الدرس 45

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا أن كلام صاحب الكفاية «قده» من أن شمول التكليف لما هو خارج عن محل الابتلاء مستهجن، صار موضعا للإيراد من قبل الأعلام كالإيراد الأول ما ذكره السيد الامام من الفرق بين الخطابات الشخصية والخطابات القانونية بالاستهجان في الخطابات الشخصية دون القانونية.

وقلنا بأن في كلامه عدة ملاحظات:

الملاحظة الرابعة: أن المسألة لا تبتني على الانحلال الذي يقول به الاعلام، والسر في ذلك: أن هناك فرقاً بين انحلال الخطاب وانحلال الحكم والتكليف، والمسألة تبتي على انحلال الخطاب لا على انحلال الحكم بمعنى، أننا إذا قلنا ان خطاب «يحرم على المسلم شرب الخمر» ينحل هذا الخطاب إلى خطابات عديدة بعدد افراد المسلمين، فحينئذٍ يأتي الإشكال وهو: أن انحلال خطاب في حق العاجز أو الغافل أو من لا يبتلي بالخمر يكون مستهجناً.

وأما إذا لم نقل بالانحلال، أي انحلال الخطاب، أي ان هذا الخطاب وهو «يحرم على المسلم شرب الخمر» لا ينحل إلى خطابات عديدة بل هو خطاب واحد عرفا، فبناء على ذلك لا استهجان لشمول هذا الخطاب لأمثال هذه الحالات نظير على من لا يبتلي بشرب الخمر.

فالمسألة تبتني على انحلال الخطاب، لكن لم يقل أحدٌ بانحلال الخطاب، أي من يدعي الاستهجان ومن لا يدعي لا يقولون بانحلال الخطاب، وإنما الذي يقول به الاعلام كمدرسة المحقق النائيني «قده»: يقولون بانحلال الحكم ولا يقولون بانحلال الخطاب، أي ان قوله «يحرم شرب الخمر على المسلم» ينحل إلى حرمات عديدة بعدد خطابات المسلمين، فالخطاب واحد والانشاء واحد ولكن المجعول في هذا الخطاب وهو الحرمة هو الذي ينحل اعتباراً إلى حرامات عديدة بعدد الأفراد لا أن الخطاب ينحل. وهذا النوع من الانحلال لا يقود إلى الاستهجان، لأنه ليس انحلالا في الخطاب كي يقال بأن هناك خطابا في حق الغافل وخطابا في حق من لا يبتلي وهو مستهجن، وإنما المدعى ان لا خطاب في حقهما، لكن الحرمة تنحل لأفراد بعدد أفراد المكلفين. وهذا مما لا يوجب الاستهجان ما دام الخطاب مطلقا ولم يتفرع منه خطابات في هذه الحالات.

ملخص الاشكال: ان ما تبتني عليه المسألة من الاستهجان وعدمه، وهو انحلال الخطاب وعدم انحلاله لا يقول به أحد من الأعلام، وما يقول به الاعلاك كمدرسة النائيني لا تبتني عليه المسالة، لأن القول بانحلال الحكم والمجعول لبّاً واعتباراً لا علاقة له في الخطاب، فيبقى الخطاب على وحدته واطلاقه وهو بذلك غير مستهجن.

الملاحظة الخامسة: اننا لو سلمنا مع السيد «قده» أن الخطاب كقوله «يحرم شرب الخمر، أو يجب الصوم» يشمل بإطلاقه من لا يبتلي بشرب الخمر، والجاهل بالحكم، لكنه لا يشمل العكس، كما اصر عليه «قده» وانكر الترتب في مرحلة الفعلية بناء عليه فإن الخطاب لا يشمل العاجز وغير القادر سواء كان عاجزا عن الامتثال أو كان عاجزا عن المعصية بأن كان الامتثال في حقه امرا مفروغا انه فهذا الخطاب لا يشمل العاجز، والسر في ذلك: اما ان يرجع إلى نكتة عقلائية أو يرجع إلى نكتة نقلية؟

اما النكتة العقلائية فما ذهب اليه المحقق النائيني وتبعه السيد الشهيد والسيد الاستاذ «دام ظله»: من أن حقيقة التكليف هي تختص بفرض القدرة لا محالة، لأن التكليف بنظر العقلائي هو الانشاء بداعي جعل الداعي، الإنشاء المحرّك الإنشاء الباعث، فما لم يتصف الخطاب بكونه محرّكاً بالإمكان أو داعيا بالإمكان أو باعثاً بالإمكان فليس بتكليف لدى العقلاء، فحقيقة التكليف مستبطنة للجعل بداعي قدح الداعي لنفس المكلف، بداعي تحريك المكلف، ومن الواضح حيث انه لا يعقل جعل الداعي نحو غير المقدور ولا يعقل المحركية نحو غير المقدور فالخطاب في نفسه قاصر عن الشمول لفرض العجز لأن هذا الخطاب تكليف عند العقلاء والتكليف يختص بالمقدور، فالتقييد في المتعلق وليس في الموضوع، أي عندما يقول يجب على المسلم الصوم، فكأنه قال: يجب على المسلم الصوم المقدور، ويحرم على المسلم شرب الخمر المقدور.

إذاً فالخطاب لا إطلاقه له بما يشمل فرض العجز، إذا المتعلق لهذا الخطاب في حدِّ ذاته مختص بالمقدور.

فعلى هذا الاساس لا يقال: بأن الخطاب غير ناظر للحالات، حالات المكلفين من عجز وعفلة وابتلاء وجهل وعلم، فإن عدم النظر إلى التفاصيل شيء وان الخطاب من اوله مصداق من مصاديق التكليف لا يشمل غير المقدور شيء آخر.

وأما النكتة النقلية: فلو سلمنا مع السيد «قده» ان الخطاب في حدِّ ذاته مطلق، يشمل العاجز والقادر، ولكن بعد ان وردت النصوص، كقوله: «رفع عن امتي ما اضطروا اليه» وقوله تعالى: «ما جعل عليكم في الدين من حرج» وقوله: «ما من شيء أحله الله الا وقد أحله لمن اضطر اليه». فظاهر هذه النصوص أن التكليف مرفوع واقعاً في فرض الاضطرار والحرج فضلاً عن فرض العجز. وظاهر هذا الرفع انه رفع امتناني، أي أن الملاك ثابت لكن التكليف مرفوع امتناناً، وهذا ما يؤكد أن عدم الاضطرار، عدم الحرج، ليس دخيلاً في الملاك، وإنما الملاك موجود، إنما هو دخيل في فعلية الخطاب. فنتيجة ذلك: قيام دليل لفظي على اختصاص التكليف بفرض القدرة، فلا شمول فيه لفرض العجز والغفلة وأمثال ذلك.

إذاً لو سلمنا مع السيد «قده» بشمول هذه الخطابات للعالم والجاهل والمبتلي ومن لا يبتلي فشمولها للعاجز ممنوع. هذا تمام الكلام في مناقشة السيد لصاحب الكفاية. وتبين أننا نوافقه في اصل المطلب وهو: أن الخطاب يشمل من لا يبتلي وليس في ذلك استهجان وإن ناقشناه في بعض مناقشاته في مبنى الانحلال.

الإيراد الثاني: ما ذهب اليه المحقق النائيني «قده» من أن شمول الخطاب لمن لا يبتلي هو الموافق للصناعة، والسر في ذلك: لو كان الخطاب مقيدا بالارادة والداعي، بأن نقول: إن كان للمكلف داعي لأن يشرب الخمر يشمله الخطاب «لا تشر الخمر». وإن لم يكن له داعي كما إذا كان طلبة، فهو ليس له داع لارتكابه، فلا يشمله الخطاب وهو «لا تشرب الخمر» لأنه أساساً منزجر عن شرب الخمر لا داعي عنده لارتكاب ذلك. فيقول صاحب الكفاية: ان الخطاب يشمل من له داع للعمل، ولا يشمل من ليس له داعي.

فيعلق النائيني على ذلك: لو كان شمول الخطاب منوطاً بالداعي والإرادة للزم الدور، لأن الغرض من الخطاب تحريك الإرادة، لأن الغرض من الإرادة ايجاد الداعي فكيف يكون الخطاب معلقا على وجود الداعي؟، إذ وجود الداعي أثر للخطاب لا أنه موضوع للخطاب، فهو في رتبة لاحقة في الخطاب لا انه في رتبة سابقة، بأن نقول: ان وجد الداعي صار الخطاب فعليا، وإن لم يوجد الداعي فلا فعلية للخطاب، هذا يعني أن الخطاب يدور مدار الداعي، فكيف يكون الخطاب هو الموجب للداعي والمولد له؟!

ولكن ما افاده الميرزا النائيني محل تأمل. والسر في ذلك:

أن ما يدّعيه الآخوند وغيره: أن شمول الخطاب فرع شأنية الداعي لا فرع فعليته. فهو لا يقول بأنه لا يكون الخطاب فعلياً حتى يكون الداعي فعلياً، كي يشكل عليه بأن المحقق لفعلية الداعي هو الخطاب فكيف يكون الخطاب معلقا على الداعي الفعلي، بل يدّعي أن الخطاب إنما يصح ولا يكون مستهجناً إذا كان المكلف له شأنية التحرك، له شأنيه الداعوية، له شأنية الاستجابة لهذا الخطاب، فاذا كان له شأنية الاستجابة لهذا الخطاب بأن يتحرك إمكاناً شمله الخطاب، فالخطاب فرع شأنية الداعوية والأثر المتولد عن الخطاب هو فعلية الداعوية فلا يلزم من ذلك دور.

الإيراد الثالث: في «مصباح الاصول»: من أن الخطاب غير مستهجن في توجهه من لا داعي له حتى في الخطاب الشخصي فضلاً عن الخطاب القانوني.

وهنا تكون المباينة بينه وبين السيد الإمام، فالسيد الامام يقول: الخطاب القانوني يشمل من لا يبتلي، لكن الخطاب الشخصي لا يشمل من لا يبتلي، فلا يقال لمن لا يبتلي بالزواج من بنت السلطان: لا تتزوج من بنت السلطان، فإن هذا الخطاب في حقه مستهجن. لأنه لا يبتلي بذلك أصلاً.

أما السيد الخوئي «قده» يقول: لا فرق، سواء كان خطاباً قانونياً أو شخصياً توجهه لمن لا يبتلي ليس مستهجناً. والسر في ذلك: ان ملاك الحكم الشرعي ليس كملاك الحكم العرفي، فإن ملاك الحكم العرفي ان لا يحصل المبغوض، فإن كان هو بطبعه لا يتزوج من بنت السلطان ولا داعي له على ذلك، إذا يكون نهيه عن الزواج من بنت السلطان مستهجن. اما ملاك الخطاب الشرعي فهو أن يتحقق الترك الاستنادي إلى الشارع، بمعنى انه ان ترك فليس الترك لأجل ان لا داعي له وانما ترك لأجل نهي الشارع فالترك المستند لنهي الشارع ملاك يقتضي النهي، فهو عندما يقول له: لا تتزوج من بنت السلطان، أو يقول للمرجع عالي القدر: لا تشرب الخمر. فإن الملاك المصحح لهذا الخطاب ان يكون تركه لشرب الخمر لأجل نهي الشارع لا لأجل أنه لا يرغب أو لا داعي له أو لا يليق بمقامه.

فما دام الملاك الملحوظ شرعاً الترك الاستنادي، إذا يصح تصحيح الخطاب لمن لا يبتلي وان كان خطاباً شخصياً.

او كما قلنا سابقاً: يصح توجيه الخطاب لمن لا يبتلي، بداعي حفظه عن الوقوع في المفسدة، وإن كان هو لا يبتلي لكن لعله يقع، إذ ما دام قادرا على شرب الخمر وان كان لا داعي له لأنه لا يليق بذلك، لكنه قادر على ذلك، فلأجل أنه قادر ينهاه الشارع نهياً شخصياً عن شرب الخمر لأجل صونه وابعاده عن الوقوع في المفسدة. فهذا مصحح للخطاب الشخصي.

ثم ان الشيخ الأعظم «قده» في باب الطهارة: فتح مسألة فقهية ترتبط بهذه المسألة وهي:

من علم إجمالاً بورود الدم إما داخل الماء أو على ظهر الإناء. فهل هذا العلم الاجمالي منجز أم لا؟ ودخل في المسالة بناء على الروايات. وهي صحيحة «علي ابن جعفر»: «سألته عن رجل رعف فامتخط فصار الدم قطعاً صغاراً فأصاب إناءه، هل يصلح الوضوء منه؟، قال: إن لم يكن شيء يستبين فلا بأس وان كان شيئاً بيّناً فلا».

هذا ندخل فيه غداً إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين.