الدرس 52

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام فيما اذا شك في الخروج عن محل الابتلاء لشبهة مصداقية، كما اذا علم اجمالاً إما بنجاسة اناء ألف او نجاسة إناء باء، ولكن شك في أن اناء باء هل هو في بيته فيكون داخلا في محلا الابتلاء او في بيت جاره فيكون خارجا عن محل الابتلاء، فهل العلم الاجمالي منجز في مثل هذا الفرض ام لا؟.

وذكرنا ان هذا يرجع للبحث عن الملاكات السابقة التي ذكرت لبيات عدم منجزية العلم الاجمالي عند خروج احد الطرفين عن محل الابتلاء، وسبق الكلام في الملاك الاول وهو دعوى الانحلال الحقيقي للعلم الاجمالي.

الملاك الثاني: هل يوجد في المقام حجة اجمالية على التكليف ام لا؟.

حيث ذكر سيدنا «قده» في «مصباح الاصول» بأنه: على فرض انه ليس هناك علم اجمالي منجز ايضاً ليس في البين حجة اجمالية، فكما لا علم اجمالي لا حجة إجمالية، وبيان ذلك:

إن الحجة الاجمالية هي عبارة عن اطلاق الدليل كدليل اجتنب النجس، فهل هذا الاطلاق شامل للمقام كي يكون حجة اجمالية على اجتناب كلا الطرفين ام ليس شاملا للمقام؟

فذكر سيدنا «قده»: بان هذا الدليل لا اطلاق له في المقام، والسر في ذلك:

ان دليل اجتنب النجس مقيد لبّاً بأن لا يكون النجس خارجا عن محل الابتلاء بلحاظ ان ما خرج عن محل الابتلاء يكون شمول الاطلاق له لغوا ومستهجنا فبناء على ذلك اي بما ان دليل اجتنب النجس مقيد بأن لا يكون النجس خارجا عن محل الابتلاء فالنتيجة ان دليل اجتناب النجس موضوع النجس الداخل في محل الابتلاء فاذا علمنا اجمالا بنجس اما في هذا الاناء وذاك الاناء ولكن الاناء الثاني لا ندري هل هو خارج عن محل الابتلاء فلا يشمله اجتنب النجس او داخل في محل الابتلاء فيشمله، فإذاً لا يصح التمسك بإطلاق دليل «اجتنب النجس» في مثله لانه تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية. اذ ما دام موضوعه ما دخل في محل الابتلاء فمع الشك في دخوله وعدمه يكون التمسك به تمسكا بالإطلاق في الشبهة المصداقية لموضوعه، والنتيجة: هي كما لا يوجد علم اجمالي منجز لا توجد حجة اجمالية على التكليف، وسبق ان ناقشنا في العلم الاجمالي المنجز وقلنا يوجد علم اجمالي منجز. ولكن على فرض عدم وجوده فما ذكره «قده» متين من انه لا توجد حجة اجمالية بناء على خروج محل الابتلاء عن إطلاق الدليل.

الملاك الثالث: وهو دعوى الانحلال الحكمي. اي لو فرضنا أنه يوجد علم اجمالي منجز، ويوجد حجة إجمالية على التكليف، فرغنا من ذلك. لكن هل يوجد انحلال حكمي في المقام؟ ام لا؟.

اي هل يجري الاصل في الإناء الذي تحت يده بلا معارض ام لا؟.

وهذا انما يتم على مسلك الاقتضاء اي بناء على ان العلم الاجمالي ليس علة تامة للمنجزية، وانما هو مجرد مقتضي فاذا جرى الاصل الترخيصي في احد طرفيه بلا معارض انحل العلم الاجمالي حكماً.

فالآن نبحث: هل ان هناك انحلالا حكميا في هذا الفرض اي هل يجري الاصل في احد الطرفين بلا معارض ام لا؟

وهنا تقريبان:

التقريب الاول: ما ذكره سيدنا «قده» في «مصباح الاصول»: ومحصّله: ان دليل البراءة لا يجري في الطرف المشكوك. الطرف المعلوم الداخل في محل الابتلاء وهو اناء «أ» الذي بين يديه، يشمله دليل البراءة، مقتضى البراءة جواز الشرب منه مثلاً. ولكن الطرف المشكوك وهو اناء باء الذي لا ندري هل هو في بيتنا او في بيت جارنا هل هو داخل في محل الابتلاء ام لا؟ لا يشمله دليل البراءة، والسر في ذلك:

ان دليل البراءة عبارة عن رفع وجوب الاحتياط، فمعنى قوله: «رفع عن امتي ما لا يعلمون» ا ي ما لم تعلم بحكمه فلا يجب الاحتياط من جهته، فمعنى دليل البراءة رفع وجوب الاحتياط، وبناء على ذلك فالرفع فرع امكان الوضع، اذ انما يصح الرفع في مورد يمكن فيه الوضع، فما يمكن فيه وضع وجوب الاحتياط هو الذي يمكن فيه رفع وجوب الاحتياط، فعلى هذا الاساس يختص دليل الرفع بمورد يمكن فيه وضع وجوب الاحتياط. إذاً دليل الرفع مقيد لبّاً بما يمكن فيه وضع الاحتياط لا مطلقاً.

فإذا افترضنا ان طرف العلم الاجمالي خارج عن محل الابتلاء كما لو علم اجمالا اما بنجاسة ثوبه او ثوب السلطان، ولا اشكال ان ثوب السلطان خارج عن محل ابتلاءه فبلحاظ ان ثوب السلطان خارج عن محل ابتلاءه فوضع وجوب الاحتياط بلحاظه لغو، فلو قال له المولى اجتنب ثوب السلطان احتياطا، فانه يرى ذلك مستهجنا عرفا لأنه مجتنب عنه بطبعه بخروجه عن محل ابتلاءه، فبالنتيجة: دليل وجوب الاحتياط لا يشمل ما خرج عن محل الابتلاء فلا يشمله دليل الرفع، اذ كما لا يمكن وضع وجوب الاحتياط فيما خرج عن وجوب الاحتياط لا يمكن أيضاً رفعه بدليل الرفع، فإن الرفع فرع إمكان الوضع. وحيث لا يمكن وضع وجوب الاحتياط فيما خرج لا يمكن أيضاً رفعه بدليل الرفع.

فاذا شككنا اي لا ندري ان الثوب الازرق هو ثوب السلطان فهو خارج عن محل الابتلاء ام ليس بثوبه فهو داخل في محل الابتلاء، اذاً هناك شبهة مصداقية لدليل الرفع، فان موضوع دليل الرفع ما يمكن فيه وضع وجوب الاحتياط ووضع وجوب الاحتياط يتوقف على دخول المورد في محل الابتلاء، فاذا شككنا انه داخل ام ليس بداخل فقد شككنا بدليل الرفع، فلا يمكن التمسك بدليل الرفع في المقام لكونه شبهة مصداقية.

والنتيجة: أن دليل الرفع لا يشمل الطرف المشكوك فيشمل الطرف المعلوم وهو الإناء الذي بين أيدنا بلا معارض، فينحل العلم الاجمالي حكماً يجوز له الشرب من الاناء الذي بين يديه بمقتضى دليل البراءة.

هذا ما افاده سيدنا «قده» في «مصباح الاصول».

ويلاحظ على ذلك:

أن وجوب الاحتياط ملاكه التحفظ على الغرض والملاك، حيث إن في النجس ملاك وفي المغصوب ملاك وفي الميتة ملاك، فعندما يقول الشارع احتط، فان المناط في وجوب الاحتياط هو التحفظ على الملاك، فبناء على ذلك: فقد لا يتصور التحفظ فيما علم خروجه عن محل الابتلاء.

فنقول: اذا كان اناء السلطان خارجا عن محل ابتلاءك فحينئذ لا يصح وجوب الاحتياط فيه، لأن المناط في وجوب الاحتياط التحفظ على الغرض وأنت متحفظ على هذا الغرض بطبعك، لأنك بطبعك لا تزاول اناء السلطان، فبما انك متحفظ على الغرض بطبعك لا يصح مخاطبتك بالاحتياط في إناء السلطان. هذا تام.

لكن ما شك في خروجه لا ما علم خروجه: بان انا اعلم بوجود نجاسة اما في الاناء الابيض او الاناء الازرق لكن لا اعلم ان الاناء الازرق خارج عن محل ابتلائي او ليس بخارج، يعني هل أساوره ام لا اساوره؟ فهنا لا اشكال في وضع وجوب الاحتياط. لأن مناط وجوب الاحتياط التحفظ على الغرض وما يشك في خروجه عن محل الابتلاء معرض للاحتكاك والتماس، فلذلك يصح جعل وجوب الاحتياط فيه تحفظاً على الغرض. وبما انه يصح جعل وجوب الاحتياط فيه اذاً يصح رفعه بحديث الرفع، فحديث الرفع كما يشمل الطرف المعلوم وهو الاناء الذي بين ايدينا يشمل الطرف المشكوك ومقتضى ذلك تعارض الاصول اي ان اصالة البراءة عن حرمة شرب الماء الذي بين يدي معارض لأصالة البراءة عن حرمة الماء الذي اشك في خروجه عن محل الابتلاء، والنتيجة: هي عدم انحلال العلم الاجمالي حكما بهذا التقريب.

التقريب الثاني: ما ذكره السيد الشهيد في «البحوث»: من أن دليل الاصل الترخيصي كأصالة البراءة كأصالة الطهارة، كأصالة الحل، يشمل بإطلاقه الإناء المعلوم الذي بين ايدينا، لكن هل له معارض وهو شموله للإناء المشكوك ام لا؟ هذا هو ما نبحث فيه.

فنقول: انما تتم المعارضة اذا كان الترخيص في الإناء الاخر قابلا للوصول، فيوجد في المقام ترخيص واصل هو الترخيص في شرب الاناء الذي بين ايدينا، لكن هل يعارضه الترخيص في الاناء الاخر؟.

نقول: إنما يعارضه الترخيص في الإناء الآخر إذا كان ترخيصاً قابلاً للوصول، وانما يكون الترخيص قابلا للوصول اذا شمله الاطلاق لان الوصول انما هو ببركة الاطلاق، فاذا شمل إطلاق دليل البراءة او الطهارة ذلك الإناء المشكوك كان الترخيص قابلا للوصول، فنسأل: هل يشمله الإطلاق ام لا؟. فبما اننا قلنا سابقا ان الطرف الخارج عن محل الابتلاء ليس مورداً للتزاحم الحفظي وما ليس محلا للتزاحم الحفظي لا يشمله الحكم الظاهري فاذا لم يشمله الحكم الظاهري لم يشمله دليل الاصل العملي، لان دليل الاصل العلمي حكم ظاهري.

إذاً الطرف الخارج عن محل الابتلاء ليس محلاً للتزاحم الحفظي وحيث انه ليس محلا للتزاحم الحفظي لا يصح فيه الحكم الظاهري، إذاً لا يشمله دليل الاصل العملي من براءة او طهارة او حلٍّ. فاذا شككنا هل هو خارج عن محل الابتلاء. ام ليس بخارج عن محل الابتلاء؟. كان شبهة مصداقية بدليل الاصل العملي، ولا يصح التمسك بالعموم أو الاطلاق، للشبهة المصداقية. فإذا لم يصح التمسك بالإطلاق في الطرف المشكوك لم يكن الترخيص فيه قابلاً للوصول، وإذا لم يكن قابلا للوصول جرى الترخيص فيما بين ايدينا بلا معارض. فانحل العلم الاجمالي.

والملاحظة على هذا التقرير كالملاحظة على تقرير مصباح الاصول:

إنما يتصور ان لا يكون الطرف موضوعا للتزاحم الحفظي اذا علم خروجه عن محل الابتلاء، كإناء السلطان مثلاً، حيث إن إناء السلطان خارج عن محل الابتلاء جزما فليس محلاً للتزاحم الحفظي، لان التزاحم الحفظي هو عبارة عن احتمال غرض ترخيصي وغرض لزومي، فلأجل التحفظ على اهم الغرضين يأتي الحكم الظاهري، فاذا افترضنا انه خارج عن محل الابتلاء إذاً لو كان فيه غرض لزومي فهو محفوظ ولم نضيعه لانه خارج عن محل ابتلائنا، فانما يكون الطرف ليس محلاً للتزاحم الحفظي اذا علم خروجه عن محل الابتلاء، فيقال: ما دمنا نعلم انه خارج عن محل الابتلاء فالغرض اللزومي فيه محفوظ.

اما اذا شككنا انه خارج عن محل الابتلاء ونحتمل معرضيتنا للوصل اليه ونحتمل معرضيتنا لاقتحامه وتناوله، إذاً هو مورد للتزاحم الحفظي اي مورد لتزاحم الغرض التريخصي مع الغرض اللزومي، وإذا كان مورداً لتزاحم الغرضين صح رفع الحكم فيه، واذا صح وضع الحك الظاهري فيه. وإذا صح وضع الحكم الظاهري فيه شمله دليل الأصل. فكان الترخيص فيه قابلاً للوصول. فيرجع التعارض مرة اخرى.

هذا تمام الكلام في الملاكات المذكورة لبيان عدم منجزية العلم الاجمالي فيما خرج عن محل الابتلاء، وقد تبين لنا ان هذه الملاكات لا تشمل الشبهة المصداقية.

ففي الشبهة المصداقية يبقى العلم الاجمالي منجز، اي اذا علمنا اجمالا اما بنجاسة الابيض او الازرق وشككنا ان الاناء الازرق داخل أم خارج عن محل الابتلاء كان العلم الاجمالي منجزاً، فلم يجر الاصل الترخيصي فيما بين أيدينا بلا معارض.

ثم ان المحقق النائيني «قده» اضاف تنبيها: وقال:

لا ينحصر ما خرج عن محل الابتلاء فيما ليس مقدورا عقلا او عادة بل يشمل غير المقدور شرعاً، بيان ذلك:

خروج الطرف عن محل الابتلاء اما لعدم القدرة عليه عقلا كان الاناء فوق سطح القمر. او لخروجه عن القدرة عرفا، كما لو كان إناء السلطان. يقول المحقق النايئني: ويشمل ما خرج عن القدرة شرعاً، مثل: ما إذا علمت اجمالا اما بنجاسة اناءي او بنجاسة اناء زيد لكنني اعلم بان اناء زيد لا يجوز التصرف فيه لانه لم يأذن لي بالتصرف فيه اذاً اناء زيد خارج عن قدرتي لا عقلا ولا عادة وانما شرعاً. فبما انه خارج عن قدرتي شرعا لا يجري فيه اصالة البراءة ولا اصالة الطهارة. فتجري في الإناء الذي بيدي بلا معارض. هذا اذا لم يكن اناء زيد معرضا لابتلائي. اما اذا كان اناء زيد في معرض ابتلائي كما لو كان في معرض البيع او الهبة او الإباحة، فحينئذٍ إذا كان في معرض ابتلائي يكون العلم الإجمالي منجزاً.

ويلاحظ على ذلك: هل السر كونه ممنوعاً شرعا او السر كونه خارجا عن محل ابتلائي؟

فاذا كان السر ممنوعاً شرعاً، فلماذا عقّب «قده» وقال: إلا اذا كان في معرض الابتلاء. وإذا كان السر أنه خارج عن محل الابتلاء فليس مناطا جديدا وراء ما سبق ذكره من المناطات.

وثانيا: ما ذكره السيد الشهيد تعليقا على كلامه: ان لم تجر اصالة البراءة جرت اصالة الطهارة، وبعبارة اخرى: خروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء انما يرفع الحكم التكليفي ولا يرفع الحكم الوضعي. فلنفترض ان أناء زيد خارج عن محل ابتلائنا ولا يجوز لنا التصرف فيه. إذاً حرمة شربه هي التي ترتفع بخروجه عن محل الابتلاء اما نجاسته او نجاسة ملاقيه فان هذا لا ترتفع بخروجه عن محل الابتلاء فان الذي يرتفع بخروجه عن محل الابتلاء هو الحكم التكليفي لأنه مستهجن أما الحكم الوضعي من نجاسته نجاسة ملاقيه صحة الوضوء به، هذا لا يرتفع بخروجه عن محل الابتلاء، فحيث ان ذلك لا يرتفع بخروجه عن محل الابتلاء، اذاً الاصول تتعارض بلحاظ الاحكام الوضعية وان لم تتعارض بلحاظ الاحكام التكليفية.

فنقول: اصالة الطهارة في الاناء الذي بيدي من اجل بيان صحة الوضوء به او طهارة ملاقيه تعارض اصالة الطهارة في اناء زيد بلحاظ طهارة ملاقيه وصحة الوضوء به.

والحمد لله رب العالمين.