الدرس 27

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في أنه لو وجد أصل إلزامي إجمالي فهل يكون حاكما على الأصول الترخيصية أم تقع المعارضة بينهما؟. مثلاً: إذا علم أن أحد الإناءين كان نجسا قبل ساعة. وأنه وقع ماء على أحدهما فعلاً بحيث لو كان نجسا لكان قد طهر، فهنا يوجد أصل الزامي اجمالي وهو استصحاب نجاسة أحدهما. لأن قبل ساعة كان قبل ساعة كان أحدهما لا بعينه نجساً ونشك في بقاءه على نجاسته نتيجة طروء ماء فلأجل ذلك نستصحب نجاسة احدهما، وفي نفس الوقت في كل منهما بعينه مورد لاستصحاب الطهارة لأنه قبل حصول العلم بنجاسة احدهما اجمالا كان كل منهما طاهراً، فكل منهما في نفسه مورد لاستصحاب الطهارة، فهل يمكن القول: أن استصحاب نجاسة أحدهما قائم مقام العلم الإجمالي. فكما لو علم بنجاسة أحدهما لم يجر أصالة الطهارة فيهما فكذلك إذا جرى استصحاب نجاسة أحدهما فإنه رافع لموضوع أصالة الطهارة فيهما، فهل نقول بالتعارض ام نقول بتقديم استصحاب النجاسة على استصحاب الطهارة او أصالة الطهارة.

وقد ذكرنا: ان للتقديم وجوهاً.

الوجه الثاني: ما في كتاب «اضواء وآراء، ج3»: من ان السر في تقديم استصحاب النجاسة على استصحاب الطهارة في كليهما عدم احراز اطلاق دليل الاستصحاب للأصول الثلاثة، بيان ذلك: نحن لو دققنا لوجدنا أن لدينا يقينين تفصيليين بالطهارة. أي يقين بطهارة الف قبل ساعتين، ويقين بطهارة باء قبل ساعتين، فهنا يقينان تفصيلان بسبق الطهارة، ولدينا يقين بالنجاسة الاجمالية، اي لدينا يقين سابقا بنجاسة احدهما. فحينئذٍ اذا قمنا بالمقارنة بين اليقين الاجمالي واليقينين التفصيليين، نعلم ان اليقينين التفصيليين قد انتقض بهذا اليقين الاجمالي، فاليقين بنجاسة احدهما قبل ساعة نقض اليقين بطهارة كليهما، فمع الالتفات الى أن احد اليقينين التفصيليين قد تبخبر باليقين بالنجاسة، فلا نحرز اطلاق «لا تنقض اليقين بالشك» للثلاثة. بحيث يجري في الثلاثة، فإننا لا نحرز النقض في جميعها، بل في واحد منها حصل الانتقاض لا أنه نقض. إذ في واحد منها قد انتقض من اساسه لا ان عدم جريان الاستصحاب فيه نقض. فكيف يجري «لا تنقض اليقين بالشك» في الثلاثة معا.

فإن قلت: بانكم تجرون الاستصحاب في موارد العلم الاجمالي، فلو علمت بطهارة واحد منهما وكان كل منهما نجسا سابقا، فقبل ساعتين كان كلا منهما نجسا قبل ساعة علمت انه طهر احدهما لا اعلم اي منهما، فهنا: مع وجود علم اجمالي بالانتقاض يقولون يجري استصحاب النجاسة في كل منهما ونتيجة ذلك اجتنابهما، ولا عبرة بالعلم بطهارة أحدهما لا بعينه. فكيف جرى «لا تنقض اليقين بالشك» في فرض العلم الاجمالي بطهارة احدهما.

قلت: فرق، فان مصب الاستصحاب الفرد، ومصب العلم الاجمالي الجامع. ففي الاستصحاب يوجد استصحاب للطهارة في كل فرد، كما أن استصحاب النجاسة ليس جاريا في الجامع جاري في الفرد، اي هناك فرد معين واقعا طرأت عليه النجاسة قبل ساعة ونشك في ارتفاعها فنستصحب، فمجرى الاستصحاب هو الفرد، وبالتالي نحن نعلم أن أحد الفردين قد انتقض فيه اليقين بالطهارة. اما في فرض العلم الاجمالي كما لو كان كلاهما نجس، فحصل علم اجمالي ان احدهما طهر غايته ان العلم الاجمالي منصب على الجامع وهو عنوان الأحد الانتزاعي، وبالتالي لم يحصل لنا يقين بالانتقاض بالفرد نفسه كي يكون مانعا من جريان الاستصحاب في كليهما. وفيه:

أولا: بأن لازم ذلك أن يكون مورد الاستصحاب أشد شرعا من مورد العلم الاجمالي، فمثلاً: إذا علمت بطهارة واحد منهما بعد ان كانا نجسين، الآن انا اعلم بطهارة واحد منهما بالفعل بعد ان كانا نجسين، هنا لا عبرة في العلم الاجمالي فليجري استصحاب النجاسة في كليهما، وأما اذا علم قبل ساعة أن احدهما كان طاهرا ولكن طرأت نجاسة على أحدهما لعل هو الذي تنجز. هنا: يقول: لا يجري الاستصحاب في الاطراف الثلاثة، لانني اعلم بانتقاض اليقين التفصيلي بالنجاسة في احدهما باليقين الاجمالي بالطهارة. فصار مورد الشك في البقاء الشك شرعا من مورد العلم بفعلية الطهارة. فإنك في فرض العلم لوجود طاهر فعلا هذا لا يمنع من جريان استصحاب النجاسة في كل منهما، اما اذا لم تعلم بطهارة احدهما بالفعل وانما كان طاهراً فنستصحب طهارته، فإن هنا حيث ان مجرى الاستصحاب هو الفرد وليس الجامع إذاً بالنتيجة فقد علمت بانتقاض احد اليقينين التفصيليين بالنجاسة باليقين بالطهارة فلا يشمل دليل الاستصحاب الاصول الثلاثة، فإذا لم يكن يشمله صار وجود الاستصحاب مانعا من جريان الدليل بينما العلم الاجمالي نفسه ليس بمانع، وهذا خلافا للمرتكز.

وثانيا: بأن العلم بالفرد الواقعي لا يمنع من جريان الاصول بلحاظ العنوان الآخر. بيان ذلك:

اننا في هذا المثال: الذي نعلم فيه بان كليهما كان طاهرا ثم صار احدهما نجس، نعلم ان الفرد الواقعي الذي كان طاهرا اصبح نجسا، هذا نعلم به، الا ان هذا العلم لا يجري في لا يمنع من جريان الاصول اذا اختلفت في العنوان، حيث ذاك الفرد الواقعي ولعله باء، ذاك الفرد الواقعي بالعنوان الاجمالي مجرى لاستصحاب النجاسة. وبالعنوان التفصيلي مجرى لاستصحاب الطهارة، فذاك الفرد الواقعي الذي من بين هذين الفردين مجرى لاستصحابين مختلفين لاختلاف العنوان، فذاك الفرد الواقعي: إذا نظرنا اليه بالنظرة الأولى اجرينا فيه استصحاب النجاسة. إذا نظرنا اليه بالنظرة الثانية اجرينا فيه استصحاب الطهارة. فهو بنفسه مجرى لاستصحاب النجاسة بلحاظ العنوان الاجمالي. ومجرى لاستصحاب الطهارة بلحاظ العنوان التفصيلي، ولا مانع من ذلك. فإن مقتضى إطلاق دليل الاصل شموله لما اذا حصل يقين بالحدوث وشك بالبقاء، سواء كان مصب اليقين والشك عنوانا اجماليا تارة، وعنوانا تفصيليا اخرى وان كان مورد العنوانين معنونا واحداً، فهذا غير ضائر في الجريان ما دام منعقدا وهو «لا تنقض اليقين بالشك» بلحاظ عمومه الاستغراقي.

الوجه الأخير: أن ظاهر صحيحة زرارة «أني علمت أنه قد أصاب فلم أدري أين هو فارسله؟ قال: تغسل منه الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك». فيقال: إن الامام في الصحيحة اجرى الاستصحاب الاجمالي، لانه علم بنجاسة أحد طرفي الثوب، ولا يدري اي منهما. فلديه بالنجاسة قام وغسل الجانب الأيمن فلما غسل الجانب الايمن شك في بقاء النجاسة اذ لعلها انغسلت، الإمام قال: استصحب النجاسة، الإمام قال: «تغسل منه الناحية التي ترى أنه قد اصابها حتى تكون على يقين من طهارتك» يعني اغسل الجانب الثاني من هذه الناحية حتى يحصل يقين من هذه الطهارة. فأجرى استصحاب النجاسة. فاذا كان الامام اجرى استصحاب النجاسة في فرض سبق العلم الاجمالي بالنجاسة فإذاً يجري استصحاب النجاسة في فرض المعاصرة بين العلم بالنجاسة والشك في البقاء. يعني الآن في الساعة التاسعة علمت ان هذا الثوب في الساعة كان نجسا ولا ادري بقيت نجاسته ام لا؟ فإنه لا يحتل الخصوصية فيما اذا كان العلم سابقا زمانا فسواء كان العلم بنجاسة احدهما سابقا زمانا او كان العلم بنجاسة احدهما معاصرا زمانا للشك في البقاء على اية حال هو مجرى لاستصحاب النجاسة الاجمالية، فيشمل محل كلامنا.

ولكن، قد يقال: بأن قوله : «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد اصابها» لعل هذا من باب منجزية العلم الاجمالي لا من باب جريان الاستصحاب حتى يستدل به على محل كلامنا، فهو يقول: انت علمت اجمالا بنجاسة احد الطرفين ثم غسلت ناحية منهما، بعد ان غسلت صار العلم بالنجاسة، صار العلم بالنجاسة مرددا بين الفرد القصير والفرد الطويل، أن كان النجس ما غسل فانتفت، وان كان النجس في الجانب الآخر فهو باقي، فهناك علم بنجس مردد بين الفرد القصير الذي قضى نحبه والفرد الطويل يعني الباقي، فلعله من باب منجزية العلم الاجمالي قال الامام تغسل من ثوبك الناحية التي اصابها لا من باب استصحاب النجاسة حتى نتمسك به في المقام لاجراء الاصل الاجمالي الالزامي. فإذاً الاستدلال غير تام. لكن بعضهم قال: المورد من موارد الاستصحاب، والإمام اجرى الاستصحاب يعني ان الامام اجرى الاستصحاب في الشبهة العبائية، وهو خلاف القاعدة، فهو أولاً فسّر الرواية بالاستصحاب، وثانيا ادخلها في الشبهة العبائية، وثالثا: اعتبر اجراء الامام لها في الشبهة العبائية خلاف القواعد. لذلك: ندخل في تمثيل في الشبهة العبائية. إذا علمت بنجاسة أحد طرفي العباءة، فبعد ان علم بنجاسة احد الطرفين غسل طرفا منهما، ولا يدري النجاسة باقية ام لا؟.

ذهب المحقق النائيني والسيد الشهيد «قده»: الى ان الاستصحاب لا يجري في الشبهة العبائية لانه من قبيل الفرد المردد. لأنه دائر بين مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء، فليس هناك شك في البقاء، الموضع المتنجس إما باقٍ قطعا او منتف قطعا، لايوجد موضع يشك في بقاء النجاسة فيه. وذهب سيدنا الخوئي «قده» وشيخنا الاستاذ «قده»: الى جريان الاستصحاب في الشبهة العبائية، فقالوا المقتضي وهو بقاء دليل الاستصحاب موجود، بالنتيجة نحن نعلم بنجاسة احد الطرفين سابقا ونشك في ارتفاع هذا الاحد فنستصحب. فيتصور اليقين بالحدوث والشك في البقاء بالنسبة للجامع، نجاسة احدهما، والأثر مترتب لأن اثر استصحاب النجاسة انه لو مست اليد كلا الطرفين المغسول وغير المغسول، فغن اثر استصحاب احدهما الحكم بنجاسة الملاقي برطوبة مسرية فالمقتضي موجود ولا مانع حيث ان الاثر يترتب على ذلك.

ولكن قد يقال: بالمعارضة بين استصحاب العنوان - استصحاب نجاسة احدهما - واستصحاب طهارة الجانب غير المغسول، إذاً بالنتيجة: نقول: علمنا بنجاسة احد الطرفين فالأحد بما هو احد تيقنا بحدوثه ونشك في بقاء نجاسته نستصحب نجاسة الأحد، أصالة الطهارة في الجانب غير المغسول لا تعارضها اصالة الطهارة في الجانب غير المغسول لا تعارضها اصالة الطهارة في الجانب المغسول لأنه طاهر جزما، او استصحاب الطهارة في الجانب غير المغسول لا يعارضه استصحاب الطهارة في الجانب غير المغسول، إذاً يجري استصحاب الطهارة في الجانب غير المغسول بلا معارض، حيث إنه يجري بلا معارض يتعارض الاستصحابان: استصحاب نجاسة الاحد واستصحاب طهارة الجانب غير المغسول، لانهما يتمانعان في الاثر وهو الملاقي. فلو لاقت اليد كلا الطرفين: مقتضى استصحاب نجاسة الاحد نجاسة اليد، مقتضى استصحاب طهارة الجانب غير المغسول ان اليد لم تلاقي الا طاهرا، فالجانب المغسول طاهر قطعا، والجانب غير المغسول طاهر تبعداً. فحيث ان الاستصحابين يتعارضان من حيث الاثر فهما متعارضان. إذاً بالنتيجة: دعوى جريان الاستصحاب الاجمالي في الشبهة العبائية بحيث يتقدم على الاستصحاب الترخيصي في أحد الطرفين محل تأمل وإشكال. تم الكلام في بحث الاصل الاجمالي. ويأتي الكلام في منجزية العلم الاجمالي مع الاضطرار لأحد الطرفين.

والحمد لله رب العالمين.