الدرس 56

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال البحث فيما إذا فرض تأخر أحد طرفي العلم الإجمالي رتبةً. كما إذا علمنا اجمالاً إما بوجوب صوم يوم الغدير أو وجوب زيارة النبي وعلى فرض وجوب زيارته، فإنه تجب صلاة الزيارة، فيقال: هل العلم الاجمالي الثاني وهو العلم الاجمالي إما بوجوب صوم يوم الغدير أو وجوب صلاة الزيارة، هل هذا العلم الاجمالي المتولد من العلم الاجمالي السابق منجز أم لا؟.

ونظير المقام بحث ملاقي أحد اطراف الشبهة المحصورة، مثلاً: إذا علم اجمالاً إما بنجاسة الإناء الابيض أو نجاسة الإناء الازرق. وقد لاقت يده الإناء الابيض، فحينئذٍ يحصل له علم اجمالي ثاني وهو إما نجاسة يده أو نجاسة الإناء الازرق، فهل هذا العلم الاجمالي الثاني المتولد من الاول نتيجة ملاقاة يده لأحد الطرفين هل هذا العلم الاجمالي الثاني منجز أم لا؟.

وقد يقال: بعدم تنجزه لاحد وجهين:

الوجه الاول: ما تعرض له سيد المنتقى «قده» في «ج5، ص168» في بحث ملاقي احد اطراف الشبهة المحصورة، فأفاد: بانه العلم الاجمالي الثاني ليس منجزاً لأنه ليس علماً بتكليف زائد، على ما علم بالعلم الاجمالي الاول، وبالتالي فتجري البراءة عن وجوب اجتناب الملاقي لأن المورد شك في تكليف زائد، ولا يصح العكس، اي لدينا علمان اجماليان: علم إما بنجاسة الإناء الابيض أو نجاسة الإناء الازرق، فنحن نعلم بانه يجب الاجتناب عن شرب احدهما. ولكن لاقى الطعام الذي في اليد لاقى الإناء الابيض فحصل لنا علم اجمالي متولد عن الاول. وهو إما يجب اجتناب الطعام الذي في اليد نتيجة لملاقاته الابيض إذا كان هو النجس أو يجب اجتناب الإناء الازرق. فيقول سيد المنتقى «قده»: ان وجوب اجتناب الطعام الملاقي تكليف زائد، لا علم لنا به وراء العلم اما بنجاسة الابيض أو الازرق، فما انه شك في تكليف زائد فهو مجرى للبراءة، ولا يصح العكس بأن نقول: الطرف المختص بالعلم الاول وهو الملاقاة وهو الإناء الابيض مشكوك، لا ندري هل نحن مكلفون به أم تجري البراءة عنه، يقول: انه لا شك في ان التكليف الثاني متفرع على الاول إذ لولا علمنا بنجاسة الملاقى وهو الإناء الابيض لما حصل لنا علم اجمالي ثاني وهو اما نجاسة الطعام أو نجاسة الإناء الازرق من الواضح ان العلم الثاني متفرع على الاول. اي من الواضح انه لولا علمنا أولاً بتكليف إما باجتناب الابيض أو الازرق لما علمنا ثانيا اما باجتناب الطعام أو اجتنتاب الإناء الازرق، فالثاني متفرع على الأول. ولذلك قلنا بأن الشك في الثاني يعني الشك في وجوب اجتناب الطعام شك في تكليف زائد على ما علم اولا ولا يصح العكس بأن نقول: الشك في وجوب اجتناب الإناء الابيض شك في التكليف الزائد لأنه هو الشك في التكليف الاول وهو الذي تفرع عليه العلم الاجمالي الثاني. بالنتيجة جريان البراءة عن وجوب اجتناب الطعام يجري بلا معارض ولا يقابله جريان البراءة عن وجوب اجتناب الابيض أو الازرق لأنه مصب العلم الاجمالي الاول. هذا ما ذكره في المنتقى.

ولكن يلاحظ على ذلك: أنه لا شك وجداناً في وجود علم اجمالي إما بنجاسة الطعام الملاقي أو نجاسة الإناء الازرق، وهذا العلم الاجمالي الوجداني منجز على مبناه أو مبنى غيره:

اما على مبناه «قده» فانه يرى العلية التامة لمنجزية العلم الاجمالي لكن اثباتا لا ثبوتا، اي ان المحقق العراقي «قده» يرى ان العلم الاجمالي علة تامة للمنجزية ثبوتا اي هو في نفسه علة تامة مع غمض النظر عن ادلة الاصول العملية.

اما سيدنا «قده» في المنتقى يقول: نحن لو خلينا والعلم الاجمالي فليس علة تامة للمنجزية، لكن حيث ان جميع ادلة الاصول الترخيصية لا تشمل موارد العلم الاجمالي، لأن سائر ادلة الاصول العملية الترخيصية موضوعها الشك في التكليف ومع العلم الاجمالي فلا شك فهي خارجة موضوعا وتخصصها عن موارد العلم الاجمالي، كان العلم الاجمالي بلا مؤّمن لأن المؤّمن ادلة الاصول، فإذا لم تشمله موضوعا فهو بلا مؤّمن، من هنا نقول ان العلم الاجمالي علة تامة للمنجزية لكن اثباتا بوسيلة علم شمول المؤمن لاطرافه موضوعاً.

فبناء على مسلكه «قده» نقول: المقام يوجد علم اجمال وجداني، ومقتضى مسلكه عدم مشول أدلة الاصول له موضوعاً فيكون العلم الاجمالي الثاني منجزاً كالأول. وأما على مبنى غيره كسيدنا «قده» من ان العلم الاجمالي مقتضي للتنجيز، بمعنى أن فيه اقتضاء للتنجيز لكن هذا الاقتضاء يتوقف على تعارض الاصول في اطرافه حتى يصل الى مرتبة الفعلية.

بناء على هذا المسلك الكلام هو الكلام، نقول: هل ان دليل الاصل العملي الترخيصي يشمل اطراف العلم الاجمالي أم لا يشمل؟ اي يطرف اطراف العلم الاجمالي المتولد وهو العلم الاجمالي إما بنجاسة الطعام الملاقي أو نجاسة الإناء الازرق؟.

فما هو ملاك المعارضة حتى نرى ان هذا الملاك موجود في المقام أم لا؟.

نقول: ملاك المعارضة هو العلم الاجمالي بكذب احد الاصلين لا محالة، فإن دليل اصالة الطهارة أو دليل اصالة البراءة قطعا كاذب في احد الطرفين لأن احد الطرفين قطعا نجس واقعا، فنعلم بكذب اصالة الطهارة أو دليل أصالة البراءة في أحدهما إما الطعام إما الإناء الازرق. ومنشأ العلم الاجمالي بكذب احد الاصلين هو ان شموله لكليهما مناقض لما هو معلوم وهو الالزام المعلوم، بالاجمال الا وهو الالزام بوجوب الاجتناب مثلا.

فحيث ان شمول الدليل لكلا الطرفين ترخيص في المخالفة القطعية أو ان شمول الدليل لكلا الطرفين موجب للمناقضة الارتكازية العقلائية بين الغرض الترخيصي والغرض اللزومي المعلوم بالاجمالي، فنحن نعلم اجمالي بكذب احد الاصلين فاذا علمنا اجمالا بكذب احد الطرفين فاجراء الاصل باحدهما المعين ترجيح بلا مرجح، حيث إن احتمال انطباق الكذب على كل منهما على حد سواء. فملاك المعارضة كما انه موجود في العلم الاجمالي الاول موجود في العلم الاجمالي الثاني.

الوجه الثاني: ما يمكن انتزاعه وان لم يصرح به بهذا التفصيل سيد المنتقى «قده» في «ج5، ص112» ولكن يمكن تصيده من كلامه، وذلك بناء على عدة مقدمات:

المقدمة الاولى: ان تعارض الاصول في اطراف العلم الاجمالي ليس بنكتة لزوم الترخيص في المخالفة القطعية وحدها بل هناك ضميمة وهي ان جريان الاصل في احدهما الاخر ترجيح بلا مرجح، فاذا علمنا إجمالاً إما بنجاسة الابيض أو الازرق قلنا لا يمكن ان يشمل دليل اصالة الطهارة كليهما لأنه ترخيص في المخالفة القطعية، ولا يمكن ان يشمل احدهما المعين دون الاخر، لأنه ترجيح بلا مرجح. فنتيجة هاتين النكتيين يقال بتعارض الاصول، يعني ان الدليلين لا يشملهما اصلا لا كليهما ولا احدهما.

إذن لابُّد من التركيز على النكتة الثانية في تحقيق المعارضة، وهي: ان جريان الأصل في أحدهما المعين ترجيح بلا مرجّح.

المقدمة الثانية: لو كان في احد الطرفين مزية ثبوتية دون الآخر، كما إذا افترضنا ان احد الطرفين متأخر رتبة عن الآخر، بحيث تحصل له مزية ثبوتية، كما مثلنا في محل الكلام، نعلم اجمالا بنجاسة الابيض أو الازرق ثم لاقى الطعام الماء في الإناء الابيض. بعد ان لاقى الطعام في الإناء الابيض حل لنا علم جديد وهو: إن كان النجس هو الابيض فقد تنجس الطعام، وان كان النجس هو الازرق فيجب اجتنابه، اذن نعلم اجمالا باجتناب اما الطعام أو الإناء الازرق. إلا ان احد طرفه _وهو الطعام_ متأخر رتبة لأن احد طرفه _وهو الطعام_ إنّما دخل طرفا في العلم الاجمالي في رتبة متأخرة وهي نتيجة ملاقاته للإناء الأبيض، ففي الواقع لدينا علم اجمالي واحد وهو اما نجاسة الازرق أو نجاسة الابيض وملاقيه، فهذا العلم الاجمالي هو في الواقع هو علم واحد اما بنجاسة الازرق أو نجاسة الابيض وملاقيه، فهذا العلم الإجمالي الواقعي احد طرفيه متأخر رتبة عن الطرف الآخر، فكونه متأخراً رتبة ذو مزية ثبوتية، نظير أن يعلم المكلف أن احدى المرأتين اما فاطمة أو زينب امه من الرضاعة، ثم ان فاطمة أولدت بنتاً، فبعد ان اولدت فاطمة بنتا صار عنده علم اجمالي وهو اما ان هذه البنت اخته من الرضاعة أو ان زينب امه من الرضاعة، اما زينب محرم عليه أو فاطمة وابنتها، الا ان هذا الطرف وهو ابنتها ذو مزية ثبوتية وهو كونه متأخراً رتبة عن طرف العلم الاول «الطرف الأول للعلم».

فالسؤال: إذا كان لأحد طرفي العلم الاجمالي مزية ثبوتية على الاخر فهل يوجب ذلك جريان الاصل فيه بلا معارض فنجري اصالة الطهارة في الطعام أو استصحاب عدم ملاقاته لما هو النجس واقعاً، ونجري استصحاب عدم كون البنت اختاً له من الرضاعة بلا معارض فينحل العلم الاجمالي في الطرف المتأخر رتبة أم لا؟

قد يقال في المقام: ان الاصل الترخيصي قطعا لا يجري في الثاني، قطعا ساقط في الثاني، يعني لا تجري اصالة الطهارة في الإناء الازرق لأن جريانها فيه دون جريانها في الإناء الابيض أو في الطعام ترجيح بلا مرجح، فالأصل الإناء الازرق قطعا ساقط قطعا لا يجري، ولكن جريانه في الطعام محتمل إذ لعل تأخره الرتبي يشفع له في الجريان، فجريانه في الإناء الازرق قطعا معلوم السقوط، لأن جريانه فيه دون غيره ترجيح بلا مرجح إذ لا توجد له أيّة مزية، فإما ان الأصل ساقط فيه عقلاً بمحذور الترجيح بلا مرجح، أو ساقط فيه شرعاً بمعونة موثقة سماعة التي دلت على منجزية العلم الاجمالي في الطرفين الذين ليس لأحدهما مرجّح على الآخر: «سألته عن إناءين وقع في أحدهما قذر فكيف يصنع؟ قال: يهريقهما ويتيمم». فقد دلت على منجزية العلم الإجمالي في الطرفين الذين لا مرجح ولا مزية لأحدهما على الآخر.

إذن في محل كلامنا الإناء الازرق يسقط فيه الاصل الترخيصي قطعا، أما بمحذور عقلي أو بمحذور شرعي، بينما جريان الاصل في الطعام محتمل لأجل مزية ثبوتية. وهي تأخره رتبة. فبناءً على ذلك: نقول: لدينا عموم وهو قوله: «كل شيء لك نظيف» نقطع بتخيصيه في الإناء الازرق، نقطع بأن هذا العموم لا يشمل الإناء الازرق، فحصل لنا علم بتخصيص هذا العموم في الإناء الأزرق، ونشك في تخصيصه في الطعام الملاقي إذ لعله خرج ولعله باق مقتضى اصالة العموم ان نجريه في الطعام الملاقي فيجري فيه بلا معارض.

المقدمة الثالثة: يمكن التفصيل بين المسلكين: اي لدى الاعلام مسلكان: المسلك الاول: ان دليل الاصل العملي الترخيصي اساسا لا يشمل اطراف العلم الاجمالي يعني لا ظهور له في شمول اطراف العلم الاجمالي، اما لعدم المقتضي وهو ما ذهب اليه سيد المنتقى حيث يقول: ان موضوع الاصل هو الشك وهو خارج موضوعا عن العلم اصلا لا يشمل موارد العلم الاجمالي لعدم المقتضي فلا موضوع له.

او لوجود المانع وهو ما ذهب اليه السيد الشهيد «قده» حيث قال: بأن دليل الاصل في حد ذاته يشمل، لكن المشكلة احتفافه بارتكاز عقلائي على ان الترخيص في موارد العلم الاجمالي نقض للغرض الالزامي المعلوم، والارتكاز العقلائي بمثابة القرينة المتصلة فيوجب انصراف دليل الاصل عن موارد العلم الاجمالي، إذن المسلك الاول يقول: اصلا دليل الاصل لا ظهور له في الشمول لاطراف العلم الاجمالي اما لعدم المقتضي أو لوجود المانع.

فبناءً على دعوى الانصراف قد يقال بانه لا يشمل دليل الاصل محل الكلام وان كان لاحد الطرفين مزية ثبوتية، لأن المقصود بالمقدمة الاولى وهي قولنا: شمول دليل الاصل لكلا الطرفين ترخيص في المخالفة القطعية، وشموله لأحدهما المعين ترجيح بلا مرجح، إذن لا يجري الا إذا كان هناك مرجح، لا يقصد بالمرجح المرجح الثبوتي، وإنما يقصد بالمرجّح: المرجّح الإثباتي، يعني ان يكون لاحد الطرفين ميزة توجب انصراف الدليل اليه إثباتاً، لا مجرد ان له مزية ثبوتية لكن لا اثر لها على الظهور. فمجرد ان احد الطرفين متأخر رتبة هذه ليست مزية اثباتية، هذا نظير ان يكون احد الطرفين مظنون والآخر محتمل، نعلم بنجاسة اما الابيض أو الازرق لكن نجاسة الابيض مظنونة 6% وذاك 30%، هذا لا يكفي ما لم تكن الميزة مزية اثباتية بحيث تتصرف في الظهور، فنقول: نعم، يشمل دليل الاصل الطرف المعين وليس شموله بلا مرجح لوجود المرجح الاثباتي.

اما إذا بنينا على المسلك الثاني وهو مسلك سيدنا «قده»: من أن ادلة الاصول العلمية ظاهرة في الشمول لأطراف العلم الاجمالي، الظهور متحقق، قامت قرينة عقلية غير بديهية وهي: أن شمول دليل الاصل لكلا الطرفين ترخيص في المخالفة القطعية، هذه قرينة عقلية لكن ليست بديهية ولكن نظرية، فهي بمثابة القرينة المنفصلة لا المتصلة، إذن الظهور انعقد، وانما الكلام في الحجية، انما الكلام هل ان هذا الظهور «ظهور دليل الاصل العملي» حجة في الشمول لكليهما. يقول: لا، ليست حجة، للقرينة القطعية.

هل حجة في الشمول لاحدهما المعين؟ يقول: ليس أيضاً حجة للقرينة العقلية وهي الترجيح بلا مرجح.

فلو كان له مزيّة ثبوتية «يعني مرجح ثبوتي» فهل يحرز بناء العقلاء على رفع اليد عن الظهور لمجرد وجود العلم الاجمالي أم يقولون لما دام له مزية ثبوتية فشمول الظهور له ليس من باب الترجيح بلا مرجح بل من باب الترجيح بمرجح.

والحمد لله رب العالمين.