انحلال العلم الإجمالي

الدرس 13

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وصل الكلام إلى الانحلال الحكمي، أي انحلال العلم الاجمالي بالامارة أو الأصل المنجز في احد طرفيه.

وذكرنا مسلك سيدنا «قده» من الانحلال التعبدي وما أورد عليه السيد الشهيد «قده» من الإشكال. وتعليقنا على ما ذكر يتوقف على إيضاح الفرق بين الانحلال الحكمي والانحلال التعبدي والانحلال العقلائي.

فالانحلال الحكمي: هو عبارة عن جريان الأصل الشرعي المؤمّن في أحد طرفي العلم الإجمالي بلا معارض. حيث إنّ منجزية العلم الاجمالي بتعارض الاصول في اطرافه، فاذا جرى الأصل المؤّمن في أحد طرفيه بلا معارض انحل لكن لا حقيقة وإنما أثر الانحلال يترتب عليه. وهو: جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض، وهذا يتوقف على اقتران المنجز التفصيلي بالعلم الاجمالي. بيان ذلك بالمثال:

إذا علم المكلف بنجاسة أحد الإناءين وقام البيّنة على نجاسة إناء باء من دون تعرض للمعلوم بالإجمال، إلا أنّ قيام البيّنة صار مقارنا لحدوث العلم الإجمالي.

فهنا في هذا الفرض: وإن لم ينحل العلم الاجمالي حقيقة فإن ما علم تفصيلا انما هو علم تعبدي، ولكن حيث إن الأصل المؤّمن وهو أصالة الطهارة في إناء ألف يجري بلا معارض. إذ لا معنى لجريانه في إناء باء بعد قيام حجة تفصيلية على نجاسته، فهذا هو معنى الانحلال الحكمي. وهو في هذا الفرض - أي فرض التقارن بين العلم الاجمالي والمنجز التفصيلي - متفق عليه.

بينما لو كان المنجز التفصيلي متأخّراً حدوثاً عن العلم الإجمالي: كما لو علم اجمالاً يوم السبت بنجاسة أحد الماءين، وقامت بيّنةٌ يوم الأثنين بأن الإناء باء نجسٌ ولم تتعرض للمعلوم بالإجمال، فالإنحلال الحكمي غير متحقق، والسر في ذلك:

أن أصالة الطهارة في إناء ألف تتعارض مع أصالة الطهارة في إناء باء في الفترة التي سبقت قيام البيّنة. إذ المقصود بالمعارضة هو: أن الجمع بين الأصلين ترخيص في المخالفة القطعية، والترخيص في المخالفة القطعية قبيح، لذلك لو جرى أصالة الطهارة في إناء ألف في جميع الازمنة وجرى أصالة الطهارة في باء في الفترة قبل قيام البينة فإنّ الجمع قبل الترخيصي ترخيص في المخالفة القطعية للمعلوم بالاجمال. فلذلك يبقى العلم الاجمالي على المنجزية مما يعني أن الانحلال الحكمي منوط بكون المنجز التفصيلي مقارناً للمعلوم بالإجمال وإلا فلا انحلال حكمي.

أمّا الانحلال التعبّدي: الذي سلكه سيدنا «قده»: حيث قال:

إنّ العلم الإجمالي ولو على مبنى المحقق الاصفهاني «قده» متقوم بركنين: علم بالجامع، وشك في الخصوصية. فإذا علم بنجاسة أحد الإناءين وقد علم بجامع وهو نجاسة الأحد وشكَّ في نجاسة باء، فإذا جاء المنجز التفصيلي بشرط أن يكون المنجز التفصيلي إمارة لا أصل، كما إذا قامت البيّنة على نجاسة إناء باء، فحيث إنّ البيّنة حجة وأن معنى حجية البيّنة هو جعل العلمية إذاً فقد جعل النجاسة في الإناء باء معلومة لا مشكوكة، وبالتالي فالتعبد بعلمية البيّنة تعبد بزوال العلم الإجمالي. والأثر المترتب على الانحلال: الانحلال التعبدي، جريان البراءة العقلية في الطرف الآخر وليس الأصل فقد، إذ مع زوال العلم فموضوع البراءة العقلية وهو اللا بيان متحقق، ففي الطرف الثاني وهو: إناء ألف لا بيان، فمع تحقق اللا بيان ولو بالتعبد تجري البراءة العقلية.

هذا هو الفرق بين الانحلال الحكمي والانحلال العبدي بلحاظ الأثر. فإن أثر الانحلال الحكمي ليس إلّا جريان الأصل الشرعي المؤّمن في أحد الطرفين بعدم المعارضة، بينما أثر الانحلال التعبدي لو تمّ تحقيق موضوع البراءة العقلية، لأنّه تعبد باللا بيان. فلا معنى لإيراد السيد الشهيد «قده» من أن تكلّف الإنحلال التعبّدي لغوٌ، لأنّ أثر الانحلال الحكمي والتعبدي واحد وهو جريان الأصل الشرعي في أحد الطرفين بلا معارض. فإن من يدّعي الانحلال التعبدي يرى أن قوام هذا الانحلال بزوال العلم، ومع زوال العلم فاللا بيان متحقق وموضوع للبراءة العقلية، كما أن الانحلال التعبدي لا يتوقف على مبنى المحقق الاصفهاني «قده»: من أن العلم الاجمالي علم بالجامع وشك في الخصوصية كي يقال أن هذا على مبنى من المباني. وإنما حتى لو قلنا بما سجّله السيد الصدر من الاشكال من أنّ العلم الاجمالي علم بجامع عرضي، وهو عنوان الأحد، ومتى علم الإنسان بجامع الأحد شكَّ في الخصوصية فهذا لازم العلم لا أنه ركن للعلم، فحقيقة العلم الاجمالي علمٌ بجامع عرضي يعني علم بالأحد، فمن الطبيعي إذا علم بنجاسة أحد الإناءين فلازمه الشك في خصوصية كل منهما، فالشك في الخصوصية لازم العلم لا أنه ركن للعلم.

والتعبّد باللازم كما يقول السيد الشهيد ليس تعبد بالملزوم، فتعبد الشارع بزوال الشك لا يعني التعبد بزوال العلم الاجمالي. والجواب عن ذلك:

إذا كانت الملازمة بين الشك في الخصوصية والعلم الاجمالي، وزوال الشك في الخصوصية وزوال العلم الاجمالي ملازمة بينة بالمعنى الاخص شكلت مدلولا التزاميا لدليل الحجية لا لنفس الامارة إذ المفروض أنّ الامارة ليست لها مدلول التزامي لأنها لم تعين حيث إنّ ما قمت عليه البيّنة نجاسة إناء باء إما هل هذا هو المعلوم بالإجمال ام غيره؟، فإن البينة ساكتة عن ذلك فلعل المعلوم بالاجمال هو عن ألف، إذاً فالبيّنة نفسها ليس لها مدلول التزامي كي نذهب إلى حجية البينة في مثبتاتها، وإنما الملازمة البيّنة بالمعنى الأخص بين الشك في الخصوصية والعلم الاجمالي أوجبت أن يكون الدليل الظاهر في التعبد بحجية البيّنة وجعلها علماً بالمدلول المطابقي دالّاً بالمدلول الالتزامي على زوال العلم الاجمالي. فلا وجه لأن يقال التعبد باللازم لا يعني التعبد بالملزوم. فظهر بذلك: أنّ الفرق بين الانحلال الحكمي والانحلال الحقيقي في الحقيقة وفي الأثر أيضاً.

وأمّا الانحلال العقلائي: فهو عبارة عن ما ذكره السيّد الإمام «قده» في «تهذيبه، ج2» من بناء العقلاء عملاً على إجراء الأصول المؤمّنة في أطراف العلم الإجمالي والنكتة في ذلك عندهم: أن مثل هذا العلم ليش كاشفاً عن الواقع، مثلاً: إذا علم المكلّف بموت أحد الرجلين وقامت البيّنة على أن زيد من بين الرجلين مات، فلا يتوقف العقلاء في عمر، فإذا حصل لديهم علم بموت أحد الرجلين زيد أو عمر وقامت البيّنة على موت زيد فإننا لا نرى أحد من العقلاء يتوقف على موت عمر، فإنّ بناءهم على الرخصة في الطرف الآخر بنكتة أنهم يرون مثل هذا العلم الإجمالي بعد قيام البيّنة في أحد طرفيه ليس كاشفاً عن الواقع. وأثر هذا الانحلال العقلائي يظهر في أمرين:

الأمر الأول: أنّه ببركة الانحلال العقلائي تجري البراءة العقلائية في الطرف الآخر، فلا يجب عليهم التحفظ على عمر تجري البراءة عن ذلك لا البراءة العقلية التي موضوعها اللا بيان إذ قد يقال البيان الوجداني ما زال باقيا وهو العلم الإجمالي فحكم العقل بقبح العقاب فرع وجدان العقل نفسه عدم البيان، فإذا كان العلم الاجمالي لم يزل حقيقة فلم يجد العقل اللا بيان كي يحكم بقبح العقاب، ولا البراءة الشرعية التأسيسية: وهي قوله : «رفع عن أمتي ما لا يعلمون» الوارد على سبيل الامتنان، بل هناك برزخ بينهما، البراءة العقلائية من جهة شرعية فهي امضاها الشارع ومن جهة اخرى ليست ناشئة عن امتنان الشارع، وإنما هي ناشئة عن رؤية العقلاء ان لا كاشف عن الواقع. فتجري البراءة العقلية في الطرف الآخر.

الأمر الثاني: أنّ على الانحلال العقلائي لا فرق بين أن يكون المنجز التفصيلي مقارنا أو متأخراً إذا كان أمارة. مثلاً: إذا عُلِمَ إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين في يوم الجمعة وقامت بيّنة على نجاسة أحدهما في يوم الاثنين، فهنا: بغمض النظر عن معنى الحجية هل معنى حجية الامارة جعل العلمية أم معنى حجية الامارة جعل المنجزية والمعذرية؟ أم معنى الحجية جعل الحجية كما يقول المحقق الاصفهاني؟ على أية حال العقلاء بعد قيام الامارة ولو متأخرة زماناً عن العلم الإجمالي يرتبون أثر الانحلال على الطرف الآخر فيجرون البراءة العقلائية والاصول الشرعية بلا حرج. بينما في الانحلال الحكمي إذا كان المنجز التفصيلي متأخراً زماناً فلا يترتب الانحلال الحكمي لتعارض الأصول الشرعية في الاطراف.

والحمد لله رب العالمين.