الدرس 46

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق أنه اذا حصل علم اجمالي اما بنجاسة ماء الإناء أو نجاسة ظهر الإناء، فهل هذا العلم الاجمالي منجز أم لا؟. وليس البحث فعلاً في انحلاله العقلي. وقد مضى الكلام في ذلك.

وإنما البحث في دلالة النقل على الانحلال وعدم منجزية العلم الاجمالي حيث ذكر الشيخ الاعظم «قده» في «الطهارة» انه قد يستدل على عدم منجزية العلم الاجمالي في هذه الصورة بصحيح علي ابن جعفر: قال: «سألته عن رجل رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغاراً واصاب إناءه هل يصلح الوضوء منه؟ فقال : إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان شيئاً بيّناً فلا».

ومن اجل بيان ان الرواية هل لها ربط بمورد العلم الاجمالي أم لا؟ لابد من ذكر المحتملات في معنى الرواية، حيث اختلف في مدلولها بين الشيخ الطوسي «قده» ومن تأخر عنه في أن مدلولها شبهة موضوعية أم شبهة حكمية؟. وعلى كل احتمال منهما يوجد فرضان، فهنا محتملات اربعة:

المحتمل الاول: ان مفاد الرواية شبهة موضوعية مقرونة بالعلم الاجمالي، وهو المفاد الذي بنى عليه الشيخ الاعظم في «طهارته» فارجع مفاد الرواية الى ان المكلف علم بإصابة الدم للإناء، لكن إما انه اصاب الماء فلا يصلح له الوضوء منه أو انه أصاب ظهر الإناء، وبما ان ظهر الإناء خارج عن محل ابتلاءه فقد يكون ظهر الإناء طينا يصح التيمم به أو يصح السجود عليه، لكن لا داعي عادة لاستخدام ظهر الإناء في السجود أو التيمم، فلذلك ظهر الإناء خارج عن محل ابتلاءه بمعنى انه لا داعي له في مساورته.

فحينئذ أفاد مدلول الرواية: ان العلم الاجمالي غير منجز، حيث قال: ان لم يكن شيء يستبين في الماء أي لا اثر للدم فلا بأس فله ان يتوضأ، وان كان شيئا بينا أي ان الدم موجود في الماء فلا، أي لا يصلح للوضوء.

وقد اورد في كلام الشيخ الاعظم بان حمل الرواية على فرض العلم الاجمالي مما لا قرينة عليه وهو مجرد تكلف في حمل الرواية على هذا المعنى.

المحتمل الثاني: ما ذكره صاحب الوسائل «قده»: من أنّ مفاد الرواية شبهة موضوعية بدوية، لا شبهة موضوعية مقرونة بالعلم الاجمالي، ومحصّل ذلك: أن المكلف اصاب داخل الإناء لكن لا يدري وصل الى ماءه تقاطر الى ماءه أو لم يصل الى ماءه؟ هو اصاب الإناء اما اذا تقاطر الى الإناء أو لا فهذه شبهة بدوية.

فحينئذٍ أفاد مدلول الرواية: انه ما دمت تشك في أن الدم وصل الى الماء فتنجس به أم لا؟. إذن فإن رأيت أثرا للدم في الماء فلا تتوضأ وإن لم تجد له أثراً فتوضأ. فكأنه أجرى استصحاب عدم وصول الدم الى الماء أو استصحاب طهارته أو جريان قاعدة الطهارة في الماء وامثال ذلك. وهذا المحتمل الذي افاده صاحب الوسائل أيده سيدنا الخوئي في تنقيحه في كتاب الطهارة.

وأشكل على ذلك من قبل السيد الشهيد «قده» في شرحه على «العروة» وهو: ان حمل الرواية على الشبهة الموضوعية البدوية كما أفاد صاحب الوسائل حمل غير عرفي، والسر في ذلك:

أنّه لم يتضمن السؤال حيثية الشك في وصول الدم الى الماء اصلا، أي ان السائل لم يقل بانه: فصار الدم قطعا صغارا فلم ادري تنجس الماء أم لا؟ أو وصل الدم الى الماء أم لا؟. فهذه الشبهة الموضوعية لم تذكر في كلام السائل، فالذي ذكر في كلام السائل انه: «امتخط فصار الدم قطعاً صغاراً فأصاب إناءه».

هل يصلح الوضوء منه أم لا؟ ولم يذكر حيثية الشك بإصابة الدم للماء أم لا؟ حتى يقال بان منظورها الشبهة البدوية.

ولكن مجرد هذا الاشكال لا يكفي لمنع عرفية حمل الرواية عليه. فإنه قد يقال هذا مستبطن لقوله: «فصار الدم قطعاً صغاراً». لأنه اذا صار الدم قطعا صغارا فأصاب الإناء فهو عادة في معرض الشك في وصول الدم الى الماء الداخل للاناء او المظروف للاناء. فقوله: «فامتخط فصار الدم قطعاً صغارا واصاب إناءه هل يصلح الوضوء منه ام لا؟». قد يقال بان سياق الرواية سياق الشك في وصول الدم للماء، ومقتضى ذلك كون الشبهة موضوعية بدوية. فلابد من البحث من موانع اخرى أو قرائن اخرى على معنى آخر للرواية.

المحتمل الثالث: الذي ذهب اليه السيد الشهيد تأييداً للشيخ الطوسي، وهو: حمل الرواية على الشبهة الحكمية ولا علاقة لها في الشبهة الموضوعية، أي ان مفاد الرواية ان المكلف علم بوصول الدم للماء، اصابه بلا اشكال، الى انه يسأل ان الدم الذي هو عبارة عن قطع صغار هل يضر باستعمال الماء في الوضوء أو هو من قبيل الدم المعفو عنه؟ فالسؤال عن شبهة حكمية. فأجاب : ان كان الدم غير محسوس، «هو أصاب الماء لكن لضآلة القطرة لم تعد شيئاً محسوساً»، اصلاً ليس من قبل الدم المحسوس، فقال : ان لم يكن شيء يستبين في الماء «يعني الدم اصلاً غير محسوس من حيث وقوعه لا بعد وقوعه واستهلاكه فلا بأس بالوضوء»، وان كان شيئا بينا أي محسوس، فلا.

ذكر السيد الشهيد ان الشاهد على ذلك: قرينة من الجواب وقرينة من السؤال، اما القرينة من الجواب: فان الامام ع قال: ان لم يكن شيء يستبين، وهو ظاهر أن الاستبانة صفة للدم من حيث هو لا من حيث هي صفة للمكلف. اي لم يقل إن استبان للمكلف الدم، بل قال: هل الدم في نفسه شيء يستبين أو ليس بشيء مستبين، فجعل الاستبانة وصفاً للدم لا صفة للمكلف. فبناء على ذلك فالرواية لا ربط له بالشبهة الموضوعية لا المقرونة بالعلم الاجمالي، البدوية، بل هي ناظرة للحكم، أي الدم نفسه هل هو شيء محسوس وهذا معنى انه يستبين في الماء، أم لا؟ فإن كان شيئا محسوسا يستبين فلا تتوضأ، وإن لم يكن شيئاً محسوساً فتوضأ. فالاستبانة وصف للدم وليست صفة للمكلف كي تحمل على العلم والشك.

وأما القرينة من السؤال فان السائل لم يتضمن في سؤاله كما ذكرنا في مناقشة الشبهة البدوية حيثية الشك، بل ما سأل هو: الدم اصاب الإناء هل يصح الوضوء منه، وان كنا ونحن هذه العبارة لم يكن لها معنى الا السؤال عن الوضوء بماء أصابه الدم، فأصاب اناءه هل يصلح الوضوء منه؟ وليس هناك شك مطوي في السؤال من جهة الموضوع، أي من جهة اصابة الدم للماء.

وسيدنا الخوئي «قده» في اشكاله على هذا الوجه الذي افيد من قبل الشيخ الطوسي قال: لازم هذا الوجه ان المراد بالإناء الماء، الذي اصابه اناءه، يعني اصاب ماء الاناء هل يصلح الوضوء منه؟ والتعبير عن الماء بالإناء من باب علاقة الحال والمحل تعبير مجازي وهو وان كان يصح لكن لا قرينة عليه حتى نرتكب حمل الرواية على الشبهة الحكمية. فنقول بان معناه ان الدم أصاب الماء وهذا هو المقصود بالإناء.

فالسيد الشهيد في جوابه على السيد الخوئي: ظاهر قوله في السؤال: «هل يصلح الوضوء منه»، هو عود الضمير على ما أصابه الدم، فأصاب إناءه هل يصلح للوضوء منه؟ فبما ان الضمير في «منه» يرجع الى ما اصابه الدم، وما اصابه الدم هو الإناء إذاً كأنه قال: هل يصلح الوضوء من الإناء، وبما أن الوضوء إنما هو بالماء، فهذه قرينة على ان المراد بالإناء الماء. فهو تعبير مجازي وكلن القرينة السياقية دالة عليه.

أقول: بل قد يقال انه تعبير حقيقي، لأن العرف بلا تجوز يقول توضأت بالماء، بلا حاجة الى تقدير ماء، غاية ما في الباب ان مدلول التزامي، إذ ان الوضوء بالاناء بما هو إناء ليس صحيحاً، إذن لا محالة كان ماء فتوضأت من الإناء أو في الإناء هذا تعبير حقيقي بلا تجوز بلا حاجة الى ان نقول انه تجوز قامت القرينة عليه لو حملناه على هذا المعنى. ولكن قد يورد على هذا المحمل الذي اختاره الشيخ الطوسي «قده» بانه:

الاستبانة وان كانت صفة للدم الا ان الاستبانة من الصفات الطريقية لا من الصفات النفسية فلا تكون الاستبانة وصف للشيء في نفسه، وإنما الاستبانة تكون وصفاً للشيء بلحاظ شخص آخر يتبين أو لا يتبين، أي أن الاستبانة تقتضي وجود مستبين ومستبان له، وبالتالي: فهي صفة إضافة ذات طرفين، فمجرد أن نقول: ان الاستبانة صفة للدم لا يعين حمل الرواية على الشبهة الحكمية بل تحتمل الشبهة الموضوعية وهي هل استبان الدم لهذا المكلف أم لم يستبن له، وهذا يقبل الحمل على الشبهة الموضوعية.

فمجرد التعبير بالاستبانة قد يكون على محض الطريقية، أي فكأنه قال: هل في الإناء دم؟ فكأن قوله: «فإن لم يكن شيء يستبين في الماء» هو قوله: فإن لم يكن في الماء دم فلا بأس. «وان كان شيئا بينا» يعني وإن كان دماً ففيه بأس. فالاستبانة محض طريق لإثبات وقوع الدم بالماء، لا من باب ان الدم قطرة ضئيلة ليست بالنحو المحسوس لذلك صار من قبيل الدم المعفو عنه.

المحتمل الرابع: ما اختاره السيد الشهيد «قده» وهو حمل الرواية على الشبهة الحكمية لكن بالنظر الى استهلاك الدم لا بالنظر الى ضآلته. فقال: ان ظاهر تعبير الامام: ان لم يكن شيء يستبين في الماء. ان مناط صحة الوضوء عدم استبانة شيء لا عدم استبانة الدم. فرق بين الأمرين، تارة: يقول له: الدم لا يستبين فهنا يصح الحمل على ان الدم ضئيل بحد ليس بمحسوس، وتارة يقول له لا يستبين شيء لا يستبين الدم. فإذاً عندما نرجع القضية الى توصيف للدم، فنقول: الدم قد يستبين وقد لا يتسبين، هنا يصح مفاد الرواية بكلام الشيخ الطوسي، لأن معنى كون الدم يستبين أو لا يستبين، يعني هل بلغ من الضآلة حداً لا يحس او حداً يحس. أما اذا قلنا بان القضية ليست توصيف للدم بل توصيف للشيء، هل هناك شيء يستبين في الماء أو لا يستبين، فتوصيف الشيء بانه يستبين أو لا يستبين معناه: النظر الى مسألة الاستهلاك، فالمكلف علم بوقوع قطرة دم في الماء، لكن هذه القطرة هل اضمحلت في الماء فلا شيء يستبين او لم تستهلك فهناك شيء يستبين. فالمناط هو الاستهلاك وعدمه ان لم يكن شيء يستبين في الماء، فلا بأس أي ان كان الدم مستهلكا. وإن كان شئيا بيناً فلا.

ولأجل ذلك «مختار السيد الشهيد» قال: بان هذه الرواية معارضة بصحيحة علي ابن جعفر الاخرى، سألته عن رجل رعف وهو يتوضأ، فقطر قطرة منه في إناءه، هل يصلح له الوضوء منه؟ هل يصح له الوضوء منه؟ قال: لا.

فان ظاهرها انه حتى مع الاستهلاك لا يصلح الوضوء باعتبار ان القطرة تستهلك في الماء حتى لو كان قليلا.

فلأجل هذا يكون مورد الخلاف بين السيد الصدر والشيخ الطوسي حيث حمله كلاهما على الشبهة الحكمية، لكن ذاك بالنظر الى ضآلة الدم، وهذا بالنظر الى استهلاك الدم، ان الاستبانة هل هي وصف للدم حين وقوعه أو وصف للدم بعد وقوعه؟.

فعلى مبنى الشيخ الطوسي: الاستبانة وصف للدم حين وقوعه، اي حينما وقع الدم في الإناء كان بنحو لا يحس ام لا؟.

وأما على ما ذكره السيد الشهيد فهي وصف للدم بعد وقوعه، اي بعد وقوع الدم في الماء هل هو استهلك أم لم يستهلك؟.

ولكن، قد يقال بأن هناك فرقاً بين قوله: «فأصاب إناءه» وقوله: «فقطر قطرة منه في إناءه» فإن الثاني واضح الدلالة على إصابة الدم للماء، لذلك يمكن ارجاعه الى مسالة الاستهلاك وعدمها، وأما فأصاب أناءه فهذا أعم من ان يكون أصاب الماء او اصاب الإناء ظهراً او بطناً، يعني لا ملازمة بينه وبين اصابة الماء.

لذلك حمله على أنه أصاب الماء، وعقّب الامام على ذلك انه استهلك ام لا؟ يحتاج الى القرينة. خصوصاً أنه في الفقرة الثانية عبّر بخبر كان، حيث قال: «ان لم يكن شيء يستبين فلا بأس وان كان شيئاً»، ولم يقل شيء، مما يدل على ان النظر للدم، أي أن الدم يستبين أو لا يستبين. فإن استبان الدم في الماء ففيه بأس وإلا فلا، فإن هذا هو ظاهر قوله: «أن كان شيئاً بيّناً» اي وان كان الدم شيئا بينا بحيث ترجع الاستبانة الى وصف في الدم وليس وصفا للشيء.

فلأجل ذلك نتيجة تساوي الاحتمالات وتضاربها تصبح الرواية مجملة، فلا يستطيع اصولي ان يستنبط من ظاهر الرواية شيئاً.

ولكن على فرض دلالة الرواية على المعنى الاول وهو أنها ناظرة لمورد العلم الاجمالي بإصابة الدم للإناء لكن لا يدرى أصاب ظهره أم أصاب الماء. فلا ينحصر وجه عدم منجزية العلم الاجمالي بالانحلال الحقيقي، بمعنى انه لا يوجد لدينا علم بتكليف فعلي على كل حال. بل قد يكون مناط الانحلال هو الانحلال الحكمي بمعنى جريان الاصل في الماء دون ظهر الاناء فتجري البراءة عن مانعية الوضوء بهذا الماء أو بأصالة الطهارة بهذا الماء أو بأصالة عدم اصابة الدم بهذا الماء، ولا تعارض بأصالة الطهارة بظهر الاناء بناء على ما سيأتي من أن الأصل

العملي لا يجري في الطرف الخارج عن محل الابتلاء.

والحمد لله رب العالمين.