هل الدين منشأ للصراعات البشرية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في نقطة محددة: هل أن الدين منشأ للصراعات البشرية أم لا؟ وهنا أمامنا اتجاهان: اتجاه حداثي، واتجاه ديني. الاتجاه الحداثي يرى أن منشأ الصراعات البشرية هو الدين، فالدين هو الذي زرع الصراعات، والدين هو الذي فتح باب الحروب والاختلافات، فمنشأ الصراعات البشرية ومنشأ الاقتتال البشري هو الدين. والاتجاه الديني الذي ينفي ذلك، يقول: الدين ليس منشأ لصراعات ولا لحروب، وإنما العوامل المؤججة للحروب هي عوامل خارجة عن إطار الدين. نحن نتحدث في هذه الليلة بالمقارنة بين هذين الاتجاهين، ونبدأ أولًا بالاتجاه الحداثي.

الاتجاه الأول: الاتجاه الحداثي.

الاتجاه الحداثي يقول: إذا بحثنا عن الصراعات بين البشر، كل فئة تقتل الأخرى، وجدنا أن منشأ الصراع هو الدين، الحروب الطاحنة بين الكاثليك والبروستات منشؤها الدين، الحروب الطاحنة بين الشيعة والسنة على مدى التاريخ منشؤها الدين، الحروب الطاحنة بين المسلمين واليهود على مدى التاريخ منشؤها الدين، الدين هو منشأ الصراع، هو مفتاح الصراع. هذا الاتجاه الحداثي يقول: لدينا دليلان واضحان على أن الدين هو منشأ الصراعات:

الدليل الأول: القرآن الكريم.

القرآن الكريم يحفز على الصراع، القرآن الكريم يحث على القتال، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، القرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، القرآن الكريم يقول: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، إذن القرآن هو مصدر الصراع، هو مصدر الحرب، حروب الأديان مصدرها كتاب سماوي، ألا وهو القرآن الكريم.

الدليل الثاني: سيرة أرباب الدين.

سيرة قادة الدين هي سيرة قتالية، هي سيرة حربية، النبي قاتل قبيلته في بدر وأحد وحنين، وقاتل اليهود في خيبر، وقاتل الروم في مؤتة، النبي اصطنع حروبًا، سيرته هي سيرة قتال وحروب. الصحابة الذين هم قادة الدين بعد رحيل النبي كانوا قادة حروب، في عهد الخليفة الأول قوتل من يسمون بالمرتدين، قتل مالك بن نويرة هو وأصحابه، ووضع رأسه يغلي تحت القدر، واعتبرت زوجته سبية، ودخل بها وبني عليها في ليلة قتل زوجها. عندما فتح المسلمون مصر أراقوا من الدماء ما أراقوا، وكانت أعظم مكتبة في الاسكندرية، أحرقها المسلمون كلها ولم يبقوا لها أثرًا.

إذن إذا لاحظنا كتاب الدين، ألا وهو القرآن، رأيناه يحفز على الصراع، إذا لاحظنا تاريخ قادة الدين وجدناه تاريخًا دمويًا يحث على الصراع والقتال، إذن الدين هو منشأ الصراع، والوجه في ذلك: لماذا الدين هو منشأ للصراع؟ فلنحلل هذه القضية، هناك ثلاث قضايا يختلف فيها الحداثيون عن الاتجاه الديني، هذه القضايا بنظر الحداثيين إذا حلت وفككت ستنتهي الحروب كلها، ما هي القضايا التي إذا فككت وعولجت انتهت الحروب وانطفأت شعلة الحرب في الأرض كلها؟

القضية الأولى: أن الحقيقة ليست مطلقة.

الدين يعتقد أنه حقيقة مطلقة، المتدينون يعتقدون أن دينهم حقيقة مطلقة لا تقبل النقد ولا تقبل الترديد والشك، لأنهم يعتقدون أن دينهم حقيقة مطلقة يفرضونه على الآخرين، فإن أجابوا وإلا قاتلوهم، المسلم يعتقد أن الإسلام حقيقة مطلقة، المسيحي يعتقد أن المسيحية حقيقة مطلقة، الشيعي يعتقد أن التشيع حقيقة مطلقة، السني يعتقد أن التسنن حقيقة مطلقة، كل يدعي احتكار الحقيقة، وأن الحقيقة المطلقة بيده، ولأجل ذلك كل يحاول أن يفرض دينه ومذهبه على الآخر، ومن هنا تنشأ الصراعات وتشتعل الحروب، منشؤها أن الحقيقة مطلقة.

أما إذا قلنا: الحقيقة نسبية، لا توجد حقيقة مطلقة، الحداثيون يقولون: نحن لا نعتقد بأن الحقيقة مطلقة، الحقيقة نسبية، بمعنى كل أدرك نصيبًا من الحقيقة، جميع الأديان والمذاهب هي ورود تختلف ألوانها وروائحها وعطورها، نقبل جميع الأديان، ونقبل جميع المذاهب، ونقبل جميع الاتجاهات، لأن الجميع أدرك من الحقيقة نسبة ما، أدرك من الحقيقة نصيبًا ما، لا توجد حقيقة مطلقة، الحقيقة نسبية.

القضية الثانية: أن لا مقدس.

لا يوجد شيء اسمه مقدس، الدين يعتقد بوجود المقدس، الحداثي لا يعتقد بوجود المقدس، ليس هناك مقدس، إذا اعتقدنا أن هناك مقدسًا امتنع باب النقد، وأغلق باب الحرية الفكرية، إذا قلنا: إن النبي إنسان مقدس، إن أمير المؤمنين إنسان مقدس، إن الصحابة مقدسون، إن الدين فكر مقدس، إذا اعتقدنا بقداسة شيء فقد أغلقنا باب النقد وباب الحرية الفكرية، إذن لا توجد قداسة، لا قداسة لأحد ولا قداسة لفكر، الأصل المقدس هو أن لا مقدس.

مثلًا: كانت يقول: أول خطوة في طريق المعرفة أن تكون جريئًا في نقد المقدسات، حتى تكتسب المعرفة لا بد أن تكون جريئًا في نقد المقدسات، تعتقد أن لا قداسة لشيء. تأتي مثلًا إلى الدكتور سروش - مفكر إيراني - يقول: نحن أهل التحليل لا أهل التجليل، ليست وظيفتنا أن نقدس وأن نجلل، بل وظيفتنا أن نحلل وأن ننقد وأن نتكلم، لا قداسة لشيء، إذا نفينا القداسة عن كل شيء انطفأت الحروب، وانتهت المشاكل بين المجتمع البشري.

القضية الثالثة: قيمة الإنسان هل هي بدينه أم بإنسانيته؟

إذا قلنا: قيمة الإنسان بدينه سوف تنشأ الحروب، هذا مسلم، هذا غير مسلم، هذا شيعي، هذا غير شيعي، هذا سني، هذا غير سني، إذا أدخلنا الدين في تقويمنا للبشر، قلنا: قيمة الإنسان بدينه، بمذهبه، بعقيدته، سوف تشتعل الحروب وتنشأ الاختلافات، أما إذا ألغينا هذا التقويم وقلنا: قيمة الإنسان بإنسانيته لا بدينه، سوف تنطفأ الحروب وتنتهي المشاكل.

إذن، ملخص الاتجاه الحداثي يقول: الدين منشأ الصراعات؛ لثلاث قضايا: الحقيقة المطلقة، القداسة، قيمة الإنسان بدينه لا بإنسانيته، هذه القضايا الثلاث هي منشأ الصراعات بين أبناء المجتمع البشري.

الاتجاه الثاني: الاتجاه الديني.

الاتجاه الديني ماذا يقول؟ نحن أبناء الإسلام مثلًا، نحن أبناء التشيع مثلًا، ماذا نقول؟ ما هي منظومتنا الفكرية في هذا المجال؟ نحن نعتقد أن الدين ليس منشأ للصراعات، وليس منشأ للحروب، لماذا؟ أذكر لك الآن عدة ركائز، دقق في هذه الركائز حتى تصل إلى هذه النتيجة التي نحن نؤمن بها، أن الدين ليس منشأ للصراعات والحروب البشرية.

الركيزة الأولى: ما هو الأصل في الدين؟

هل الأصل هو التمييز بين الناس بحسب أديانهم ومعتقداتهم، أم الأصل هو المساواة بين بني البشرية من حيث الكرامة؟ ما هو الأصل عندنا نحن أهل الدين؟ هل الأصل هو التمييز، أم الأصل هو المساواة بين أبناء البشرية في الكرامة والحقوق؟ نذكر ثلاثة بنود في هذه الركيزة:

البند الأول: أصالة الكرامة.

الأصل الذي قرره القرآن الكريم هو الكرامة لكل إنسان، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ولم يقل: المسلمين، ولم يقل: المؤمنين، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.

الأصل هو الكرامة لكل إنسان، والكرامة تشمل الكرامة التكوينية، وهي أن كل إنسان أعطي عقلًا وإرادة، وتشمل الكرامة التشريعية، لكل إنسان حق الحياة، حق الحرمة في نفسه وفي ماله وفي عرضه، لكل إنسان حرمة في دمه وعرضه وماله، هذا هو معنى التكريم، هذه الآية يستفاد منها الكرامة التكوينية والكرامة التشريعية، لكل إنسان حرمة.

نأتي إلى آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، الهدف هو أن يتعارف أبناء البشر بعضهم على بعض، وليس الهدف هو الاقتتال، فهذه الآية تدلنا على أن الأصل في الدين هو المساواة بين أبناء البشرية في الكرامة والحرمة، لأن الغرض والهدف من وجود البشرية هو التعارف والتلاقي وتلاقح الأفكار والطاقات، وليس الهدف هو الاقتتال أو الحروب.

وهذا ما قرره الإمام أمير المؤمنين علي في عهده لمالك الأشتر عندما قال له: ”وأشعر قلبك الرحمة للرعية واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم؛ فإن الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق“، إذن الأصل هو المساواة.

البند الثاني: متى يشرع القتال؟

هل كل مسلم يقتل من يشاء من الكفار؟ صارت فوضى! كل شيعي يقتل من يشاء من المذاهب الإسلامية؟! كل سني يقتل من يشاء من الشيعة؟! لا، متى يشرع القتال؟ هل القتال في الدين أصل نبني عليه؟ هل القتال في الدين أساس نبني عليه؟ لا، لماذا؟ لم يشرع القتال إلا بهدف الدفاع، عندنا قتال دفاعي وليس عندنا قتال ابتدائي، هل الأصل في الدين هو القتال؟ لا، ليس القتال أصلًا في الدين، وليس القتال قاعدة أساسية ننطلق منها، القتال في الدين لم يشرع إلا في الدفاع، ولم يشرع في الهجوم والغزو واحتلال الأراضي وسبي النساء وقتل الرجال وذبح الأطفال، القتل في الدين ليس أساسًا، كيف؟

القرآن الكريم يقول: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، القتال إذا قوتلت، وقال تبارك وتعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ أولًا هم قوتلوا ثم هم يدافعون عن أنفسهم، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، المهاجِم يقاتَل، أما المسالم فيبقى على الأصل ألا وهو الكرامة البشرية، الإنسان المسالم ضمن الأصل الذي أسسناه في البند الأول، وهو أن له حق الكرامة وحق الحرمة، الإنسان المهاجم المعتدي هو الذي يقاتَل سواء كان كافرًا أم مسلمًا، حتى المسلم يقاتَل، نحن لا نقاتل الكافر لأنه كافر، بل نقاتل الكافر إذا كان معتديًا، لذلك نقاتل المسلم أيضًا إذا كان معتديًا، المهم هو الاعتداء، المعتدي يقاتَل مسلمًا كان أم كافرًا، المسالم يحترم مسلمًا كان أم كافرًا، ليست المسألة مسألة كفر وإسلام، بل مسألة المسلم والمعتدي.

لذلك القرآن يقول: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ، الفئة الباغية تقاتل وإن كانت مسلمة حتى ترجع إلى صوابها. لاحظ أيضًا قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، لا يوجد مانع من أن تنشئ علاقة مع إنسان غير مسلم، حتى لو كان لا يعتقد بأي دين، ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، لا تتولَ الإنسان المعتدي، لا تتولَ الإنسان الهجومي، تولَ الإنسان المسالم.

لاحظوا هذه الآية المباركة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، إذا كان مؤمنًا بأنبياء الله ورسله، إذا كان مؤمنًا باليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. إذن، لغة القرآن هي لغة الإنسانية، لغة الكرامة الإنسانية، لغة المساواة بين أبناء البشرية، أنت تتمسك بآيات وتترك آيات، هذه الآيات التي تمسكت بها ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، هذه الآيات شرعت عندما كان المسملون في موقع الدفاع عن أنفسهم، وعندما كانوا يصدون الهجوم الوارد عليهم من الجهات الأخرى. إذن، عندما نلاحظ هذا البند نرى أن الأصل ليس هو القتال، القتال مسألة استثنائية وليست هي الأصل.

البند الثالث: عقد السلم الاجتماعي.

لو حدث قتال فما هو الحل؟ الحل هو السلم، القرآن يدعو إلى السلم: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ، شخص مشرك لا يؤمن بدين، استجارك، قال أنا بذمتك، أجره وأعطه الذمة، وأعطه الأمان، عقد السلم الاجتماعي عقد محترم في الإسلام، إذا عندنا مجتمع متنوع الأديان، متنوع المذاهب، مثل العراق، مثل لبنان، هذا المجتمع يحتاج إلى عقد اجتماعي، وهو عقد السلم والأمان بين فئاته وأديانه ومذاهبه، ومتى وجد هذا العقد الاجتماعي - وهو عقد السلم والأمان - فهو عقد محترم لا يجوز لأحد نقضه، ولا يجوز لأحد التمرد عليه والخروج عليه.

إذن ظهر لنا من هذه الركيزة أن الدين لا يدعو للقتال، ظهر لنا من هذه الركيزة أن الأصل في الدين هو المساواة في الكرامة، ظهر لنا من هذه الركيزة أن الدين يحترم السلم والأمان الاجتماعي ويبني عليه.

الركيزة الثانية: هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟

هناك فرق بين النسبية الواقعية والنسبية الإدراكية، عندما يقول لك إنسان: الحقيقة نسبية وليست مطلقة، اطرح عليه هذا السؤال: ماذا تقصد بالنسبية؟ النسبية الواقعية أم النسبية الإدراكية؟ هل النسبية في الواقع أم في النسبية في فهمنا وإدراكنا للواقع؟ هل الواقع هو نسبي، أم هو غير نسبي، وإنما النسبية عندنا نحن في عقولنا ومدركاتنا؟

لا يمكن أن نقول: إن الواقع نسبي، النسبي لا يتغير، أدركناه أو لم ندركه، الواقع ليس له علاقة بمدركاتنا، الواقع واحد وليس متعددًا، مثلًا: تتكلم مع إنسان، تقول له: الأرض كروية أم غير كروية؟ هل يصح أن يقول لك: الحقيقة نسبية! هي إما كروية أو غير كروية، الواقع واحد لا يتغير، إما الأرض كروية أو غير كروية، الحقيقة ليست نسبية. هل الوحي نزل على النبي ؟ إما نعم أو لا، يقول لك: والله الحقيقة نسبية! هو إما نزل أو لم ينزل، الواقع واحد وليس متعددًا، لا توجد نسبية في الواقع؛ لأن الواقع واحد لا متعدد، أدركناه أم لم ندركه، هو شيء واحد وليس شيئًا متعددًا، فليست هناك نسبية واقعية.

نأتي إلى النسبية الإدراكية: هل هناك نسبية إدراكية، أم ليست هناك نسبية إدراكية؟ نقول: الحقائق على قسمين: هناك حقائق مشككة يكون فيها نسبية في الإدراك، وهناك حقائق غير مشككة لا نسبية فيها، فمثلًا: معرفة الله شيء متفاوت، معرفة الله ذات درجات، قد تدرك درجة من معرفة الله، العلماء يدركون درجة أكبر، الأوصياء يدركون درجة أعلى، الأنبياء يدركون درجة أسمى.

معرفة الله أمر متفاوت يقبل النسبية في الإدراك، كل واحد يدرك من معرفة الله بمقدار طاقته، وبمقدار قابليته، هنا نحن معك، هناك نسبية في الإدراك، لا يمكن للبشر كلهم أن يدركوا معرفة الله بنسبة واحدة، لا يمكن للبشر كلهم أن يتعرفوا على الله بدرجة واحدة، لا محالة سيتفاوت البشر في معرفة الله «تبارك وتعالى»، لأن معرفة الله ذات درجات وذات مراتب، هنا نحن نؤمن بأن الإدراك نسبي، لأن معرفة الله ليست بدرجة واحدة وليست برتبة واحدة.

لكن بعض الحقائق لا توجد فيها نسبية، بل هي شيء واحد، إما مثبتة أو منفية، هل علي إمام أم ليس بإمام؟ هل نص الرسول على علي بالإمامة والخلافة أم لا؟ هذه المعرفة ليست متفاوتة، لا تختلف العقول في إدراكها، إما هي صحيحة أو خاطئة، فمن أدركها فقد أصاب، ومن لم يدركها فقد أخطأ، فلا معنى للقول بالنسبية، والله الشيعي يعتقد أن الرسول نص على علي بالإمامة، السني يعتقد أن الرسول لم ينص على علي بالإمامة، قطعًا أحدهما مصيب والآخر مخطئ، كون علي إمامًا، كون محمد نبيًا، هذا شيء لا يقبل التفاوت.

إذن، الملخص من هذا الكلام: الاتجاه الديني يقول: الحقيقة الواقعية مطلقة وليست نسبية، وإنما النسبية في الإدراك، والنسبية في الإدراك في جزء معين من المعارف، وهي المعارف التي تقبل التفاوت، وهي المعارف ذات الدرجات وذات المراتب، وليست جميع المعارف تقبل النسبية في الإدراك.

إذن، من حقي أنا إذا كانت عندي أدلة وبراهين على أن محمدًا رسول الله، من حقي أن أقول: أنا مصيب وغيري مخطئ، لأن عندي أدلة وبراهين تثبت ذلك، من حقي أن أقول إذا قامت علي الأدلة والبراهين على أن عليًا منصوص عليه بالإمامة والخلافة أن أقول: أنا مصيب في ذلك، لأن عندي أدلة وبراهين، وغيري مخطئ، فالتخطئة للغير موافقة للواقع؛ لأن الواقع واحد وليس متعددًا، لا نسبية في الواقع، ولا نسبية في الإدراك، إلا إذا كانت الحقيقة ذات درجات ومراتب، لا بد أن نفهم هذا جيدًا.

الركيزة الثالثة: الفرق بين الدين الواقعي والدين الظاهري والدين التاريخي.

عندما نبحث هل أن الدين منشأ للصراع والحروب أم لا؟ لا بد أن نفكك بين الدين الواقعي والدين الظاهري، الدين الحقيقي والدين التاريخي، ما هو الفرق بين هذه الأمور؟ ربما يأتي إنسان فيقول: إن بعض الفقهاء من السنة كفر الشيعة، وإن بعض الفقهاء من الشيعة كفر أهل السنة، إذن الدين يحث على الحروب، يحث على الصراعات، لغة التكفير لغة تحث على الصراع والحروب، ربما يقول: إن بعض فقهاء المسلمين أفتى بحلية دماء الأديان الأخرى، إذن الدين الإسلامي منشأ للصراع والقتال.

هذا الكلام خطأ؛ لأن هذا خلط بين الدين الواقعي والدين الظاهري، فتوى الفقيه هي دين ظاهري وليست دينًا واقعيًا، الدين الواقعي هو الدين الذي نزل من السماء على قلب النبي محمد ، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، ما نزل على النبي هو الدين الواقعي، أما فهم الفقهاء للآيات، فهم الفقهاء للروايات، ليس هذا هو الدين الواقعي، هذا هو الدين الظاهري، أي: ما يظهر لهم من الدين، لا أنه هو الدين، ظهر للفقيه بحسب فهمه وتحليله أن الدين هكذا، ظهر للفقيه الآخر بحسب فهمه وتحليله أن الدين هكذا، هذا يسمى دينًا ظاهريًا وليس دينًا واقعيًا.

إذن، وجود فتوى عند بعض الفقهاء بكفر الشيعة، أو بكفر السنة، أو باستحلال دم غير المسلمين، هذه فتاوى وليست هي الدين، هذه فتاوى استظهرت من الدين وليست هي الدين، الدين ينقسم إلى نوعين: دين قطعي، وصل إلينا بأدلة قطعية، وبطرق متواترة، كأصول الدين، التوحيد، العدل، النبوة، المعاد، أو فروع الدين، كوجوب الصلاة والحج والصوم، هذا نسميه دينًا واقعيًا، لأنه وصل إلينا بأدلة قطعية وطرق متواترة، أما الفتاوى التي بنيت على أدلة ظنية فهذا ظاهر الدين وليس هو الدين، لا يجوز لنا أن نحاكم الدين على أساس بعض الفتاوى، نقول: والله الدين منشأ للصراعات؛ لأن بعض الفتاوى تحث على الصراع! هذه محاكمة للدين مبنية على بعض الفتاوى، وخلط بين الدين الواقعي والدين الظاهري.

هناك أيضًا خلط بين الدين الحقيقي والدين التاريخي، يأتيك شخص ويحتج لك بسيرة الصحابة، يقول لك: الصحابة قادة الدين، وقد قادوا الحروب، وحاربوا البشر، وسبوا النساء، وقتلوا الرجال، وفعلوا ما فعلوا... إلخ، هذا تاريخ للدين وليس هو الدين، لا نخلط بين الدين وبين تاريخ المسلمين، هناك فرق بين الإسلام وبين تاريخ المسلمين، لا تحاكم الإسلام على ضوء تاريخ المسلمين، هذا تاريخ المسلمين وليس هذا هو الإسلام.

أنا ليلة من الليالي سأتعرض لبحث خاص بالفتوحات الإسلامية، وسأثبت لك أن جميع الفتوحات الإسلامية التي حصلت بعد رحيل النبي لا صحة لها إلا ما كان بإشراف من الإمام أمير المؤمنين علي ، لا تحاكم الإسلام بتاريخ المسلمين، والله الصحابة هكذا فعلوا! قادة الإسلام بعد رسول الله هكذا فعلوا! هؤلاء يمثلون تاريخ المسلمين لا أنهم يمثلون الإسلام نفسه والدين نفسه، فلا يجوز الخلط بين الدين الحقيقي والدين التاريخي، لا يجوز الخلط بين الإسلام وتاريخ المسملين.

الركيزة الرابعة: مسألة القداسة.

هل نحن نؤمن بالقداسة أم لا؟ هل عندنا شيء مقدس أم لا؟ وهنا نتعرض إلى ثلاثة أمور:

الأمر الأول: معنى القداسة.

ما هي القداسة؟ حتى نعرف هل هناك قداسة أم ليس هناك قداسة لا بد من أن نعرف ما هي القداسة، لو قال لك شخص: عرّف لي القداسة، ما هي القداسة؟ القداسة هي عدم الخدش، المقدس هو الوجود الذي لا يقبل الخدش، لا تستطيع أن تخدش فيه، لا تستطيع أن تجرح فيه، نحن لا نقول لك: حرام عليك أن تجرح فيه، بل أنت لا تستطيع أصلًا أن تجرح فيه، المقدس هو الوجود الذي لا يمكن جرحه ولا يمكن خدشه.

مثلًا: العدل أصل مقدس، لا أحد يجرح في العدل، جميع البشرية بأديانها وبمذاهبها وبألوانها عندما تسألهم: ماذا تقولون في العدالة؟ يقولون: العدالة شيء مقدس، إذن هناك مقدس، العدالة مفهوم مقدس، الصدق مفهوم مقدس، الأمانة مفهوم مقدس، عندنا مفاهيم مقدسة كثيرة، فكيف تقول لا يوجد مقدس؟! كل مفهوم لا يمكن هدمه فهو مقدس، العدالة مفهوم مقدس، الأمانة مفهوم مقدس. الإنسان الحداثي يقول: كل إنسان له كرامة، هذا أصل مقدس أم لا؟ يقول لك: هذا أصل مقدس عندي، لا يقبل النقاش، كل إنسان له حرمة، كل إنسان له كرامة، هذا أصل مقدس لا يقبح الجرح والخدش، فهناك مقدسات.

الأمر الثاني: قداسة الله.

من هو المقدس؟ القرآن الكريم يقول: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، المقدس الحقيقي هو الله، نأتي إلى الله تبارك وتعالى، المقدس الحقيقي هو الله، بعد أن عرفنا معنى القداسة، وسلمنا بوجود مقدسات، نقول: المقدس الحقيقي هو الله، لأن الله هو الكمال المطلق، جميع ما في الكون منه تعالى.

هذا الكون الذي نعيش فيه مملوء بالكمالات، مملوء بالحياة، بالطاقة، بالقدرة، بالعلم، هذا الكون كله كمال، فمن أين اكتسب الكمال؟ هل الكون المحشور المملوء بالكمال من أين اكتسب الكمال؟ اكتسب الكمال من وجود هو الكمال المطلق، وذلك الوجود الذي هو الكمال المطلق هو المقدس، الله مقدس لأنه كمال، الله مقدس لأنه مصدر الكمال، والكمال لا يمكن هدمه، والكمال لا يمكن جرحه، والكمال لا يمكن خدشه، ولذلك نقول بأن الله مقدس، ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، وقال في آية أخرى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

الأمر الثالث: معيار القداسة الاكتسابية.

المقدس الحقيقي هو الله، والأشياء تكتسب القداسة من الله، بما أن المقدس هو الله فما ينتسب إلى الله يكتسب القداسة من الله، وتصبح له قداسة اكتسابية، فمثلًا: الدين الواقعي من الله، والله هو المقدس، إذن الدين الواقعي يكتسب القداسة من الله، قداسة الدين قداسة اكتسابية، وقداسة الله قداسة ذاتية. النبي، الإمام، كل هؤلاء لهم قداسة، لكن قداسة اكتسابية، لأنهم منتسبون إلى القدوس تبارك وتعالى، فلهم قداسة اكتسابية بلحاظ نسبتهم إلى الله، والقداسة الحقيقية لله.

أحيانًا حتى الجماد يمكن أن يكون مقدسًا، موسى عندما جاء يريد أن يعبر بحذائه على ذلك التراب، أتاه النداء: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وادي طوى لا زال موجودًا في سيناء، الجبل الذي كلم الله فيه موسى بن عمران لا زال موجودًا، والتربة المحيطة بهذا الجبل هي طوى الوادي المقدس، لماذا هذا الوادي مقدس؟ هو تراب عادي كأي تراب آخر، فما هي ميزته؟

لأن هذا المكان أفيض عليه نور من نور الله تبارك وتعالى، الله تبارك وتعالى أفاض النور على ذلك المكان، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، اكتسب التراب قداسة، لأن هذه الحبيبات من التراب تضمنت نورًا من نور الله، تحملت نورًا من نور الله، فأصبحت هذه الحبيبات من التراب ترابًا مقدسًا.

مقام إبراهيم مكان مقدس، القرآن الكريم يقول: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، ويقول القرآن: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، لأن هذا المكان وطأ عليه أبو الأنبياء، وبنى الكعبة المشرفة، فأصبح مكانًا مقدسًا.

وأيضًا من الجمادات المقدسة: تربة الحسين ، لماذا تربة الحسين مقدسة؟ نحن عندما نقول: تربة الحسين مقدسة، يظن بعض الإخوة من أهل السنة أننا نقول: الكعبة غير مقدسة، وتربة الرسول غير مقدسة! لا، هذا لا ينفي هذا، تربة الكعبة مقدسة، تربة ضمت جسم النبي مقدسة، تربة ضمت جسم أمير المؤمنين مقدسة، تربة الحسين أيضًا تربة مقدسة، لماذا تربة الحسين مقدسة؟ لأنها التربة التي تضمنت دمًا تدفق في سبيل المبادئ، ودمًا تدفق في سبيل القيم، تربة الحسين منذ زمان النبي وليست منذ زمان قتل الحسين.

اقرأ في مسند أحمد بن حنبل، في الصواعق المحرقة لابن حجر: نزل جبرئيل بتربة حمراء على رسول الله ، فقال: يا أخي جبرئيل، ما هذه التربة الحمراء التي نزلت بها؟ قال: هذه تربة كربلاء، هي التي يقتل فيها سبطك الحسين بن علي، أخذ التربة، قربها من فمه، صار يشمها كأنه يشم رائحة ولده الحسين، وسالت دموع الرسول على خديه وهو يشم تلك التربة الطاهرة الطيبة، ثم أودعها عند أم سلمة، قال: يا أم سلمة، خذي هذه التربة، ضعيها في قارورة، فإذا رأيتِ أن هذه التربة انقبلت دمًا عبيطًا فاعلمي أن ولدي الحسين قد ذبح على أرض كربلاء.