الدرس 22

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في الحجة الاجمالية على الحكم الشرعي، والكلام في بعض التطبيقات من أجل التمييز بين موارد الحجة الاجمالية وغيرها:

التطبيق الأول: إذا اختلف الفقيهان المتساويان أو اللذان لم يحرز اعلمية احدهما على الآخر في المعاملات. كما إذا اختلفا في صحة معاملة أو فسادها، كما إذا افترضنا أن الفقيهين اختلفا في أن بيع المعدود مكيلا، أو بيع المكيل معدودا هل انه من البيع الغرري الفاسد أم لا؟. وقال احدهما بكونه بيعا غرريا، وقال الآخر يكفي العلم بالجملة وليس بيعا غرريا. فهذا بنظر السيد الاستاذ «دام ظله» من موارد العلم الاجمالي المنجز، لا من موارد الحجة الاجمالية، والوجه في ذلك: أن الفقيهين إذا اختلفا فبالنسبة للعامي لديه علم اجمالي وهو «يحرم التصرف في المثمن أو يجب رد الثمن». فإن كان هذا البيع صحيحا فيجب عليه أن يدفع ثمنه الى البائع، وان كان البيع فاسدا حرم عليه التصرف في المثمن، فليس المقام من موراد التخيير، بل لوجود علم اجمالي منجز، فلا محالة ليس له ان يتخير ان يعمل بفتوى اي منهما.

وناقشناه في بحث الاجتهاد والتقليد: بأن هذا العلم الاجمالي منحل، باعتبار انه يوجد هنا اصل مثبت للتكليف، ليس اصلا مرخصا حتى يتعارض مع اصالة البراءة في الطرف الاخر، كي يقول: اصالة البراءة عن وجوب دفع الثمن معارضة بأصالة البراءة عن حرمة التصرف في المثمن فيكون العلم الاجمالي منجزا لتعارض الاصول الترخيصية. بل هنا يوجد اصل مثبت للتكليف، وهو اصالة الفساد اي استصحاب عدم نفوذ هذه المعاملة، ويترتب عليه شرعا - وليس عقلا - الحكم بفساد المعاملة فمع الحكم بفساد المعاملة شرعا يحرم عليه التصرف في المثمن. فحرمة التصرف في المثمن تنجز بمنجز شرعي وهو استصحاب عدم النفوذ المعبر عنه بأصالة الفساد. فمع تنجز احد الطرفين بمنجز شرعي ينحل العلم الاجمالي فيجري الأصل المرخص في الطرف الآخر بلا معارض ولا يجب عليه دفع الثمن لأصالة البراءة.

التطبيق الثاني: هل من موارد الحجة الاجمالية الحجةُ السلبية؟ بمعنى: عدم الفتوى؟

مثلا: السيد الخوئي «قده» يرى: ان الاحوط وجوباً الاقتصار في ترتيب آثار مكّة على مكّة القديمة ولا يشمل ما استحدث في مكّة، لكنه يفتي بأن من دخل المنزل «مكان النزول» جاز له التظليل بالظل السائر وان كان محرما، بمعنى: انه متى ما دخل مكّة وان لم ينزل بعد في مكان معين يجوز له التظليل بالظل السائر، والسيد الاستاذ «دام ظله» يفتي بأن مكة تشمل كل ما يصدق عليه مكة فعلا، فلا تختص آثار مكّة بمكّة القديمة، ولكن الاحوط وجوبا عنده عدم التظليل بالظل السائر في المنزل. فلو اراد المكلف ان يوفق بين الامرين: فيرجع لفتوى كل منهما في مورد احتياط الآخر. فيقول: بما ان السيد الخوئي لديه الاحوط وجوبا عدم سعة مكة لمكة الحديثة، فأنا ارجع في هذا الاحتياط الوجوبي الذي يقول: تشمل مكة الحديثة. وبما ان السيد السيستاني يقول: الاحوط وجوبا عدم تظليل المحرم في مكان النزول، فارجع في هذا الاحتياط الى السيد الخوئي الذي يرخص في التظليل في مكان النزول، ونتيجة ذلك ان أظلل بالظل السائر في مكة الحديثة توفيقا بين الفتويين، فارجع الى فتوى كل منهما في مورد احتياط الآخر.

ففي هذا الفرع هل توجد حجة اجمالية سلبية بعدم صحة هذا العمل؟ بأن يقال: هذا العمل، اي تظليل المحرم نفسه في مكة الحديثة مناف للحجة الاجمالية فلا يصح للمكلف التوسل بذلك.

فقد يقال: إن هذا العمل المركب وهو التظليل في مكة الحديثة مما لا يستند الى فتوى اي منهما. حيث إن السيد الخوئي يقول: الاحوط وجوبا ترك ذلك، لانه في مكة الجديدة. السيد السيتاني يقول: الاحوط ترك ذلك لانه تظليل في مكان النزول، فهذا العمل المركب مناف لكلا الاحتياطين، فلا هو مستند الى شيء من هذا أو شيء من هذا.

ولكن قد يقال: بأن توافق الاحتياطيين الوجوبيين على عدم التبرير لهذا العمل ليس مصداقا للحجة الاجمالية فالحجة الاجمالية عبارة عن امارة قائمة على الالزام سواء كان الزاما وجوديا أو الزاما سلبيا بالمنع أو الحضر، اما عدم وجود فتوى لا توجد. هذه ليس امارة اجمالية. فما ذكره بعض الفقهاء المعاصرين من عدم صحة هذا العمل المركّب لمنافاته لكلا الاحتياطين غير تام، فإن هذا ليس من موارد الحجة الاجمالي، بل يستطيع المكلف ان يقول: ما عملته مطابق لكلا الفتويين.

التطبيق الثالث: إذا قامت لدينا أمارة على وجوب شيء بشرط. وقامت أمارة أخرى - رواية أو فتوى - على وجوبه بشرط آخر.

مثلا: لو فرضنا أن الكليني روى: إذا نشّ العصير حرُم. وروى الفقيه: اذا غلى العصير حرم. ولا ندري ان الحرمة في فرض الغليان أو في فرض النشيش، فهل هذا من موارد الحجة الاجمالية بأن نقول قامت رواية على حرمة احدهما، كي يترتب عليه وجوب الموافقة القطعية باجتناب العصير العنبي في أي منهما.

الصحيح: انما يكون هذا المورد من موارد الحجة الاجمالية اذا علمنا بعدم صدور احداهما، والا لو لم نعلم بعدم صدور احداهما واحتملنا صدور كليهما فمقتضاه ان نجمع بينهما فنقول: انه يحرم في كلا الفرضين، بالنتيجة: لا يحصل لنا حجة اجمالية بين متباينين، وانما تكون الحجة الاجمالية منجزة كالعلم الاجمالي اذا دار الامر بين المتباينين، وهنا مع احتمال صدورهما معا لا يدور الامر بين المتباينين، لعل الجمع بين الروايتين بالجمع الأوي، ولعله بالجمع الواوي.

إذن إذا علمنا بعدم صدور أحداهما فالصادر واحد، فلا ندري أن ما صدر هو الحرمة في فرض النشيش أو الحرمة في فرض الغليان؟ فهنا نقول: نحن نعلم بحجة اجمالية على الحرمة اما في فرض النشيش أو في فرض الغليان مقتضى منجزية هذه الحجة ترتيب آثار العلم الاجمالي عليها من حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية.

اما اذا لم نعلم، فيأتي الجمع بين الروايتين، ولعل الجمع بينهما بالجمع الواوي، وهو: ان العصير العنبي انما يكون محرما اذا اجتمع الشرطان معاً. فليس لدينا حينئذٍ حجة إجمالية دائرة بين المتباينين.

التطبيق الرابع: أن يقال: لا فرق بين الحجة الاجمالية والعلم الاجمالي في بعض الموارد كتعارض الاصول، مثلاً: إذا توضأ لصلاة الظهر، وبعد الفراغ منها جدد الوضوء لصلاة العصر، وصلّى. وبعد الفراغ من صلاة العصر علم اجمالا أو قامت حجة اجمالية كأن اخبره الثقة بانه احدث اما بعد الوضوء الاول أو بعد الوضوء الثاني، فهنا: قاعدة الفراغ في صلاة الظهر معارضة بقاعدة الفراغ بصلاة العصر فتتساقطا وتصل النوبة للاصل الطولي، الذي يجري في طول سقوط قاعدة الفراغ. فقد يقال ان الاصل الطولي بعد سقوط قاعدة الفراغ هو استصحاب الطهارة، توضأ لصلاة الظهر، لا يدري احدث بعدها أم لا؟ يستصحب الطهارة الى تمام صلاة الظهر، وتوضأ لصلاة العصر لا يدري احدث بعد الوضوء لصلاة العصر أم لا؟ يستصحب الطهارة الى تمام صلاة العصر، فأيضا كما وقع التعارض بين الاصلين العرضيين وهما قاعدتا الفراغ يقع التعارض بين الاصلين الطوليين وهما استصحاب الطهارة مع صلاة الظهر واستصحاب الطهارة بصلاة العصر.

السيد الخوئي يقول هذا غير صحيح، ولا تعارض بين الاستصحابين في المقام، والسر:

بالنسبة للأولى: يجري استصحاب الطهارة، اما بالنسبة للثانية: يصير من توارد الحالتين، لانه في الصلاة الثانية يقطع بانه احدث وتطهر، لانه قطعا احدث اما بعد وضوء الاولى أو بعد وضوء الثانية وقطعا كان له طهارة لانه اتى بوضوء تجديدي ولا يدري ان هذا الوضوء التجديدي أتى به قبل الحدث أو بعد الحدث، فله يقين بالطهارة وله يقين بالحدث ولا يدري المتقدم والمتأخر منهما. فيكون من توارد الحالتين، يعني استصحاب الطهارة في الصلاة الثانية معارض باستصحاب الحدث لانه له يقين بطهارة وحدث فكل منهما يجري استصحابه فيتعارض الاستصحابان، إذن استصحاب الطهارة في الثانية لا يجري للمعارضة، ويجري استصحاب الطهارة في الصلاة الأولى بلا معارض، فلا يعيد الاولى ويعيد الثانية بمقتضى قاعدة الاشتغال، حيث لا مصحح لها لا قاعدة الفراغ لانها معارضة، ولا استصحاب الطهارة لانه معارض في نفسه باستصحاب الحدث. فلأجل ذلك لا يجري.

سؤال: لماذا لا يقول السيد الخوئي: ان التعارض ثلاثي؟ يعني استصحاب الطهارة في الصلاة الثانية معارض لأصلين في آن واحد، معارض لاستصحاب الطهارة في الأولى، ومعارض لاستصحاب الحدث، لماذا اسقطه عن معارضة استصحاب الطهارة؟. قال: استصحاب الطهارة في الصلاة الثانية ساقط لا يعارض استصحاب الطهارة في الصلاة الأولى لانه معارض باستصحاب الحدث. فقولوا ان التعارض ثلاثي: استصحاب الطهارة في الصلاة الثانية معارض باصلين في آن واحد في عرض واحد، استصحاب الطهارة في الاولى واستصحاب الحدث في الثانية، وبالتالي يكون العلم الاجمالي منجز.

والحمد لله رب العالمين.