الدرس 41

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن السيد الشهيد «قده» أفاد: بأنه لا يتصور في الترك أن يكون ترك اختياري، وترك غير اختياري، بلحاظ عالم المبغوضية. ولأجل ذلك فإن العلم الاجمالي يكون منجزاً بلحاظ روح التكليف. وإن كان منحلاً حقيقةً بلحاظ نفس التكليف.

ويلاحظ على ما افيد المناقشة في المبنى والبناء:

اما المناقشة المبنائية: إن روح التكليف ليست هي عبارة عن المحبوبية والمبغوضية، بل روح التكليف عبارة عن الإرادة والكراهة.

والمقصود بالارادة والكراهة: كون الفعل أو الترك متعلقاً للغرض اللزومي حيث لا يرضى المولى بالفعل أو لا يرضى بالترك، فمجرد كون الفعل محبوباً ليس روحاً للتكليف، فقد يحب الانسان بطبعه ما لا يقدر عليه، وقد يبغض بطبعه ما لا يقدر على فعله، فمجرد المحبوبية والمبغوضية ليست هي روح التكليف وإنما روح التكليف: المحبوبية والبمغوضية بنحو يؤدي إلى ادانة العبد وتسجيل الفعل على ذمته كما ذكره هو «قده» في بحث الواجب المشروط، في «بحوث في علم الاصول، ج2، ص192». لا مجرد المحبوبية والمبغوضية، بل المحبوبية والمبغضوية بحد الإرادة والكراهة، اي بحد عدم رضى المولى بالترك أو عدم رضاه بالفعل، ومن الواضح ان المحبوبية والمبغوضية بهذه الدرجة فعل اختياري للمولى وليس مجرد صفة نفسانية، فإذا كان فعلاً اختيارياً للمولى فإن ما يتصور في فرض القدرة لا مطلقاً، فلا يتحقق من المولى إرادة للفعل غير المقدور، ولا كراهة للفعل غير المقدور.

فالنتيجة: لو كانت روح التكليف هي مجرد المحبوبية والمبغوضية لحصل علم اجمالي بأنه: إما مبغوضية أكل اللحم الذي بيده أو مبغوضية اكل لحم السلطان، فهو يعلم اجمالاً بمبغضوية فعلية، ولكن إذا كان روح التكليف هو عبارة ارادة بنحو لا يرضى بالترك أو لا يرضى بالفعل فليس لديه علم اجمالي بإرادة الترك اما باللحم الذي بيده أو باللحم الذي بيد السلطان باعتبار ان اللحم الذي بيد السلطان مما لا يقدر على تناوله.

ولو سلمنا المبنى وقلنا: ان روح التكليف هي مجرد المحبوبية والمبغوضية ولو كانت صفة نفسانية كأن يحب الإنسان ان يصعد على سطح القمر مع انه لا يقدر على ذلك، أو يبغض الانسان ان يركب على رأس الشيطان مع انه لا يقدر على ذلك، فاذا قلنا بأن روح التكليف مطلق المحبوبية والمبغوضية كما يظهر من كلامه هنا «قده» فحينئذٍ ما أفيد من أن القدرة لا تكون دخيلة في ملاك الحرمة وإنما تكون دخيلة في ملاك الوجوب محل منع، بيان ذلك:

في بعض الموارد يتصور دخل القدرة في ملاك المبغوضة كما يتصور دخلها في ملاك المحبوبية. مثلا: حبس مال الغير أو غصب مال الغير قد يقال: بأن المفسدة ليست قائمة بمطلق الحبس، أي متى ما حبس مال الغير عنه فإن الحبس ذو مفسدة، بل المفسدة قائمة بالحبس العدواني، والحبس العدواني إنما يتصور في فرض السلطنة على الفعل والترك، فاذا كان ذا سلطنة على الفعل والترك فرجّح الفعل على الترك كان حبسه عدوانياً فكان ذا مفسدة، وإما لو حبس مال الغير بإكراه أو بدون اختيار بحيث لا يكون الحبس عدوانياً فليس ذا مفسدة. والنتيجة: اصل اتصاف الحبس بالمفسدة واصل اتصاف الحبس بالمبغوضية منوط بالقدرة على الفعل والترك، اي السلطنة على الطرفين، وهذا متصور عقلاً وعرفاً، فلاجل ذلك نقول: من ترك حبس مال الغير لأنه غير قادر على الحبس أصلاً فهذا الترك وان حقق غرض المولى لان غرض المولى ان يبتعد عن الحبس وقد تحقق غرضه ولو بالعجز عن الحبس، الا ان تحقق غرض المولى بالعجز عن الحبس لا يعني ان موطن مبغوضيته في مطلق الحبس وطبيعي الحبس، بل موطن مبغوضيته بالحبس العدواني، بحيث لو تحقق منه حبس لا اختياري لم يكن مبغوضاً، إذا كما في باب الوجوب يتصور الامران: اي يتصور كون الملاك غير مشروط في القدرة كما في دفن الميت، فإن دفن الميت ذو مصلحة قدرت عليه أو عجزت، ويتصور دخل القدرة في الملاك، فيقال: الصوم المقدور ذو ملاك، واما الصوم غير المقدور فليس ذا ملاك اصلاً في نفسه.

كذلك في باب الحرمة يتصور دخل القدرة في الملاك وعدم دخلها، بأن نقول: قتل النفس ذو مفسدة قدرت أم لم تقدر، لكن حبس مال الغير إنما يكون مبغوضاً وذا مفسدة إذا كان حبساً عدوانياً مقدورا على فعله وتركه، فلأجل ذلك نقول: إذا علم إجمالاً بوجود حرام وكان هذا الحرام من قبيل ما تكون القدرة دخيلة في اصل الملاك والمبغوضية فليس لديه علم اجمالي بمبغوضية فعلية مع فرض خروج احد الطرفين عن قدرته.

كما لو افترضنا ان لحم الميتة انما يكون ذا مفسدة إذا كان مقدوراً، فهو يعلم اما بميتة اللحم الذي بين يده أو اللحم الموجود بين يدي السلطان. فاذا كان يعلم اجمالا بانه اما اللحم الذي بين يديه ميتة أو اللحم الذي بين يدي السلطان، وهو لا يقدر على تناوله ولا الوصول اليه، اذن هو لا يقدر على مبغوضية فعلية على كل حال، إذ لو كانت الميتة هي ما بين يد السلطان فهو غير مقدورة له والقدرة دخيلة في اصل الاتصاف والمبغوضية.

فتلخص من ذلك: أن المدعى هو ما ذهب اليه مشهور الاصوليين، من أنه في فرض خروج احد طرفي العلم الاجمالي عن القدرة فإن العلم الاجمالي منحل حقيقية بلحاظ التكليف وبلحاظ روح التكليف خلافاً للسيد الذي قال: العلم الاجمالي منحل حقيقة بلحاظ التكليف لكن غير منحل بلحاظ روح التكليف.

المطلب الثاني الذي افاده «قده»: لكنه منحل حكماً «العلم الاجمالي منحل حكما».

وبيان ذلك ببيانين:

البيان الاول: صحيح ان المكلف يعلم اجمالاً اما بمبغوضية اكل اللحم الذي بين يديه أو مبغوضية اكل اللحم الذي بين يدي السلطان، ولكن هذه المبغوضية وان كان فعلية غير قابلة للتنجيز. لأنها جامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز.

وبيان ذلك:

انه ان كانت الميتة هي اللحم الذي بين يديه فالمبغوضية قابلة للتمييز، واما إذا كانت الميتة اللحم الذي بين يدي السلطان فهي غير قابلة للتنجيز لعدم القدرة.

وأشكل عليه بعض تلامذته في كتاب «مباحث الاصول، ج4، ص213»: بأنه إذا فرض الملاك فعلي والمبغوضية فعلية فهي قابلة للتنجيز. ولكن ما يذهب اليه السيد «قده» غير ذلك. بيانه:

أن التنجيز حكم عقلي، وموضوع هذا الحكم العقل دائما حسن العدل وقبح الظلم، بمعنى ان التنجيز من صغريات حكم العقل بحسن العقل وقبح الظلم، فمعنى كون الفعل منجز ليس كون هو كونه مبغوضاً بل معنى كون الفعل منجزاً حكم العقل بلزوم الفعل أداءً لحق المولوية، فإن الفعل حينئذٍ عدل لأن فيه اداء لحق المولوية، والعدل لازم، وفي تركه قبح، فإن في تركه تضييعاً لحق المولى وهو ظلم، والظلم قبيح، فمعنى التنجيز: هو حكم العقل بضرورة العلم لكونه عدلا، وقبح تركه لكونه ظلماً. ومن الواضح ان محيط الحسن والقبح انما هو الفعل الاختياري ولا يشمل غير المقدور، فلو فرضنا ان المكلف غير قادر من الاصل، فلا يحكم العقل بأن صدور الفعل منه قبيح، هو غير قادر عليه فكيف يقال بأن صدور الفعل منك قبيح؟!.

إذاً بما ان التنجيز قضية تنجيزية لا قضية تعليقية. اي بعبارة اخرى: ليس التنجيز هو ان يقول العقل: على فرض انك ارتكبت الفعل عن اختيار منك كنت مستحقاً للعقوب. هذا معنى التنجيز، فلو كان هذا هو التنجيز لصدق حتى في غير المقدور، لأنها قضية شرطية، والقضية الشرطية صادقة وان لم يصدق شرطها، فيقال: حتى للصعود على سطح القمر أو الوصول إلى المريخ مثلا: ان قدرت على صعود المريخ كنت مستحقا للعقوبة اذن حرمة صعود المريخ منجز في حقك، هذا مما لا معنى له، بل التنجيز قضية تنجيزية،

بأن يقول العقل بالفعل يجب عليك العلم لكونه عدل ويقبح منك الترك لكونه ظلم. أو يقول: يقبح منك الفعل لكونه ظلما، وهذه القضية التنيجيزية لا تتأتى الا بكون الفعل مقدور الفعل والترك.

فتبين بذلك: صحة ما ذكره السيد الشهيد «قده»: من أن مجرد العلم بالمبغوضية _أن أعلم أن اللحم مبغوض هذا لا يعني انه منجز اي ان العقل يحكم بقبح العمل على كل حال_، بل الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز ليس منجزاً. هذا هو البيان الاول وهو تام.

البيان الثاني: على مسلك الاقتضاء من ان منجزية العلم الاجمالي فرع تعارض الاصول، ليست الاصول هنا متعارضة، فإن المكلف إذا علم اجمالاً إما بأن اللحم الذي بين يديه ميتة أو اللحم الذي بين يدي السلطان، فحينئذٍ يقول: اصالة البراءة عن حرمة اكل اللحم الذي بين يديه جارية بلا معارضة، لانه لا وجه لجريان اصالة البراءة عن حرمة الذي بين يدي السلطان، لان مفاد جريان البراءة نفي وجوب الاحتياط، ووجوب الاحتياط وجوب طريقي، الغرض منه حفظ غرض المولى، وبما أن غرض المولى منحفظ لأنك لا تقدر على الوصول إلى اللحم الذي بين يدي السلطان، فاذا قال المولى يجب عليك الاحتياط بترك لحم السلطان، لكان هذا الوجوب مستهجناً، لأنك تارك بسبب عجزك، فإذا كان وضع وجوب الاحتياط في غير المقدور لغواً فرفعه أيضاً لغو، ما لا يمكن فيه وضعه لا يمكن فيه رفعه، فحيث ان المولى لا يمكنه ان يقول: احتط من جهة اللحم الذي بين يدي السلطان، لأنك عاجز عنه، إذا لا معنى لأن يقول: اجر البراءة عن حرمته، بمعنى رفع وجوب الاحتياط، فأصالة البراءة لا تجري في اللحم الذي بين يدي السلطان اذن تجري في اللحم الذي بين يدي المكلف بلا معارض، فالعلم الاجمالي: إن لم يكن منحلاً حقيقةً فهو منحل حكماً.

البيان الاول ناظر لمسلك العلية، والبيان الثاني ناظر لمسلك الاقتضاء.

الصورة الثانية: أن يكون أحد طرفي العلم الإجمالي غير مقدور عادة، لا أنه غير مقدور عقلاً، فالمقصود بذلك أنه إذا علم المكلف بأحد طرفين أحدهما مما يشق عليه، لا أنه مما لا يمكن الوصول اليه، حيث قلنا فيما سبق ان الصور ثلاث:

الصورة الاولى: ان يعلم اما بنجاسة ثوبه أو ثوب السلطان. وفي هذه الصورة يكون احد الطرفين مما لا يمكن الابتلاء به.

الصورة الثانية: ان يكون خارجا عن محل ابتلاءه بمعنى انه يشق عليه تناوله. كما إذا علم بنجاسة ثوبه أو نجاسة ثوب جاره، مثلاً.

الصورة الثالثة: ان يكون احد الطرفين مما لا داعي له لارتكابه وان كان مقدورا عقلا وعادة كأن يعلم بنجاسة ثوبه أو ثوب زوجته، فانه لا داعي له للبس ثوب زوجته لأن أنه غير مقدور له. فالكلام في الصورة الثانية.

وقد افاد المحقق النائيني والمحقق العراقي: أن التكليف مستهجن في فرض عدم القدرة العادية، وإن كانت هناك قدرة عقلية.

فنبدأ بكلام المحقق العراقي: فقد افاد المحقق العراقي في «نهاية الافكار» قال: إذا كان الفعل غير مقدور عادة لم يصح التكليف فيه لا بعثاً ولا زجراً الا معلقاً على القدرة. مثلاً لو قيل للفقير لا تتزوج بنت السلطان، فإن هذا مستهجن، كأن يقال تزوج بنت السلطان، كما ان بعثه مستهجن زجره ايضاً مستهجن، لانه اساساً تارك للزواج من بنت السلطان، فبما انه من طبعه تارك للتزوج من بنت السلطان لأنه مما يشق عليه عادة فبعثه وزجره عن هذا الفعل مستهجن.

إلا أن يقول: فإذا قال: ان قدرت على تزوج بنت السلطان فلا تتزوج أو فتزوج كان صحيحاً، والا بدون التعليق على القدرة فهو مستهجن، قال: بل في بعض الموارد يكون التكليف مستهجناً حتى مع التعليق على القدرة، كأن يقال للغبي: ان صرت مجتهدا قادرا على استنباط الاحكام، فعليك بالاحتياط في الفتوى، فإن هذا التكليف مستهجناً، فإن الغبي وان كان قادرا عقلا على ان يكون مجتهدا الا انه حرج عليه ومشقة.

فالشاهد: إذا كان غبيا فإن يقال له: ان صرت مجتهداً فعليك الاحتياط في الفتوى، هذا التكليف مستهجن حتى مع التعليق على القدر.

إذاً ففي الموارد التي يشق ارتكاب الفعل يكون التكليف مستهجناً، فاذا كان احد الطرفين مما يشق بأن علمت اجمالا أما بنجاسة هذا الثوب أو ثوب الجار، ولو كانت النجاسة في ثوب الجار لكان التكليف باجتنابه مستهجناً، إذا فليس عندي علم إجمالي بتكليف فعلي. إذ على فرض أن النجاسة في الثوب الذي بين يدي فالتكليف صحيح، واما على فرض ان النجاسة في الثوب الذي بين يدي الجار فالتكليف مستهجن.

والحمد لله رب العالمين.