أحد الإناءين بالدم، هذا هو الجامع، وهذا بما هو معلوم خالٍ عن أي خصوصية أخرى. لكننا ما زلنا نحتمل أن المشار اليه وهو نجاسة واقعية ذات خصوصية تأبى الانطباق على ما علمنا به تفصيلا، حيث علمنا بعد ذلك ان الإناء باء متنجس بدم، لكن هل هو ذلك الدم أم غيره؟ فما دمنا نحتمل أن الجامع ذو خصوصية تابى الانطباق فلا جزم بالانحلال. ونحن نريد الآن بالبرهان الذي ذكرناه ان نثبت احراز الانبطاق، اي ان نثبت احراز عدم الخصوصية. فلا يكفي أن الصورة ليس لها خصوصية بل لابد ان نحرز ان لا خصوصية واقعية للجامع المعلوم بالاجمال حتى يمكن المصير إلى الانحلال. وسيأتي النقاش في هذا الميزان الذي ذكره نؤجله في محله.

الوجه الثالث: الذي تعرض له الاعلام ومنهم المحقق العراقي في «نهاية الافكار، ج3، ص251»، وتعرض له السيد الشهيد في «ج5». سيأتي الكلام عنه إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين.