فلسفة العبادة وآثارها

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في محاور ثلاثة:

في تحديد حقيقة العبادة.

وفي فطرية العبادة.

وفي الآثار المعنوية المترتبة على العبادة.

المحور الأول: تحديد حقيقة العبادة.

ما هي حقيقة العبادة؟ إذا راجعنا ما يذكره علماؤنا في تعريف حقيقة العبادة، هناك عدة نظريات وعدة آراء في تحديد حقيقة العبادة.

النظرية الأولى: ما ذكره السيد الطباطبائي قدس سره.

العبادة هي إظهار المملوكية. الإنسان حقيقته أنه ملك لله تبارك وتعالى، فبما أن حقيقة الإنسان أنه ملك لله، فإذا أظهر هذه المملوكية من خلال لسانه، من خلال سلوكه، فإن إظهار المملوكية لله هو العبادة، العبادة إظهار المملوكية، الإقرار بأنني ملك صرف لله تبارك وتعالى، كما هو مدلول الآية المباركة: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

النظرية الثانية: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره.

لعبادة هي التأله، العبادة هي أن تتوجه بداعي التأله، يعني بداعي أن من تتوجه إليه خالق، أحيانًا الإنسان يتوجه إلى شخص لأنه أبوه، يتوجه إلى شخص لأنه أستاذه، يتوجه إلى شخص لأنه محبوبه، وأحيانًا يتوجه إلى موجود لأنه إلهه، لأنه خالقه، العبادة هي التأله، يعني التوجه بداعي الألوهية والخالقية.

النظرية الثالثة: ما يذكره عدة من علماء العرفان.

العبادة هي الخضوع التذللي، خضوع الإنسان خضوعًا تذلليًا، لا خضوعًا عن إكراه، ولا خضوعًا عن تملق، ولا خضوعًا عن طمع، الخضوع له دوافع متعددة، قد يكون بدافع الإكراه، قد يكون بدافع الطمع، قد يكون بدافع التملق، قد يكون بدافع التذلل والانكسار، الخضوع التذللي هو العبادة.

النظرية الرابعة: الخضوع بداعي التنزيه عن النقص.

جميع هذه النظريات لم تسلط الضوء على جوهر العبادة وكنه العبادة، ليست العبادة هي مجرد إظهار المملوكية، وليست العبادة مجرد التأله، ولا مطلق الخضوع التذللي، إذن ما هي العبادة؟ حتى نفهم معنى العبادة لا بد أن نعرف أقسام الخضوع، خضوع الإنسان لغيره على ثلاثة أقسام.

النوع الأول: الخضوع بداعي استصغار النفس، أنا أخضع لك لأنني أستصغر نفسي أمامك، لأنني أحتقر ذاتي أمامك، الخضوع الممزوج باستصغار النفس واحتقار الذات، هذا الخضوع يسمى تواضعًا، هذا ليس عبادة، التواضع هو الخضوع مع استصغار النفس واحتقار الذات.

النوع الثاني: الخضوع بدافع تكريم الغير، أنا أخضع لك بغرض تكريمك، بغرض إجلالك واحترامك، هذا الخضوع أيضًا ليس عبادة، هذا الخضوع يسمى تعظيمًا وليس عبادة، أخضع لك لأجل أن أحترمك أمام الناس، هذا تعظيم وليس عبادة، نظير الخضوع للوالدين، كما يقول القرآن الكريم: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.

النوع الثالث: الخضوع بداعي التنزيه عن النقص، أخضع لهذا الموجود بدافع تنزيهه عن كل نقص، أنا ما خضعت له لأجل احترامه، ولا خضعت له لأجل أن أحتقر نفسي، بل خضعت له لأنه منزه عن كل نقص، خضعت له لأنه هو الكمال المطلق، خضعت له لأنه نبع الكمال وعين الكمال، هذا هو العبادة، العبادة نوعٌ من الخضوع، وهو الخضوع بدافع التنزيه من النقص.

ولذلك يقول علماء العرفان: بين العبادة والتوحيد ملازمة، لا تكون عبادة بلا توحيد، لأن العبادة هي التنزيه عن النقص، وبما أن المنزه عن النقص واحد وليس متعددًا، وإلا جميع الموجودات يشوبها نقص، لا يوجد موجود إلا وهو محدود، كل موجود محدود، والحد نقص، لا يوجد مخلوق لا يشوبه النقص، بما أن العبادة هي التنزيه عن النقص، والمنزه عن النقص واحد، من كان واحدًا في ذاته، واحدًا في صفاته، واحدًا في أفعاله، فالتنزيه عن النقص يعني التوحيد، إذن العبادة تساوي التوحيد، لا يوجد تفكيك بين العبادة والتوحيد، العبادة هي التنزيه عن النقص، والتنزيه عن النقص يعني الكمال المطلق، وبما أن الكمال المطلق واحد، وغيره مستمد منه، مأخوذ منه، إذن بالنتيجة العبادة تساوي التوحيد.

لذلك الآية المباركة قالت: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ يعني موحدين، لا تجتمع العبادة مع الشرك، لا تجتمع العبادة مع التعدد، العبادة تعني التوحيد. إذن، عندما نسأل: ما هو تعريف العبادة؟ العبادة فيها عدة نظريات: إظهار المملوكية، التأله، الخضوع التذللي، لكن أقوى النظريات أن العبادة هي التنزيه عن النقص المساوي للتوحيد، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر.

المحور الثاني: فطرية العبادة.

هل العبادة نزعة طارئة على الإنسان، أم هي نزعة متأصلة في الإنسان؟ هل العبادة شيء طارئ على الإنسان دعا لها الأنبياء والرسل، أم أن العبادة شيء متأصل في فطرة الإنسان وطبيعته؟ الآن نحن نثبت لك أن العبادة ليست شيئًا عارضًا، لا داعي لأن يأمر الأنبياء بالعبادة، أصلًا العبادة شيء متأصل في الإنسان، الأنبياء أكدوا على هذا الشيء المتأصل في طبيعة الإنسان، كيف؟ حتى نفهم أن العبادة عنصر أصيل فطري في شخصية الإنسان نذكر ثلاثة عناصر تتعلق بفطرية العبادة.

العنصر الأول: نزعة التحرر.

ماكس مولير باحث جيولوجي ومؤرخ أيضًا، يقول: الاكتشافات الجيولوجية للإنسان، فلنرجع إلى تاريخ الإنسان، تاريخ الإنسان قبل ستة آلاف سنة مثلًا، فلنرجع إلى هذه المكتشفات، لم يمر تاريخ على الإنسان إلا وهو يعبد الله، لم تمر فترة على الإنسان إلا وهو يمارس نوعًا من العبادة ولونًا من العبادة، هذا يعني أن العبادة هي غريزة من غرائز الإنسان، الإنسان له عدة غرائز، غريزة حب الحياة، كل إنسان يحب أن يبقى، يحب أن يعيش، حب الحياة غريزة ذاتية للإنسان.

الغريزة الثانية حب الجمال، كل إنسان يحب الجمال سواء كان جمالًا صوريًا أو جمالًا معنويًا، جمالًا خَلقيًا أو جمالًا خُلقيًا. الغريزة الثالثة غريزة الفضول واكتشاف المجهول، كل إنسان يحب أن يكتشف الأشياء الغامضة، الأشياء المجهولة.

الغريزة الرابعة هي العبادة، العبادة غريزة، لم يمر زمن على الإنسان إلا وهو يعيش غريزة العبادة، كما يعيش غرائزه الأخرى، غريزة حب الذات، غريزة حب الجمال، غريزة اكتشاف المجهول، أيضًا يعيش غريزة العبادة، لماذا العبادة غريزة في الإنسان؟

نأتي إلى ويليام جيمس في قصة الحضارة، يقول: الإنسان عنده غريزة، وهي نزعة التحرر، ما معنى نزعة التحرر؟ الإنسان بطبعه يريد أن يتحرر من القيود، لا يحب القيود، الإنسان بطبعه وبفطرته يرغب ألا يقيّد، يرغب أن يتمرد على القيود، يرغب أن ينال الحرية المطلقة، هذه غريزة من غرائز الإنسان، وهي نزعة التحرر من القيود، كيف يصل الإنسان إلى التحرر من القيود؟ بالعبادة، كيف؟

الإنسان محدود، كلما تأمل في نفسه وجده محدودًا، أنا محدود في قوتي، أنا محدود في تفكيري، أنا محدود في جسمي، أنا محدود في زمني، في مكاني، أينما أتوجه أرى الحدود تغمرني من كل مكان، الإنسان يجد نفسه محدودًا من كل مكان، يشوبه الحد والنقص من كل جهة، إذن كيف أنطلق من هذه الحدود كلها؟ هنا تأتي العبادة، العبادة اتصال المحدود باللامحدود، أنا عندما أتصل باللامحدود أستقي منه القوة والمدد والنشاط، أريد أن أتخلص من الحدود التي عندي، أتخلص من حد الضعف باستقاء القوة، أتخلص من حد الجهل باستقاء العلم، أتخلص من حد الخمول باستقاء النشاط، أتخلص من حد الموت باستقاء الحياة، العبادة اتصال المحدود باللامحدود من أجل التحرر من الحدود والقيود.

إذن، العبادة غريزة متأصلة في الإنسان، من الغرائز الفطرية المتأصلة في الإنسان النزعة نحو التحرر، وهذه النزعة تقود إلى العبادة، هناك وجود مطلق يهبك القوة والقدرة والعلم، فاتصل به، اتصال المحدود باللامحدود انطلاق من نزعة التحرر، وهو الممثل لحقيقة العبادة.

من هنا، لاحظوا كلمة أمير المؤمنين علي ، تعبر عن هذا المعنى بدقة: ”إن قومًا عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قومًا عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار“، هذا الإنسان حر، العابد حر، لأن العبادة حرية، نزعة التحرر هي العبادة، وهذا هو العنصر الأول من عناصر فطرية العبادة.

العنصر الثاني: عنصر العشق.

يوجد فرق بين الحب والعشق، الحب يختلف عن العشق، الحب موجود في كل الحيوانات، كل الحيوانات تحب بعضها، لكن العشق صفة خاصة بالإنسان لا توجد في الحيوان، لماذا؟ الحب هو الميل، ميل الإنسان لآخر، هذا الميل القلبي هو الذي يعبر عنه بالحب، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، الحب هو الميل، هذه النزعة المسماة بالحب موجودة في جميع الحيوانات، لكن هناك نزعة تختص بالإنسان بما هو إنسان، وتسمى العشق، العشق هو التوحد والامتداد.

من أين أتت هذه الكلمة؟ هناك شجر يسمى العَشَق، نوع من الشجر في اللغة العربية اسمه العَشَق، ما هي خصوصية هذا الشجر؟ هذا الشجر إذا كبر يمتد، فيأكل الأشجار الأخرى، نوع من الأشجار إذا كبر تمتد عروقه وأغصانه، بحيث يلتف بالأشجار الأخرى ويحيط بها، هذا يسمى العشق، تعشّق الشجر إذا امتد والتف بالأشجار الأخرى، ومن هنا جاءت كلمة العشق.

العشق أن يميل الإنسان نحو شخص آخر إلى حد أن يستولي عليه، إلى حد الاستيلاء، إلى حد السيطرة، إذا بلغ حبك لشخص، كأن يحب الإنسان زوجته أو أستاذه أو أباه أو أمه، إذا بلغ الحب إلى درجة أن يمتد قلبك إليه ويلتف به، فلا تفكر إلا فيه، لا تفكر في غيره أبدًا، استولى حبه عليك بحيث لا تفكر إلا فيه، صار عندك نوع من الامتداد والتوحد فيه، هذه الحالة تسمى حالة العشق، وهذه الحالة خاصة بالإنسان، لا تحدث لغيره من الحيوانات.

ابن سينا - هذا الفيلسوف العظيم - عنده رسالة خاصة في العشق، أيضًا صدر المتألهين الشيرازي في كتابه الأسفار، في فصل الإلهيات 60 صفحة تتحدث عن نزعة العشق عند الإنسان، العشق هو حالة من الامتداد والتوحد، أعشقك يعني لا أفكر إلا فيك، أهيم بك دون غيرك.

بعد أن نعرف الفرق بين الحب والعشق، العبادة من أي نوع؟ العبادة من العشق وليست من الحب، كيف؟ لأننا ذكرنا في العنصر الأول أن العبادة نزعة التحرر، يعني العبادة تعني الذوبان، أن أذوب وأفنى في هذا الموجود اللامحدود وألتف به دون غيره، نزعة التحرر تقودني إلى الذوبان في الله، نزعة التحرر تقودني إلى الفناء في الله، نزعة التحرر تقودني إلى أن أهيم به دون غيره، العبادة نوع من العشق وليست نوعًا من الحب.

ولذلك ترى العبّاد... دخل رسول الله على أهل الصفّة، ورأى شابًا قد نحف جسمه وغارت عيناه، قال: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت موقنًا، قال: إنّ لكل يقين حقيقة فما هي حقيقة يقينك؟ قال: يا رسول الله، إنّ يقيني هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت عن الدنيا وما فيها، وكأني أنظر إلى عرش ربي. أنا وصلت إلى هذه الحالة، حالة الهيام، لا أرى إلا عرش ربي. قال الرسول : ”هذا عبدٌ نوّر الله قلبَه بالإيمان“، هذا وصل إلى حقيقة العبادة، وصل إلى كنه العبادة، مثّل أن العبادة عشق، وليست العبادة مجرد حب.

العنصر الثالث: القيمة الخلقية.

قد يتصور الإنسان أن العبادة شيء والأخلاق شيء آخر! لا، الأخلاق هي عبادة، والعبادة هي قيمة خلقية، لا تفكيك بينهما أبدًا، لماذا؟ إذا كان عندك مفهومان، وتريد أن تعرف أن هذين المفهومين متغايران أم متحدان، كيف تعرف أنهما متغايران أم متحدان؟ ترجع إلى أصلهما، هل أصلهما واحد أم متعدد؟ حتى نعرف أن العبادة والخلق شيئان أم شيء واحد، نرجع إلى الأصل، ما هو أصل العبادة؟ ما هو أصل الخلق؟ نرى أن أصلهما واحد.

بيّنّا في العنصر الأول أن العبادة الأولى نزعة للتحرر، الإنسان إذا أراد أن يتحرر يعبد اللامحدود، العبادة هي اتصال المحدود باللامحدود من أجل أن يتحرر من الحدود، إذن العبادة أصلها نزعة التحرر، أيضًا الأخلاق أصلها نزعة التحرر، كيف؟ أنت عندما تقدم على التواضع، الإيثار، الإحسان، الإنصاف، كل هذه الصفات ما هو أصلها؟ التحرر من الأنانية، لأن الإنسان الأناني لا يتواضع لغيره، لا ينصف غيره، لا يؤثر غيره، لا يحسن إلى غيره، لا يمكن أن يكون الإنسان متسمًا بالأخلاق العالية، لا يمكن أن يكون الإنسان متحليًا بالقيم، قيمة التواضع، قيمة الإحسان، قيمة الإيثار، قيمة الإنصاف، إلا إذا تحرر من كلمة أنا.

ما دام الإنسان يحوم حول كلمة أنا لن يتواضع للآخر، ما دام يحوم حول كلمة أنا لن يؤثر غيره على نفسه، إذن الأخلاق تعني التحرر من الأنا، تعني تجاوز الأنانية والتحلي بروح الغيرية، ومن هنا صار أصل العبادة وأصل الأخلاق شيئًا واحدًا، المنطلق للعبادة هو نزعة التحرر، المنطلق للقيم الخلقية هو التحرر من الأنا، فبما أن أصلهما واحد لذلك القيمة الخلقية عبادة، والعبادة أيضًا قيمة خلقية، العبادة والخلق شيء واحد.

من أجل ذلك، القرآن الكريم عندما يتحدث عن الدين يقول: الدين شيء فطري، ليس شيئًا تكتسبه أنت، الدين فيك، لا تحتاج إلى أن تكتسبه، الدين متأصل في شخصيتك، لا تحتاج إلى أن تكتسبه، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، كيف الدين فطري؟ لأن الدين هو الخلق، والخلق فطري، لأن الدين هو العبادة، والعبادة نزعة فطرية.

المحور الثالث: الآثار المعنوية المترتبة على العبادة.

ما هي الآثار المترتبة على العبادة؟

الأثر الأول: الأثر العرفاني.

ما هو الأثر العرفاني؟ هو الانجذاب نحو معدن القدس، كيف؟ أنت تقرأ في المناجاة الشعبانية: ”اللهم هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة“، الوصول إلى معدن العظمة هو الانجذاب، هو الأثر العرفاني للعبادة، ”فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك“. الانجذاب نحو معدن العظمة أثر عرفاني للعبادة، كيف نفهم هذا المعنى؟ كيف نستوعبه؟

نرجع إلى ما يذكره الشيخ الرئيس ابن سينا في رسالته في العشق، يقول: العارف له غايتان في العبادة: حسن المعبود، وحسن العبادة، أنا لماذا أعبد؟ من أجل أن أحصل على حسنيين: حسن المعبود وحسن العبادة، هذان طرفان يشكّلان مسألة الانجذاب، يشكلان الأثر العرفاني. حسن المعبود: لو لم أدرك حسنه لما عبدته، لو لم أدرك جماله لما عبدته، جماله وحسنه هو الذي جذبني إليه، يقول أمير المؤمنين : ”ما عبدتك خوفًا من نارك“، أنت لست سلطانًا حتى أعبدك مكرهًا، ”ولا طمعًا في جنتك“، أنا لا أتعامل معك معاملة تجارية حتى أقول لك: أعطيك عبادة فتعطيني جنة! لا، ”ولكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك“، وجدتك كمالًا مطلقًا، حسنًا مطلقًا، جمالًا صرفًا، فرأيتك أنت الحقيق الوحيد بالعبادة.

النبي الأعظم محمد يعبد الله ثلثي الليل، ثلثا الليل هو يصلي ويعبد الله، تقول له بعض زوجاته: إلى متى تعبد الله ثلثي الليل؟! ألم يقل لك ربك: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا؟! قال: ”أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!“، أنا أدركت جمال خالقي، وهو كونه منعمًا، فالأثر العرفاني للعبادة أن تنجذب إلى الله فلا تفكر في غيره، أن تنجذب إلى الله فتنشغل عن الدنيا وزهوها، أن تنجذب إلى الله فلا تفكر إلا في رضا الله، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين: ”ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله، بعده، فوقه، تحته، فيه“، هذا الأثر الأول للعبادة، الأثر العرفاني.

الأثر الثاني: الأثر السلوكي.

العبادة طريق إلى التوبة، كل إنسان منا يحتاج إلى التوبة، ﴿تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، التوبة كيف نصل إليها؟ كيف نصل إلى التوبة؟ أنا إنسان أسرفت في الذنوب، أسرفت في المعاصي، أفرطت في الرذائل، أريد طهارة، أريد نظافة، أريد ما يغسل قلبي من درن الذنوب ودنس المعاصي، كيف أصل إلى درجة التوبة؟ الوصول إلى التوبة عن طريق العبادة، العبادة تقودك إلى التوبة، كيف تقودني العبادة إلى التوبة؟

الإمام أمير المؤمنين علي يجسّد الآية المباركة: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، الصلاة تقود إلى التوبة النصوح، أمير المؤمنين يشرح لنا كيف نستعين بالصلاة لأجل الوصول إلى التوبة، فيقول: ”وأذق بدنك ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية“، كما كان للمعصية لذة على جسدك، لذة في قلبك، لذة في جوانحك، حتى تصل إلى التوبة النصوح أذق بدنك ألم الطاعة، صل، اذكر الله، أكثر من الصلاة والذكر والعبادة، حتى تذوق ألم الطاعة كما ذقت لذة المعصية، ومن تذوق ألم الطاعة وصل إلى التوبة، ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.

ولذلك ورد في الحديث القدسي: ”أنين المذنبين أحب إليّ من تسبيح المسبّحين“، هؤلاء المذنبون الذين يسهرون الليل يبكون ويندبون ذنوبهم وأنفسهم، هذا الأنين النابع من القلب، المشفوع بالتوبة الخالصة، أحبّ إليّ من تسبيح المسبحين.

الأثر الثالث: الأثر التربوي.

العبادة تخلق توازنًا، فلنرجع إلى الآية المباركة التي قرأناها: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ، مخلصين يعني التوحيد، لكن ما هو معنى حنفاء؟ الحنف يقابل الجنف، هذان ضدان، الحنف يعني التوازن، الجنف يعني الميل عن الخط، إذا كان الإنسان مفرِّطًا أو مفرِطًا يقال: عنده جنف، أما إذا كان الإنسان متوازنًا بلا إفراط ولا تفريط يقال: عنده حنف، هذا الحنيف هو الذي يعيش إنسانًا متوازنًا، كيف تخلق العبادة عندك توازنًا؟

كل إنسان بطبيعته يخاف، لا يوجد إنسان يقول: أنا لا أخاف! الخوف شيء غريزي في الإنسان، القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، طبيعة الخوف موجودة عند الإنسان، يخاف من المرض، يخاف من الموت، يخاف من كوارث الطبيعة، يخاف من أن ينكسر في الحياة، يخاف من المجهول، كل إنسان يعيش عقدة الخوف وغريزة الخوف، وهذه الغريزة تجعل الإنسان غير متوازن، تجعل الإنسان مضطربًا، إما أن يفرط به الخوف، وإما أن يتهور، يعيش نوعًا من الاضطراب والتوتر والقلق نتيجة استحكام غريزة الخوف عنده.

لا يمكن للإنسان أن يحصل على التوازن، بحيث يصبح حنيفًا لا تستبد به غريزة الخوف، إلا عن طريق العبادة، العبادة تزرع فيه الحنف والتوازن، لأن العبادة تزرع في قلبك الاطمئنان، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وهذا هو نداء المؤمنين: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، إذن العبادة تخلق عندك التوازن.

الأثر الأخير: الأثر الاجتماعي.

العبادة ليست علاقة مع الله منفصلة عن العلاقة مع الناس، ولذلك علماء العرفان يقسّمون العبادة إلى أسفار أربعة: السفر من الخلق إلى الحق، والسفر في الحق بالحق، والسفر من الحق إلى الخلق، والسفر في الخلق بالحق، هي عملية متمازجة، لا يمكن أن ينفصل سفرك إلى الله عن سفرك إلى الناس، سفران متمازجان، السفر إلى الحق والسفر إلى الخلق، العبادة لا تنفصل عن أثرها الاجتماعي، كيف؟

أمير المؤمنين علي يمزج سفرين في حركة واحدة، يحقق سفرين في حركة واحدة، سفرًا إلى الحق وسفرًا إلى الخلق، يتصدق وهو راكع، القرآن الكريم يشير إلى هذين السفرين: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، كيف ينشغل الإمام علي عن الله بالصدقة؟! لا، هذا من عظمة علي أن يمزج بين سفرين في آن واحد، سفر نحو الحق وسفر نحو الخلق في حركة واحدة ولحظة واحدة، ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.

إذن، العبادة لا تنفصل، المحراب لا ينفصل عن المجتمع، هما متمازجان، هما حركة واحدة. الإمام الحسن الزكي يقول: ”ما رأيت أعبد من أمي فاطمة!“، الإمام الحسن عاش مع جده رسول الله، مع أبيه أمير المؤمنين، يقول: ”ما رأيت أعبد من أمي فاطمة؛ كانت إذا قامت في محرابها لا تنفتل حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربها“، هذا سفر إلى الحق، ”وما رأيتها دعت إلى نفسها قط، وإنما تدعو للمؤمنين والمؤمنات“، هذا سفر في الخلق، ”أقول لها: أماه، لم لا تدعين لنفسك؟ تقول: بني حسن، الجار ثم الدار“.

العبادة لا تنفك عن المجتمع، الأثر الاجتماعي للعبادة لا بد أن يكون جليًا ظاهرًا، ولذلك زين العابدين سيد الساجدين - الذي نحتفل بذكرى شهادته هذه الليلة - يمثل لنا أرقى درجات العبادة، وأروع آثار العبادة، زين العابدين الذي كان تسقط من جبهته كل سنة سبع ثفنات من طول السجود، حتى كان يقلب بذي الثفنات، وكان من كثرة العبادة نحيف الجسم، إذا مرّت الريح أمالته، زين العابدين هذا العابد العظيم الذي يقول لابنه الإمام الباقر: بني محمد، ناولني صحيفة أعمال جدي أمير المؤمنين «لأن الأئمة يقتدون بعلي، علي هو الباب، علي هو القدوة»، يقول الإمام الباقر: فأناولها إياه فيبكي ويبكي وتذرف دموعه على خديه ويقول: من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين؟!

يقول طاووس اليماني: دخلت الكعبة بعد السحر قبل الفجر، فسمعت أنينًا حول الكعبة، جئت إلى مصدر هذه الأنين أسمعه، وإذا هو يقول: ”إلهي، غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون عبادك، وأبوابك مفتحة للسائلين. إلهي، جئتك لتغفر لي ذنبي، وترحمني، وتريني وجه جدي رسول الله في عرصات القيامة“، يقول: تعجبت، من هذا؟! تأملته وإذا هو علي بن الحسين زين العابدين، قلت: سيدي، أنت تقول هكذا، وأنت ابن بنت رسول الله؟! قال: ”يا طاووس، دع عنك حديث أبي وجدي؛ إن الله خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدًا قرشيًا“.

هذا الإمام زين العابدين يمثل لنا العلاقة الوثيقة بين العبادة وبين الحركة الاجتماعية، كان يحمل جراب الطعام على ظهره، ويدور به على فقراء المدينة بيتًا بيتًا، بنفسه لا بشخص آخر، يقول ابن شهاب الزهري: رأيت زين العابدين ليلة من الليالي المطيرة وهو يحمل شيئًا على ظهره، قلت: سيدي، إلى أين؟ قال: إلى سفر أعددت له زادًا. في اليوم الثاني، رأيته في المسجد، قلت: يا بن الحسين، سألتك البارحة، قلت إلى سفر ولم تسافر؟ قال: ”ليس السفر كما ظننت؛ إنه سفر الآخرة، وزاد السفر إلى الآخرة الورع عن محارم الله، وبذل الندى في الخير“، أنا عندي سفر إلى الآخرة، هذا الإمام يدور على الفقراء حتى قال الفقراء: ما فقدنا صدقة السر حتى مات زين العابدين.