الدرس 51

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وقع الكلام فيما اذا شك في خروج احد الطرفين عن محل الابتلاء على نحو الشبهة المصداقية، مثلا: اذا علم إجمالاً إما بنجاسة الاناء الابيض أو نجاسة الاناء الازرق، ولكن لا يدري هل الاناء الازرق في بيته فيكون داخلا في محل الابتلاء أم انه في بيت جاره فيكون خارجا عن محل الابتلاء، فالشك هنا شك على نحو الشبهة المصداقية لأحد طرفي العلم الاجمالي، وفي مثل هذا المورد تارة تحرز الحالة السابقة لهذا الاناء وأخرى لا تحرز. فإن احرزت الحالة السابقة بأن علم قبل يوم انه كان في بيته أو في بيت جاره، فلأجل العلم بالحالة السابقة يجري الاستصحاب، استصحاب كونه في بيته فيدخل في محل الابتلاء أو استصحاب كونه في بيت جاره فيخرج عن محل الابتلاء، فإذا جرى الاستصحاب صار المقام من قبيل الحجة الاجمالية على التكليف، لا من قبيل العلم الاجمالي لانه مع الشك لا يوجد علم اذ هو شاك في ان الاناء الازرق هل هو في بيته أو في بيت جاره هل هو داخل في محل ابلائه أو هو خارج عن محل ابتلائه. فمع الشك إذاً لا يوجد عندنا علم اجمالي منجز، وانما المقام من باب الحجة الإجمالية.

اي ان عندنا اطلاقاً لدليل التكليف، وهو اطلاق قوله: اجتنب النجس، هذا الاطلاق يشمل الاناء الذي في البيت واضح، ويشمل الاناء الازرق ببركة الاستصحاب، فالموجود عندنا حجة اجمالية وهو الاطلاق، اي انه قوله اجتنب الجنس له اطلاق يشمل الاناء الابيض لدخوله في محل الابتلاء ويشمل الاناء الازرق ببركة الاستصحاب، والا لا يوجد عندنا علم اجمالي منجز.

هذا اذا احرزنا الحالة السابقة.

واما اذا لم نحرز لا ندري هل كان سابقا في البيت أو في بيت الجار؟ فما هو مقتضى الوظيفة؟ فلابد من الرجوع حينئذٍ الى ملاكات عدم منجزية العلم الاجمالي اذا خرج احد طرفيه عن محل الابتلاء. لنرى هل هذه الملاكات تنطبق على محل كلامنا أم لا، فلابد من عرض تلك الملاكات:

الملاك الاول: ان يقال بأن العلم الاجمالي مع خروج احد الطرفين عن محل الابتلاء ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير، مثلاً: اذا علم اجمالا اما بغصبية اللحم الذي بين يديه أو غصبية اللحم الذي بين يدي جاره ولحم جاره خارج عن محل ابتلائه، وهنا في هذا الفرض يقال: ان كان المغصوب ما تحت يد الجار فليس فعليا في حقه لخروجه عن محل ابتلاءه واما كونه فيما تحت يدك فهو مشكوك، إذاً لا علم بتكليف فعلي على كل تقدير. اذ على تقدير كونه في بيت الجار فهو ليس فعليا لخروجه عن محل الابتلاء، وانطباقه على ما تحت يدك مشكوك، اذاً لا يوجد علم اجمالي منجز اذ لا يوجد عمل اجمالي بتكليف على كل تقدير.

فيطبق على محل الكلام: فيقا: انا علمت بغصبية احد اللحمين اما اللحم الهندي أو اللحم السندي، لكن لا ادري هل اللحم السندي في بيتي أو في بيت جاري، فلا ادري. فيقال حينئذٍ لا يوجد علم اجمالي بتكليف فعلي على كل تقدير، فإن انطباق اللحم المغصوب على اللحم الهندي غير معلوم، وعلى فرض انطباقه على اللحم السندي فأنت لا تحرز ان اللحم السندي داخل في محل ابتلائك أم لا إذاً انت لا تحرز ان التكليف في حقه فعلي أم لا؟ إذاً لا يوجد علم اجمالي أم لا إذاً لا يوجد علم اجمالي على كل تقدير.

ولكن اعترض على هذا التصوير باعتراضين:

الاول: ما ذكره المحقق العراقي «قده» في نهاية الافكار، ومحصله: أن دخول الطرف محل الابتلاء وعدم دخوله منوط بالقدرة بمعنى ان كان الطرف غير مقدور على عصيانه عقلاً كما اذا لم ادر ان اللحم الذي بيدي هو المغصوب أو اللحم الذي فوق سطح القمر فالطرف الاخر غير مقدور لي عقلا اي انا لا اقدر على العصيان بأن اتناوله، واما ان يكون غير مقدور عرفا كما اذا الامر بين غصبية اللحم الذي بيدي وبين اللحم الذي بين يد الجار فهو غير مقدور عرفا، فيقول المحقق العراقي «قده»: بأن ما خرج عن محل الابتلاء هو الذي ليس مقدورا اما ما ليس مقدورا عرفا أو ما ليس مقدورا عقلاً. وبناء على ذلك، فإذا شككنا في ان اللحم السندي في بيتي أو في بيت جاري فقد شككت في انه مقدور أو ليس بمقدور. اي هل اقدر على العصيان فيه بتناوله أم لا اقدر؟ اما لعدم القدرة عقلا أو لعدم القدرة عرفا، فالشك في القدرة شك في القدرة، وقد تنقح في الاصول لدى الجميع ان موارد الشك في القدرة مجرى للاشتغال لا مجرى للبراءة حتى لو كانت الشبهة بدوية فضلا عن مور د العلم الاجمالي. مثلا: اذا وجدت امامي ميتة مسلما فشككت هل انا قادر على دفنه نتيجة نزول المطر من السماء أو لست قادرا على دفنه، فهنا لم يجر احد البراءة بأن يقول: الشك في القدرة يعني الشك في التكليف والشك في التكليف مجرى للبراءة، بل قالوا بأصالة الاشتغال. فمورد الشك في القدرة مجرى لاصالة الاشتغال اي يجب عليك ان تبادر لدفنه حتى تحرز العجز، وبما ان مورد الشك في القدرة مجرى للاحتياط لا للبراءة اذاً هنا اذا علمت اجمالا اما بغصبية اللحم هو الهندي أو غصبية اللحم الذي هو سندي، ولكنني لا ادري هل انني قادر على تناول اللحم السندي أم لا؟ لانني لا ادري هل هو في بيتي أو في بيت جاري، فالمورد من موارد الشك في القدرة ومورد الشك في القدر مجرى للاشتغال لا للبراءة.

فالعلم الاجمالي منجز لا انه ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير.

ولكن السيد الشهيد «قده» في البحوث: قال حصل خلط عند المحقق بلحاظ ان مورد الشك في القدرة الذي هو مجرى لاصالة الاشتغال لا للبراءة الشك في القدرة على الامتثال، لا الشك في القدرة على العصيان، نظير المثال الذي مثلنا به وهو انه لو وجد ميتا مسلما امامه وهو لا يدري هل هو قارد على دفنه أم لا؟ فهنا لأجل أن الشك في القدرة على الامتثال كان مجرى للاشتغال لا للبراءة. ونمثل له في موارد العلم الاجمال: مثلاً: هذا المكلف نذر نذرا في يوم الغدير لا يدري هل نذر بصوم يوم الغدير أو نذر الاتيان بصلاة يوم الغدير. لكن على فرض أن المنذور هو الصوم هو شاك في قدرته عليه أم لا؟. فانا اعلم اجمالا بوجوب احد الفعلين اما الصلاة أو الصوم ولكن ان كان هو الصوم فانا شاك في القدرة وعدمه، هنا في حالة الشك في القدرة على الامتثال يكون العلم الاجمالي منجزاً. لأن الشك في القدرة للامتثال مجرى للاشتغال لا للبراءة.

اما اذا علم اجمالا اما بغصبة اللحم الهندي أو اللحم السندي ولا يدري ان هل السندي في بيته أو في بيت جاره فهو ليس شاكاً بالقدرة على الامتثال. بمقدوره ان يجتنبهما معاً، فالقدرة على الامتثال محرزة انما يشك في القدرة على العصيان هل اني قادر على اكل اللحم السندي ان كان في بيت جاري أم لا؟ فهنا الشك في القدرة على العصيان وليس في الشك في القدرة على الامتثال، ومورد الشك في القدرة على العصيان ليس مجرى للاشتغال، وإما هو مجرى للبراءة.

ولكن ما افاده السيد الشهيد «قده» محل تأمل. والسر في ذلك:

عندما نرجع الى ذلك البحث وهو بحث الشك في القدرة، وأنه هل هو مجرى لاصالة الاشتغال أو مجرى لاصالة البراءة؟ فقال الاعلام: هو مجرى لاصالة الاشتغال، ولكن اختلفوا في ادلتهم، ونتيجة الاختلاف في الادلة اختلاف الثمرة، فقال البعض: الشك في القدرة انما يكون مجرى للاشتغال لان الملاك غير منوط بالقدرة، مثلا: اذا قال المولى: ادفنوا مواتكم فإن مقتضى اطلاق الدليل ان الملاك موجود قدرتك أم لم تقدر، فالقدرة ليست دخيلة في الاتصاف بالملاك، وإلا لو كانت القدرة دخيلة في الملاك لقيّد كما في الصوم قيّد: فقال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. فعرف من التقيد ان الصوم ذا الملاك هو الصوم المقدور، اما اذا كان دليل التكليف مطلقاً غير مقيد بالقدرة كما اذا قال: ادفنوا مواتكم، فمقتضى اطلا ق الدليل ان الملاك تام قدرت عليه أم عجزت، الملاك موجود، اذاً بناء على ذلك «اذا شككت في القدرة» يجب ان تبادر حفظا للملاك، بما ان الملاك معلوم قدرت أم لم تقدر فإذا شككت هل أنا قادر على استيفاء هذا الملاك أم لست قادراً عليه، عليك أن تبادر الا اذا أحرزت العجز تحفظاً على الملاك، فوجوب الاحتياط عند الشك في القدرة لأجل حكم العقل بلزوم التحفظ على الملاك، فبناء على هذه الدليل لا فرق بين ان تكون القدرة قدرة على الامتثال أو قدرة على العصيان، فسواء شككت في قدرتي على الامتثال، العقل يقول لي: مقتضى لزم حفظ الملاك ان تبادر. أو شككت في قدرتي على العصيان. فإن العقل يقول لي: مقتضى لزوم التحفظ على الملاك ان تجتنب وان كنت شاكا في القدرة على العصيان. إذ لا فرق في حكم العقل بلزوم التحفظ على ملاك المولى بين الشك في القدرة على الامتثال أو الشك في القدرة على العصيان، فلا خلط في ذهن المحقق العراقي «قده».

وأما اذا قلنا: بأن الدليل على جريان الاحتياط عند الشك في القدرة هو السيرة كما ذهب اليه سيد المستمسك «قده» قال: جرت السيرة العقلائية على اصل يسمى اصالة القدرة فإذا شككت هل انك قادر أم لا؟ يقول العقلاء اصالة القدرة، فسيرة العقلاء جارية على اصالة القدرة، فبناءً على مسلك سيد المستمسك «قده» من ان الدليل هو السيرة السيرة دليل لبي، القدر المتيقن منه ما اذا كان الشك شكا في القدرة على الامتثال ولا نحرز جريان السير شكا في القدرة على العصيان، فإذا لم نحرز جريان السيرة اذاً نتمسك باطلاقات ادلة البراءة، حيث إن التكليف مشروط بالقدرة فالشك في القدرة شك في التكليف فتجري البراءة، وانما خرجنا عن ذلك بالسيرة والسيرة دليل لبي. والقدر المتيقن فرض الشك في القدرة على الامتثال.

فتحصل بذلك:

ان كلام المحقق العراقي «قده» تام بناءً على الملاك الأول في جريان الاحتياط عند الشك بالقدرة.

الاعتراض الثاني: هو ان يقال: تارة: يشك في أن اللحم السندي خارج عن قدرته عقلاً، فيحتمل انه غير مقدور عقلا فيأتي به الكلام السابق بين العراقي والصدر كما ذكرناه. وأما اذا كان يحرز ان اللحم السندي مقدور عقلاً على عصيانه، إنما الكلام في القدرة العرفية، هل هو في بيته أو في بيت جاره، فإن كان في بيت جاره فهو غير مقدور عرفاً، اي في تناوله كلفه ومشقة لا انه غير مقدور عقلا، أو انه لا داعي له في ارتكابه بما انه في بيت الجاري لا داعي لتناوله.

في مثل هذه الموارد ادعى المحققان النائيني والعراقي «قده» أنهما خارجان عن محل التكليف لا للحكم العقل بل خارجان عن محل التكليف من باب اللغوية والاستهجان. اي من المستهجن تكليفك بما لا تقدر عليه عرفاً أو ما لا داعي لك لارتكابه، فالتكليف به ليس ممنوع عقلا بل مستهجن عرفا. فإذا قال المولى: اجتنب عن اناء الجار، لكان هذا تكليفا مستهجنا، لانك لا تقدر على تناول اناء الجار بطبعك، أو لانه لا داعي لك لارتكاب فيما تحت يد الجار، فالمدعى ليس الخروج العقلي كما في القدرة العقلية، إنما المدعى هو اللغوية والاستهجان. فإذا كان هذا المدعى، فعند الشك لا ندري ان اللحم السندي خارج عن الابتلاء أم لا اي لا ندري انه مقدور عرفا أم ليس بمقدور عرفا؟ فهل التكليف باجتنابه مستهجن مع الشك؟، مع العلم انه غير مقدور عرفاً قد يقال مستهجن، اما مع الشك هل التكليف باجتنابه مستهجن عرفا؟! ليس بمستهجن، لان الخارج عن اطلاقات ادلة التكليف كقوله: اجتب المغصوب. فالخارج عن اطلاقات ادلة التكليف ما يرى العرف التكليف به لغواً، وما يرى التكليف به لغوا هو ما احرز خروجه عن محل الابتلاء، يعني ما احرز عدم القدرة عليه عرفا أو عدم الداعي عليه نوعا، وأما ما لم يحرز ذلك فالتكليف باجتنابه ليس بلغو ولا بمستهجن عرفاً. وبالتالي فالعلم الاجمالي اما بغصبية الهندي أو السندي مع الشك في خروج السندي عن محل الابتلاء، علم اجمالي بتكليف فعلي على كل تقدير، فإن ما خرج عن الفعلية ما احرز خروجه عن محل الابتلاء ولا يشمل المشكوك.

والحمد لله رب العالمين.