الدرس 19

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وصل الكلام إلى البحث حول الحجة الاجمالية. وذكرنا: أن هناك صورتين:

الصورة الاولى: أن يكون الاجمال في الحجة. الصورة الثانية: ان يكون الاجمال في العلم بالحجة.

أمّا الصورة الاولى: وهي أن يكون الاجمال في الحجة نفسها لا في العلم. فمثال ذلك في الشبهة الموضوعية، أن تشهد بيّنة أو خبر ثقة على أن أحد الاناءين نجس، كما تشهد به البيّنة ليس هو نجاسة أحد المعين، فإنّ ما تشهد به البيّنة هو نجاسة احدهما في الحجة، ومثاله في الشبهة الحكمية أن يخبرنا الثقة كزرارة مثلاً أن ما سمعه من المعصوم هو أحد امرين والترديد من عنده لا من عندنا، أي ما سمعه من المعصوم اما وجوب صوم يوم عرفة أو حرمة صوم يوم الجمعة، فهو يشهد لنا بأنه سمع من المعصوم أحد الامرين.

او يكون ذلك في الجمع بين الروايات، كما إذا قامت رواية على أن العصير العنبي يحرم إذا غلى، وقامت رواية أخرى على أن العصير العنبي يحرم إذا نش. فحينئذٍ يتحصل لدينا قيام حجة على حرمة العصير العنبي إذا نشّ، أو حرمته إذا غلى. ففي هذا الفرض وهو ما إذا كان مفاد الامارة مجملاً، لا اجمال في علمنا نحن نعلم بمفاد الامارة تفصيلا، فنحن نعلم تفصيلا بقيام امارة الا ان مفاد الامارة نفسه مجمل، سواء كانت امارة في الشبهة الموضوعية، أو كانت امارة في الشبهة الحكمية. وقلنا: بأن البحث في هذه الصورة في مقامين: مقام الثبوت ومقام الاثبات.

أمّا بلحاظ مقام الثبوت: فبدواً يقال: لا مشكلة في البين، حيث قامت إمارةٌ على نجاسة ألف أو نجاسة باء، أو قامت إمارة على وجوب صوم عرفة أو حرمة صوم عاشوراء، والنتيجة: انه قامت لدينا حجة على واقع إلزامي. فبأي معنى كانت الحجية وبأي مفهوم كانت الحجية مقتضى الاشتغال: حيث قامت حجة على إلزام واقعي، فحينئذٍ مقتضى قاعدة الاشتغال حرمة المخالفة ووجوب الموافقة فليس للعبد ان يشرب الاناءين معا وليس له ان يشرب احدهما، فإن مقتضى الاشتغال اليقيني حيث اشتغلت العهدة تعبدا بالزام في البين، ومقتضى الاشتغال الفراغ. فلا يتحقق الفراغ الا بتركهما معاً أو في الشبهة الحكمية لصوم عرفة وترك صوم عاشوراء. فهذا ما يقال بدواً.

ولكن بعض المقرّرين لبحوث السيد الشهيد «قده»: في تعليقته على البحوث، اعتبر أن هناك مشكلة ثبوتية في البين، والمشكلة ليست في قاعدة الاشتغال يعني في الحكم العقلي، إنما لأن قاعدة الاشتغال فرع وجود حجة حيث لا يحكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقني الا بعد المفروغية عن وجود حجة على حكم الزامي، لذلك لا بحث لنا في الاشتغال، فانه متفرع على الحجية، أي أن مقدار الاشتغال بمقدار ما قامت عليه الحجة، فلابد أن نرجع للحجية، أي أن أدلة الحجية هل تشمل مثل هذه الامارة التي هي مجملة في مفادها؟ أم لا؟، فإذا كانت الامارة واضحة المفاد كما لو قام خبر الثقة على نجاسة الف بعينه أو على حرمة صوم عاشوراء بعينه فهذا واضح ان مقتضى ادلة الحجية حرمة مخالفته ووجوب موافقته، إنما الكلام في حجة مجملة المفاد، فإنّ زرارة يشهد أن المقدار الذي سمعه من الامام هو هذا، اما وجوب صوم عرفة أو حرمة صوم عاشوراء ولا يشهد باكثر من ذلك.

لا إشكال أن دليل الحجية يشمل هذا الخبر من حيث حرمة مخالفته القطعية، إذ بعد قيام حجة على وجود الزام في البين اما بالالزام في الصوم أو بالالزام في الترك فلا مجال لعدم المبالاة لاقتحامهما، فإن هذا الغاء للحجية فمن حيث حرمة المخالفة القطعية لا كلام، انما الكلام هل ان دليل الحجية يشمل هذه الحجة من حيث وجوب الموافقة القطعية؟، هل ان دليل الحجية يمهد ويعبد لقاعدة الاشتغال بحيث يلزم اجتنابهما معاً؟ أو لا سعة فيه _دليل الحجية_ لمثل ذلك؟.

وهنا افاد في تعليقته على البحوث: أن مركز ومصب دليل الحجية إما وجوب الموافقة القطعية بحيث يجمع بينهما، فيصوم عرفة ويترك صوم عاشوراء، وهذا اوسع من مفاد الحجة فإن مفاد الحجة انما هو احدهما من دون تعيين لا كلاهما.

وإن كان مصب الحجية وجوب الالتزام عملا باحدهما المعين، فهذا ترجيح بلا مرجح، لأن الحجة لم تشهد باحد المعين، وان كان مصبها احدهما لا بعينه أي الجامع، فكأن المولى قال: يجب على المكلف تحقيق الجامع، فهذا هو نفس حرمة المخالفة القطعية، وليس شيئا آخر. لأن الجامع يتحقق في واحد. لذلك ذهب إلى أن هناك مشكلة ثبوتية في شمول دليل الحجية لهذه الأمارة المجملة المفاد من حيث وجوب الموافقة القطعية. أي من حيث تمهيدها لحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية، إذ لا اشكال في ان دليل الحجية يمهد لحكم العقل من حيث حرمة المخالفة القطعية، لكن هل يمهّد له من حيث وجوب الموافقة القطعية أم لا؟ فهناك مشكلة.

وذكرنا فيما سبق: ان لا مشكلة، فإن دليل الحجية هو هو لم يتغير، بأي معنى كانت الحجية، أي ان دليل حجية الامارة إذا كان مفادها معينا هو نفس دليل الحجية لها إذا كان مفادها مجملا، ومفاد الحجية في كليهما على حد واحد، فإن قول المولى: صدّق خبر الثقة، قضية حقيقية فعلية عند فعلية موضوعها كان مفادها أو كان مفادها مجملا هو واحد، ومعناه في الجميع: هو الوجوب التعليقي، أي وجوب الالتزام عملاً بمؤدى الإمارة - وجوب عقلا - ما لم يقم ترخيص من الشارع، أي ان مؤدى الامارة يمهد لحكم العقل لقاعدة الاشتغال، فإذا كان مفاد الامارة معينا فإن دليل الحجية يشملها ونتيجة شموله له حكم العقل بقاعدة الاشتغال، وهذا الحكم العقلي معلق على عدم ترخيص من الشارع، لأنه المفروض حكم عام وليس حكم خاص بامارة معينة.

فكذلك إذا كان الامارة مجملة دليل الحجية يشلمها، ويترتب على هذا الشمول حكم العقل بقاعدة الاشتغال، غايته ان هذا الحكم معلق على عدم ترخيص من الشارع.

إنما إذا كان مفاد الإمارة معينّاً كما لو قال: هذا الاناء نجس، أو قال: يجب صوم يوم عرفة. فإنه لا يرتفع حكم العقل بلزوم تطبيقه الا مع دليل حاكم. كما لو جاء دليل بعنوان ثانوي كحرج أو ضرر. فحكم العقل هنا بلزوم الموافقة وان كان معلقا الا انه معلق على عدم ورود دليل حاكم.

أما إذا كان مفاد الامارة مجملاً: بأن قال: ما سمعته من الإمام، قال: من افطر في رمضان لمرض فعليه قضاء أو عليه فدية؟!، فالترديد منّي، لكنه قال أحدهما، لأن مفاد الامارة مجمل لا لمشكلة في دليل الحجية، فيقال: إن قاعدة الاشتغال بمقدار مفاد الامارة وحيث إن مفاد الامارة ليس الأحد المعين، بل الأحد الانتزاعي لأن ما شهدت به هو أحدهما ولم تعين. لذلك يقولون: إذا اشتغلت عهدتك بالاحد الانتزاعي فيجب عليك ان تفرغ عهدتك من الاحد الانتزاعي ما لم يرخص الشارع في ذلك والترخيص هنا لا ينحصر في دليل حاكم بل يشمل دليل الاصل لأن ما حكم به العقل: الاشتغال بالاحد الانتزاعي لا بالاحد المعين حتى يتعارض مع دليل الاصل، فبما انه حكم بالاحد الانتزاعي. إذاً بالنتيجة يجب عليك الفراغ من هذا الاحد الانتزاعي ما لم يرخّص الشارع في أحد الطرفين بعينه ولو بدليل مرخّص. فإنه لا يزيد مقتضى قاعدة الاشتغال في الامارة عن مقتضاها في العلم الاجمالي. فلو فرضنا: ان لديك علما اجمالياً بأن احدهما نجس، أو لديك علم اجمالي ان احد الامرين واجب، اما القضاء أو الفدية، فهل يترتب على العلم الاجمالي اكثر من الوجوب التعليقي أي وجوب الفراغ مما علمت به ما لم يرخص الشارع. فكما أن مقتضى قاعدة الاشتغال في مورد العلم الاجمالي ليس أكثر من الوجوب التعليقي فكذلك مقتضاها عند قيام الامارة المجملة إذ لا يزيد مورد الامارة المجملة عن مورد العلم الاجمالي. أي اين المشكلة ان كانت في دليل الحجية فماده عام على نحو القضية الحقيقية كانت الامارة معينة أم كانت لا، وإن كانت المشكلة في حكم العقل بقاعدة الاشتغال فحكم العقل بمقدار ما وصل، فإن كان ما وصل معينا حكم بلزوم الاتيان به ما لم يرد دليل حاكم، وان كان ما وصل مجملا حكم بلزوم تطبيقه ما لم يرد دليل مرخص في احد الطرفين. فالنتيجة: أنه لا مشكلة ثبوتية في البين.

فيصل الكلام إلى:

المقام الثاني: وهو مقام الإثبات: أي هل أنّ الحجية في المقام تختلف باختلاف المعاني والمفاهيم في الحجية أم لا؟.

وهنا في مقام الإثبات نبحث عن جهتين:

الجهة الأولى: في أنّ معنى حجية الامارة المجملة هل يختلف باختلاف المباني في الحجية؟

الجهة الثانية: في النسبة بين دليل الامارة ودليل الاصل العملي.

أمّا بلحاظ الجهة الاولى: فالمباني في الحجية كثيرة لكن ما يرتبط بمحل البحث اربعة مباني. وقبل الدخول في ما يتفرع عليها نقول:

أما على مبناها كما ذكرنا في «حجية خبر الثقة»: أن لا معنى للحجية لدى المرتكز العقلائي اكثر من وجوب ترتيب آثار الواقع على مؤدّى الحجة، لا جعل العلمية ولا جعل المنجزية ولا جعل الحكم المماثل ولا ابراز الاهتمام بالواقع، فإن ما قام عليه المرتكز العقلائي عند ورود خبر الثقة مجرد ترتيب آثار الواقع على مؤداه من دون اعتبار آخر، والادلة الشرعية الواردة في اثبات الحجية مفادها امضاء ما عليه المرتكز العقلائي، فليس معنى حجية خبر الثقة اكثر من ترتيب آثار الواقع على مؤداه. وبناء على ذلك: حيث إن زرارة يشهد بأن الواقع موجود من خلال العنوان الانتزاعي وهو عنوان الاحد، إذ ما يشهد به زرارة انه سمع واقعا الزاميا ضمن احد الطرفين، فهو يشهد بواقع الزامي مجمل، إذاً على المكلف ان يرتب آثار الواقع على طبق ما شهد به زرارة، ومقتضى ذلك: حكم العقل بقاعدة الاشتغال بهذه المقدار.

أمّا على ضوء مبنى السيد الشهيد: من ان الحجية ابراز اهتمام الشارع بالواقع على تقدير صدقه على أحد الطرفين. أو على مبنى جعل العلمية عند النائنيني أو جعل العلمية عند العراقي، فإنهما مختلفان في بعض التفاصيل، أو جعل المنجزية والمعذرية عند الآخوند الخراساني، أو جعل الحكم المماثل كما يستفاد من عبارة الشيخ الاعظم.

فما هي النتيجة؟ يأتي عنها الكلام.

والحمد لله رب العالمين.