فلسفة الحقوق في الإسلام

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في ثلاثة محاور:

  • في تعريف الحق.
  • وفي بيان فلسفة الحقوق.
  • وفي بيان المنشأ الإلزامي بالحق.
المحور الأول: تعريف الحق.

القرآن الكريم استعمل كلمة الحق بثلاثة معانٍ:

المعنى الأول: الحق بمعنى الصواب، يقول القرآن الكريم: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ يعني إلى الصواب ﴿أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى.

المعنى الثاني: أن المراد بالحق هو الشيء الثابت الذي لا يزول، قال تبارك وتعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ، الذات الإلهية شيء ثابت، وما سواه يزول ويضمحل، ولذلك ورد عن النبي محمد : أصدق كلمة قائلها شاعر كلمة لبيد، لبيد بن أبي ربيعة قال:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل   وكل   نعيم   لا   محال  زائل

المعنى الثالث: الميزة الاعتبارية، عندما يقال: لفلان حق في الأرض، يعني له ميزة اعتبارية، وهذا هو الذي نبحث عنه هذه الليلة، ما هو تعريف وتحديد الحق بالمعنى الثالث؟ القانوني البلجيكي دابان عرّف الحق، قال: الحق ميزة يمنحها القانون لفردٍ أو جهةٍ في مكانٍ أو عملٍ أو مالٍ بموجبها يستأثر بالتصرف، نشرح هذا التعريف القانوني الذي ذكره دابان، نضرب أمثلة يتضح من خلالها هذا التعريف القانوني للحق.

المثال الأول: مثال المكان.

عندنا في الإسلام حق السبق، أنت تأتي إلى مكان، سوق مفتوحة، تسبق إلى مكان وتجعل بضاعتك في ذلك المكان، إذا سبقت إلى مكان في السوق ووضعت بضاعتك فيه صار لك حق في المكان، أي أن لك ميزة قانونية في هذا المكان، ليس لأحد أن يزاحمك، أنت سبقت إلى المكان، ورد عن النبي : ”من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلمٌ فهو أحق به“، إذن صار لك ميزة قانونية في المكان بموجبها تستأثر بالتصرف، أنت أولى بالتصرف من غيرك.

المثال الثاني: مثال العمل.

الطفل ابن السنتين، الطفل منذ ولادته إلى أن يبلغ سنتين، من هو أحق بحضانته: أبوه أم أمه؟ افترض أن الأب طلق الأم، وهذا طفل وليد، منذ ولادته إلى سنتين من هو الأحق بحضانته؟ الأحق بحضانته الأم، إذن هذه ميزة قانونية أعطاه القانون للأم في عمل، وهو الحضانة لمدة سنتين، لها أن تتصرف بشؤون الطفل في هاتين السنتين.

المثال الثالث: مثال المال.

الإسلام يرى أن للزوجة حق النفقة على الزوج، حتى لو كانت الزوجة ثرية، زوجتك ملياردير، وأنت رجل راتبك محدود، نفقة زوجتك عليك أم عليها؟ عليك أنت، للزوجة حق النفقة على الزوج، أن يهيئ لها مسكنها اللائق بها، ومطعمها ومشربها وزينتها ولباسها، على أي حال الزوجة لها حق النفقة على الزوج، إذن الزوجة لها ميزة قانونية في أموال الزواج.

عرفنا أن الحق ميزة يهبها القانون لفرد أو جهة في مكان أو عمل أو مال. الحقوق تنقسم إلى حقوق فردية، كحق النفقة للزوجة، وحقوق سياسية، كحق الانتخاب، حق الترشيح، حق التصويت، وحقوق مدنية، كحق التعليم، حق الصحة، حق أن يعطى المواطن فرصة للكسب والعمل، حق أن يمارس طقوسه الدينية بدون قيد ولا شرط، هذه حقوقية مدنية لكل مواطن.

هذا التعريف الذي يضعه دابان للحق، ما معنى الحق؟ ميزة يمنحها القانون لفرد أو جهة في مكان أو عمل أو مال. نأتي إلى الإسلام: هل يقبل هذا التعريف، أم لا؟ بحسب القانون الإسلامي، هذا التعريف فيه ملاحظتان:

الملاحظة الأولى: لا ملازمة بين ثبوت الحق وثبوت صلاحية التصرف.

هذا التعريف أقحم السلطنة في تعريف الحق، قال: الحق هو ميزة بموجبها يستأثر بالتصرف، ما معنى الاستئثار بالتصرف؟ يعني صاحب الحق له سلطة، له صلاحية في أن يتصرف، لأنه صاحب حق. نحن نقول: لا، قد يثبت الحق ولا تكون معه سلطة، الحق لا يتضمن السلطة دائمًا، لا يتضمن دائمًا صلاحية التصرف، ربما يقول القانون هكذا: إذا ثبت الحق ثبتت صلاحية التصرف، لكن الديني الإسلامي يقول: لا، قد يثبت الحق ولا تثبت صلاحية التصرف.

مثلًا: الطفل له حقوق، لكنه لا يستطيع التصرف فيها؛ لأنه ليس رشيدًا ولا بالغًا، الطفل يرث من أبيه حقوقًا، يموت أبوه، والطفل يرث أباه، ويرث الحقوق التي كانت لأبيه، لكن هذا الطفل مع أن له حقوقًا ورثها من أبيه، ليس له سلطة على التصرف فيها، ما لم يكن بالغًا رشيدًا، فمثلًا: الأب له حقوق في البنك، له حقوق في بعض الأراضي، هذه الحقوق تنتقل إلى ولده الطفل، لكن ليس له صلاحية التصرف فيها، إذن الحق لا يعني دائمًا السلطنة وصلاحية التصرف.

الملاحظة الثانية: القانون لا يمنح الحقوق.

تعبير دابان قال: الحق ميزة يمنحها القانون، هل القانون هو الذي يمنح الحق، أم أن الحق يحكم به العقل قبل القانون؟ هذه مسألة قانونية، هل القانون دوره إعطاء الحق، أم القانون دوره حماية الحق؟ القانون لا يعطي حقوقًا، القانون يحمي القانون ويدافع عنها، إذن الحقوق من أين تأتي إذا كان القانون لا يعطيها؟ الحق يأتي بحكم العقل العملي، العقل يحكم بالحقوق، والقانون يحمي تلك الحقوق التي حكم بها العقل وأقرّ بها، كيف؟

الحق يتجسد إما بعلة فاعلية، أو بعلة غائية، فمثلًا: نحن عندنا قانون في الإسلام: من أحيا أرضًا مواتًا فهي له، تأتي إلى أرض خارج البلد، لا يملكها أحد، أرض غير مملوكة، تأتي أنت وتحييها، يعني تزرعها أو تبنيها، إذا أحييتها ببناء أو زراعة ملكتها، لما ورد عن النبي محمد : ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“، لماذا صار لك هنا حق في الأرض؟

نتيجة فعلك، علة فاعلية، لأنك قمت بجهد وفعل في الأرض ثبت لك نتيجة جهدك ونتيجة فعلك، ثبتت لك في الأرض أن لك حقًا فيها، هذا لا يحتاج إلى قانون، هذا العقل يقرره، يقول: بما أنك بذلت جهدًا في الأرض إذن لك حق في الأرض، هذا العقل يحكم به، لا القانون، القانون يحمي الحق، أما الذي يحكم بالحق فهو العقل.

أو علة غائية، مثلًا: الجنين إذا خرج من بطن أمه بشكل تلقائي يتكون غذاؤه في ثدي أمه، غذاؤه الله يعده في ثدي أمه، هناك مادة غذائية ضرورية لهذا الجنين في ثدي أمه، عندما نأتي ونقول: الغاية والهدف من هذه المادة اللبنية في ثدي الأم، الغاية منها غذاء الطفل، بما أن الغاية من المادة اللبنية غذاء الطفل، إذن للطفل حق في هذا الغذاء، هذا لا يحتاج أن يقوله القانون، العقل يقول: بما أن الهدف من وجود المادة اللبنية في ثدي الأم تغذية الطفل، إذن للطفل حق في هذه المادة، هذا العقل يحكم به، القانون دوره حماية الحقوق فقط، وإلا فالحقوق هي بحكم العقل.

إذن، التحديد الذي ذكره دابان للحقوق تحديد ناقص، التحديد الإسلامي لماهية الحق أن الحق أولوية تتضمن عنصرين: مصلحة ومسؤولية، فمثلًا: نحن نقول: للزوجة حق النفقة على الزوج، أي أن الزوجة لها أولوية في أموال الزوج، الزوجة أكثر من الأولاد، قد يتصور الإنسان أن أولاده أحق بأمواله! لا، الزوجة أحق بأموالك من أولادك، شرعًا هكذا، يجب على الأب أن ينفق على أولاده، لكنه يستطيع أن ينفق عليهم من أموالهم، إذا كانت عنده أموال لأولاده فإنه يستطيع أن ينفق على أولاده من أموالهم فيما هو صالح لهم، لكن الزوجة لا تنفق عليها من أموالها، يجب أن يكون من أموالك.

لو أن الإنسان قصّر، صار لا يعطي أولاده نفقة إلى أن مات، هل تؤخذ نفقة الأولاد من تركته؟ هو مات الآن، لم يعط أولاده نفقة عشرين سنة، هل تؤخذ نفقة الأولاد لمدة عشرين سنة من تركة الأب؟ لا، الأب عاص، ارتكب معصية يتحمل مسؤوليتها أمام الله، لكن لا تخرج النفقة من تركة الأب، لكن بالنسبة للزوجة تخرج، لو ترك الزوج الزوجة بدون نفقة، وامتنع عن النفقة عشرين سنة، ثم مات، قبل أن يوزَّع الميراث تخرج نفقة الزوجة من تركته، نفقة الزوجة دينٌ على الزوج في أمواله، الشارع يتشدد في نفقة الزوجة أكثر من تشدده في نفقة الأولاد، الأولاد تستطيع أن تنفق عليهم من أموالهم، وإذا مت لا تؤخذ نفقتهم من أموالك، لكن الزوجة تؤخذ نفقتها من تركة زوجها.

إذن، عندما نقول: للزوجة حق النفقة في أموال الزوجة، هذه الكلمة ماذا تعني؟ تعني أمرين: الأمر الأول: أن للزوجة مصلحة، حيث إن هذا الحق لصالحها، والأمر الثاني: أن على الزوج مسؤولية، وهي مسؤولية أداء النفقة، كل حق يتضمن مصلحة لذي الحق، ومسؤولية على من له الحق، فالحق أولوية تتضمن عنصرين: مصلحة ومسؤولية، مصلحة لطرف، ومسؤولية على طرف آخر.

المحور الثاني: لماذا حكم العقل بالحقوق؟

ما هي فلسفة جعل الحقوق؟ فلسفة جعل الحقوق هي فلسفة العدالة، العدالة هي الحقوق، ما هي العدالة؟ العدالة إعطاء كل ذي حق حقه، الظلم سلب ذي الحق حقه، فلسفة الحقوق هي فلسفة العدالة، لأن العدالة هي عبارة عن إعطاء كل ذي حق حقه، فما هي فلسفة العدالة؟

فلسفة العدالة تكمن في استقرار النظام، النظام الاجتماعي لا يستقر بدون عدالة، إذا لم تكن هنالك عدالة فإن النظام الاجتماعي يعيش اختلالًا، يعيش ضياعًا، لا يمكن استقرار النظام واستقرار الحياة إلا مع العدالة، لأنه لولا العدالة، لولا لغة القانون، لسادت لغة الامتيازات، بعض الدول تسير على الامتيازات، هذا ابن فلان فله امتياز، الامتياز بالقبيلة، الامتياز بالحزب، الامتياز بالموقع الاجتماعي، الدولة التي لا تسودها لغة القانون تسودها لغة الامتيازات، تحكمها الامتيازات، هذا له ميزة قبلية فيقدّم، هذا له ميزة حزبية فيقدّم، هذا له ميزة عسكرية فيقدّم، وإذا سادت لغة الامتيازات أصبح المجتمع فوضى.

إذن، لا يمكن استقرار النظام الاجتماعي إلا إذا سادت لغة القانون، ولا تسود لغة القانون إلا بتطبيق العدالة، إذن الفلسفة من العدالة هي أن نصل إلى استقرار الحياة، استقرار النظام الاجتماعي الذي يتوقف على سيادة لغة القانون، ولذلك ترى القرآن الكريم يؤكد على هذه الناحية، يقول القرآن الكريم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، الله يحب استقرار النظام، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، إذن لا بد من استقرار النظام، وذلك بتطبيق العدالة.

المحور الثالث: ما هو الملزم القانوني بالحقوق؟

حتى نتعرف على الملزم القانوني بالحقوق، أول لائحة لحقوق الإنسان سنة 1948، عصبة الأمم أصدرت لائحة حقوق الإنسان، وما زالت هذه اللائحة معمولًا بها معتمدًا عليها، ثم في سنة 1981 صدرت لائحة حقوق الإنسان في الإسلام، في اليونيسكو لكن من قبل منظمة الدول الإسلامية، ما هو الفرق بين اللائحتين؟ حتى نتعرف على الفرق بين اللائحتين أتحدث عن هذه النقطة: ما هو الملزم للحق بنظر العقل؟ نأتي الآن، يأتيك شخص ويقول لك: أنا أدري أن هناك حقوقًا، لكن ما هو الملزم لي في أن أتبع الحقوق؟! ما هو الذي يلزمني أن أفعّل الحقوق وأطبّق الحقوق؟ ما هو الملزم؟ هنا نظريتان:

النظرية الأولى: نظرية روسو.

يقول: العقد الاجتماعي، العقد الاجتماعي هو الملزم لك بتطبيق الحقوق، أنت الآن تعيش في مجتمع، تعيش مثلًا في مجتمع بريطاني، هذا المجتمع البريطاني له عقد اجتماعي بين الدولة والمواطن، أن على المواطن واجبات وعلى الدولة واجبات، على كل منهما مسؤولية تجاه الآخر، هناك عملية تبادل، هناك عقد اجتماعي بين السلطة وبين المواطن، على كل من الطرفين حقوق ولكل من الطرفين حقوق، نتيجة هذا العقد الاجتماعي بين السلطة وبين المواطن صار العقد الاجتماعي هو الملزم لك بتطبيق الحقوق، لا تستطيع أنت أن تفر من الحقوق، تقول: والله أنا لست ملزمًا، ولا أستطيع أن أطبقها! العقد الاجتماعي يلزمك بتطبيق الحقوق.

صندوق الاقتراع هو عبارة عن عقد اجتماعي، أنت عندما تأتي إلى صندوق الانتخاب وتنتخب أعضاء البرلمان، هذا الانتخاب هو عبارة عن عقد، تقول: انتخبت الحزب الفلاني لكي يقوم بتأدية حقوقي وأقوم بتأدية حقوقه، صندوق الاقتراع هو عبارة عن عقد اجتماعي، إذن بين السلطة والمواطن عقد، وهذا العقد هو الملزم بتطبيق الحقوق.

النظرية الأخرى: النظرية الإسلامية.

هذه النظرية المطروحة، لكن في القانون الإسلامي توجد نظرية أخرى، الملزم لتطبيق الحقوق ليس هو العقد، افترض أن العقد ليس موجودًا، افترض أن هناك دولة مستبدة ليس فيها قانون ولا صندوق اقتراع، يعني الحقوق لا ملزم بها؟! الملزم العقلي بتطبيق الحقوق أسبق درجة من العقد الاجتماعي، وجد عقد أو لم يوجد عقد، هناك شيء قبل العقد الاجتماعي هو الذي يلزمنا بتطبيق الحقوق، وهو حكم العقل بالكرامة الإنسانية، الكرامة الإنسانية تقتضي تطبيق الحقوق وتفعيلها.

نرجع إلى الذي ذكرناه في المحور الأول، قلنا: القانون لا يعطيك الحقوق، القانون يحمي الحقوق لا أنه يعطي الحقوق، دور القانون حماية الحق لا إعطاء الحق، إذن من الذي يعطي الحق؟ العقل قبل القانون، قبل أن يوجد قانون وقبل أن يوجد عقد اجتماعي وقبل أن يوجد صندوق اقتراع، هناك حكم للعقل بضرورة الحق، فالحق ضرورة حكم بها العقل قبل وجود العقد الاجتماعي، وهذا ما نسميه بالكرامة، كيف؟

لكل إنسان كرامة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا، لكل إنسان كرامة، ما هو معنى الكرامة؟ الكرامة تعني الحقوق، لكل إنسان كرامة يعني لكل إنسان مجموعة من الحقوق تنسجم مع إنسانيته، تنسجم مع آدميته، هذا شيء يحكم به العقل، قبل العقد الاجتماعي، وقبل صندوق الاقتراع، العقل يقول: لكل إنسان كرامة تنسجم مع إنسانيته، وهذه الكرامة عبارة عن مجموعة من الحقوق.

الملزم في نظر القانون الإسلامي غير الملزم في نظر القانون الآخر، ولذلك ترى لائحة الحقوق في الإسلام غير لائحة حقوق الإنسان، لائحة حقوق الإنسان نصّت على أن لكل إنسان حق الجنسية، لكل إنسان أن تكون له جنسية، هوية، لكل إنسان حق أن يؤسّس نقابة، هذه حقوق سياسية، لا علاقة لنا بها، نحن نأتي إلى الفارق الأساسي بين لائحة حقوق الإنسان ولائحة حقوق الإنسان في الإسلام.

لأن القانون الإسلامي يركز على الكرامة، منطلق الحقوق كرامة الإسلام، منطلق الحقوق الكرامة البشرية، إذن لا بد من توسعة الحقوق بمقدار ما تتسع به الكرامة الإنسانية، فمثلًا: أي دولة أنت تعيش فيها، هل من قانونها أن الإنسان لا يغتاب؟! هل يوجد في القانون أن من حقك ألا يغتابك أحد؟! من حقك ألا يسيء الظن بك أحد، هل هذا موجود في القانون؟! ليس موجودًا في القانون، لكنه موجود في القانون الإسلامي، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، هذا حق لك، الإسلام يقول: هذا من حقك، ليست المسألة مسألة شيء راجح، بل حق، من حقوق الإنسان ألا يساء الظن به، من حقوق الإنسان ألا يغتابه أحد، لماذا؟ لأن القانون الإسلامي يركز على الكرامة البشرية، ومقتضى الكرامة البشرية ألا يغتابك أحد ولا يساء الظن بك.

نأتي إلى حق آخر: الميت صار جسدًا، الروح انطلقت إلى عالم آخر، أصبح ميتًا، هل حقوق الميت كحقوق الحي في القانون؟! لا، لكن في الإسلام نعم، حقوق الميت كحقوق الحي، فقد ورد عن النبي محمد : ”إن حرمة المؤمن ميتًا كحرمته حيًا“، ليس من حق الورثة.. يأتي شخص من الورثة ويقول: ليس عندنا أموال، فلنحرق جسد الميت! ليس من حق الورثة هذا، للميت حق أن يغسّل، أن يكفن، أن يجلل، أن يكرّم.

أعظم من هذا، أضرب لك مثالًا شرعيًا: لو جاء إنسان واعتدى على جسد الميت، قطع إصبعًا، قطع يدًا، فقأ عينًا، ديته لمن؟ هذا تصرف في جسد الميت، قطع إصبعًا، الإصبع له دية، دية الإصبع لمن؟ للميت، تصرف على شؤون الميت، تصرف لصالح الميت، لم؟ لأن حرمة المؤمن ميتًا كحرمته حيًا، هذه حقوقه هو.

إذن، دقة القانون الإسلامي في مجال الحقوق أكثر سعة ومساحة مما طرحته لائحة حقوق الإنسان؛ لأن القانون الإسلامي يركز على ما ينسجم مع كرامة الإنسان، فبمقدار ما تتسع له كرامة الإنسان تتسع الحقوق، من حقه ألا يغتاب، من حقه ألا يساء الظن به، من حق جسده أن يجهّز، من حقه ألا يعتدى على جسده، وهكذا.

أنت اقرأ رسالة الحقوق للإمام زين العابدين، سعة الحقوق التي يذكرها، حق الجار، حق الأرض، حق الزمن، هل رأيت في لائحة الحقوق حق الزمن وحق الأرض وحق الجار؟! استيعاب حقوق عديدة بما ينسجم مع كرامة الإنسان، ولأجل أن الإنسان له كرامة حيًا وميتًا، هذا الجسد يحافظ عليه، هذا الجسد يعتنى به، هذا الجسد يغسّل، يكفّن، يصلّى عليه، يعطى أهمية، إلى أن يوارى في الثرى، وهذا قانون إسلامي، مشى عليه المسلمون جيلًا بعد جيل، لكن بني أمية اخترمت هذا القانون، ضربت بهذا القانون عرض الحائط، لا بلحاظ إنسان عادي، بل بلحاظ آل بيت رسول الله، يعني ضربت القانون فيمن هم مصدر القانون.