الدرس 60

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنه استدل على منجزية العلم الاجمالي في ملاقي أحد أطرف الشبهة المحصورة: بأن هناك علماً إجماليا إمّا بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر الذي هو عدل الملاقى. وذكرنا أنّ هناك طرقاً وحلولاً ذكرت لهذه المنجزية: الطريق الاول: ما ذكره الشيخ الاعظم «قده» وقلنا بأنه لا فرق بناء عليه بين كون العلم بالملاقاة متأخرا زمانا أو رتبة أو معاصرا.

الطريق الثاني: الذي ذكره الآخوند الخراساني، من حل للمنجزية وتبعه المحقق الاصفهاني والسيد الخوئي «قدست اسرارهم» يبتني على كون العلم بالملاقاة متأخراً زمانا عن العلم الاجمالي. فالطريق الثاني الذي سلكه الاعاظم خاص بهذا الفرد وهو كون العلم بالملاقاة متأخراً زماناً، بينما الطريق الاول عام.

ووصلنا في تقريب الطريق الثاني لما ذكره سيدنا الخوئي «قده»: من أنّ التعارض بين أصالة الطهارة في الملاقي وأصالة الطهارة في عدل الملاقى فرع جريانها في عدل الملاقى، مثلاً: إذا علمنا اجمالا اما بنجاسة الماء الأبيض أو الماء الازرق، ثم علمنا بعد ساعة بملاقاة الثوب للماء الابيض، فمنجزية العلم الاجمالي إما بنجاسة الملاقي وهو الثوب أو الماء الازرق إنما هي فرع تعارض الاصول. أي تعارض أصالة الطهارة في الثوب مع اصالة الطهارة في الاناء الازرق، ولكن هذا التعارض غير حاصل، والسر في ذلك: ان أصالة الطهارة في الاناء الازرق قد سقطت بالمعارضة في زمن سابق أي قبل ساعة قد سقطت أصالة الطهارة، فبعد سقوطها لا تعود للحياة مرة أخرى كي تعارض أصالة الطهارة في الملاقي، إذن فتجري أصالة الطهارة في الملاقي بلا معارض، وينحل به العلم الاجمالي.

ولكن يورد على كلامه «قده» ثلاث ملاحظات:

الملاحظة الاولى _كبروية_: أن المعارضة بين الاصول منوطة بثلاثة اركان: الموضوع، والمقتضي، وقيام المانع.

اما الركن الاول وهو الموضوع، فهو العلم الاجمالي، إذ لولا العلم الاجمالي لما حصل تعارض بين الاصول، فلابد من فرض علم اجمالي فعلي كي يتحقق موضوع في تعارض الاصول، فنسأل هل العلم الاجمالي الاول زال أم بقي إلى ان حصل العلم بالملاقي؟ لا اشكال ان العلم الاجمالي الاول باق حيث علم اجمالا اما بنجاسة الأبيض أو الازرق وبعد ساعة علم بالملاقى أي علم بملاقاة ثوبه للأبيض الا ان العلم الاجمالي الاول ما زال باقياً، فالموضوع للمعارضة الأولى ما زال باقياً حتى بعد حصول العلم الاجمالي الثاني.

الركن الثاني: فهو المقتضي والمقصود بالمقتضي نفس شمول دليل الاصل العملي لكل من الطرفين في ذاته لأننا لو فرضنا كما يقول سيد المنتقى «قده» ان الدليل خارج موضوعا عن العلم الاجمالي فلا تصل النوبة لتعارض الاصول، فتعارض الاصول فرع المقتضي، أي فرع وجود دليل يشمل كلاًّ من الطرفين في حدّ ذاتهن وهذا موجود، فإن دليل أصالة الطهارة يشمل الملاقي بحد ذاته ويشمل عدل الملاقى وهو الاناء الازرق في حد ذاته.

الركن الثالث: قيام المانع، والمانع هو العلم الاجمالي بكذب احدى الدلالتين، فإن دليل أصالة الطهارة قلنا يشمل الملاقي في نفسه، يشمل الاناء الازرق في نفسه، لكننا نعلم بكذب احدى الدلالتين أي دلالته على الشمول لكل منهما قطعاً احدى الدلالتين كاذبة لأن احدهما نجس قطعاً. فملاك المعارضة هو التنافي بين الدلالتين للعلم بكذب احداهما ولا حكومة لاحداهما على اخرى، إذ المفروض ان ليس في احدهما مرجح دلالي يصرف الظهور اليه، فالنتيجة الدلالتان متساويتان ونعلم بكذب احدهما. فبما ان هذا ملاك المعارضة فهذا موجود في شمول دليل أصالة الطهارة للثوب أو الاناء الازرق، وان كان هذا الدليل صار فعليا في الاناء الازرق من قبل ساعة الا ان فعليته في احد الطرفين في زمن سابق لا ترفع المعارضة، لأن هذه المعارضة من اول الامر لا من الآن أي ان دليل أصالة الطهارة من الاول لا يشمل طرفي العلم الاجمالي معا وليس هذا ينتظر فيه ان يحصل علم اجمالي ثم يحصل علم بالملاقاة ثم تحقق المنافاة، بل من الاول دليل أصالة الطهارة لا يشمل طرفين يعلم اجمالا بكذب احدى الدلالتين، فاذا كان التنافي من الاول فلا يضر فيه انه صار فعليا في أحد الطرفين قبل الآخر بساعة ما دام التنافي بملاكه موجوداً من الأول. فالنتيجة على كلام سيدنا «قده»: هو وجود معارضة بين أصالة الطهارة في الملاقي وهو الثوب واصالة الطهارة في عدل الملاقى وهو الماء الازرق فيكون العلم الاجمالي من هذه الجهة منجزاً.

الملاحظة الثانية: ما ذكره شيخنا الاستاذ «قده»: قال بأن ما ذكره السيد الخوئي محل تأمل في بعض الفروع، حيث إن هناك مثالين تعرض لهما صاحب الكفاية «قده» وافاد بأنه في هذين المثالين يتنجز العلم الاجمالي في الملاقي دون الملاقى، وتبعه السيد الخوئي «قده»:

المثال الاول: أن يعلم بنجاسة الثوب أو الاناء الازرق، علم بقطرة دم اما في الثوب أو الاناء الازرق، ثم بعد ساعة علم بأن الثوب إذا كان هو نجس فنجاسته من الاناء الابيض، فأولاً علم بنجاسة اما الثوب أو الاناء الازرق ثم بعد ساعة علم بأنه ان كان النجس هو الثوب فنجاسته جاءت من ملاقاته للإناء الابيض، فعلى مسلكه ومسلك صاحب الكفاية: من ان العلم الاجمالي الثاني غير منجز تجري أصالة الطهارة في الاناء الأبيض بلا معارض، لسقوط أصالة الطهارة في رتبة وزمن سابق. فإذا جرت أصالة الطهارة في الاناء الأبيض بلا معارض جرت في الثوب ايضاً إذ لا يتصور ان يكون الملاقى طاهراً لكن الملاقي نجس. فعلى مسلكك من أن العلم الاجمالي المتأخر زمانا غير منجز لسقوط الاصل في رتبة سابقة تجري أصالة الطهارة في الاناء الأبيض بلا معارض. لكن لازم ذلك الخلف، لأن طهارة الاناء بالأصل تعني طهارة الثوب لأن نجاسة الثوب جاءت إنما جاءت منه، فإذا كان طاهرا بتعبد من الشارع كان الثوب طاهرا بتعبد من الشارع وهذا خلف منجزية العلم الإجمالي الأول. فإن لم يقبل ذلك فعلى الاقل: نقوم ونغسل الثوب بالماء بالإناء الابيض، فاذا غسلنا الثوب بماء الاناء الأبيض حصل علم بطهارته، لأنه ما علمت نجاسته اما علما تفصيليا أو اجماليا إذا غسل بما طاهر تعبدا فهو طاهر وهذا الثوب غسل بماء طاهر تعبدا لجريان اصالة الطهارة في الاناء الابيض بلا معارض فهو طاهر.

فإن قلت: _ما يقول السيد الشهيد_: ان الاصل العملي انما يجري إذا احتمل ان له اثرا جديداً، اما إذا نقطع بأن جريان الاصل العلمي لا يحتمل اثرا جديداً فجريانه لغو، فبناء على مسلك السيد الشهيد: قد يشكل في المقام فيقال: بأننا عندما قمنا بغسل الثوب بماء الاناء الابيض نقطع بأن هذا الغسل لم يحدث اثراً جديداً، لانه إن كان الثوب متنجساً فالماء متنجس، لأن نجاسته جاءت منه فغسله به لا اثر له. وإن كان الثوب طاهراً من الاول فالغسل لم يحدث فيه طهارة جديدة، إذن بالنتيجة نحن نقطع بأن جريان أصالة الطهارة في ماء الاناء الأبيض بعد غسل الثوب به لا اثر له، فالثوب اما نجس من الاول فيبقى نجس وما طاهر من الاول فما هو الجدوى من ذلك.

والجواب: بأن جريان الاصل منوط بعدم اللغوية ويكفي في عدم اللغوية بأن له اثرا فعلي، وان لم يحدث اثرا جديداً، مثلا: إذا كان لدينا ثوب متنجس في الدم، وغسلناه بمائع مردد بين كون المائع ماء أو كونه بولاً، فبعد ان غسلناه بالمائع المردد بين كونه ماء أو بولا يجري استصحاب النجاسة لأننا لا ندري غسل بماء أو لا؟

فلو قمنا بغسله بماء قليل مرة واحدة لم يجري استصحاب النجاسة، مع أننا نقطع بأن هذا الغسل الثاني لم يحدث اثراً جديداً، فإن الثوب المتنجس في الثوب ان كان غسل اولاً بالماء فقد طهر فلا حاجة إلى الغسل الثاني، وان قد غسل بالبول فهذه المرة الواحدة لا تكفي في طهارته بل نحتاج الى تطهيره مرة أخرى، لان الماء قليل. إذن نحن نقطع بأن هذا الغسل الثاني لا اثر له، مع انه اثره قطع الاستصحاب.

حيث نقول: كل منتجس غسل بماء طاهر ولم يكن متنجسا بالبول فهو طاهر وهذا المتنجس بالدم غسل بماء طاهر جزما وهو الغسلة الثانية، ولم يكن متنجسا بالبول ببركة الاستصحاب. فبضم استصحاب عدم نجاسته بالبول مع غسله وجدانا بماء طاهر يحكم بطهارته.

ومن الامثلة التي ذكرها «قده»: من شك بعد الطواف في كون طوافه بوضوء أم لا؟.

فبعد ان فرغ من الطواف شك في ان طوافه كان عن وضوء أو لا؟ فقال الاعلام: تجري قاعدة الفراغ في الطواف ويجري استصحاب عدم الوضوء بالنسبة الى ركعتي الطواف فلابد ان يتوضأ، مع انه يقطع بأن الوضوء لركعتي الطواف لم يحدث اثراً، لأنه إن كان على وضوء فلا حاجة إلى هذا الوضوء، وان كان من دون وضوء فحتى لو توضأ لصلاة الطواف تكون باطلة لبطلان الطواف. إذن الوضوء لصلاة الطواف جزما ليس له اثر جديد مع أنه يصحح ركعتي الطواف بلا إشكال، لأن المصحح لركعتي الطواف أن تكون ركعتان بطهارة مسبوقة بطواف صحيح، وهاتان الركعتان بطهارة وجدانا ومسبوقة بطواف جديد بمقتضى التعبد بقاعدة الفراغ، إذن ليس الملاك في جريان الاصل ان يحدث اثر جديداً، وإنما الملاك في جريان الاصل ان له اثرا فعليا وان كان حل العلم الاجمالي او قطع الاستصحاب او ما أشبه ذلك. فهذه هي الملاحظة الثانية على كلام سيدنا «قده».

الملاحظة الثالثة: ان كلامه «قده» جار في فرض ان لا يكون في احد طرفيه خطاب مختص. مثلاً إذا علمنا اجمالاً اما بنجاسة الثوب أو بنجاسة التراب. فتتعارض أصالة الطهارة فيهما، لأنه يعتبر في صحة الصلاة في الثوب الطهارة ويعتبر في صحة التيمم بالتراب او السجود عليه الطهارة، فتتعارض اصالة الطهارة فيهما. فاذا تعارضت وصلت النوبة في الثوب دون التراب للبراءة عن مانعية الصلاة به لأن النجاسة مثلا مانع من صحة الصلاة نشك في كونه مانعا فنجري البراءة عن مانعيته وهذا خطاب مختص بالثوب، اذ لا معنى لجريان البراءة في مسالة طرف التراب. لو فرضنا بعد ذلك أي بعد ان علمنا بالنجاسة اما في الثوب أو في التراب حصل لنا علم بملاقاة ماء لذلك التراب النجس، فالعلم بالملاقاة جاء متأخراً، هنا أصالة الطهارة في الماء الملاقي للتراب المعلوم نجاسته اجمالا ليست بلا معارض لأنها تعارض بأصالة البراءة عن مانعية الصلاة في الثوب.

نعم، قد يورد على ذلك بعد تعارضهما هل هناك خطاب مختص بالماء وهو أصالة الحل بجوز شربه وهذه لا تأتي في الثوب.

هذا تمام الكلام في الملاحظات على ما افاده سيدنا «قده».

والحمد لله رب العالمين.