الدرس 61

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في أن العلم الإجمالي في ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة هل هو منجز أم لا؟ وذكرنا أن هناك طرقاً لبيان عدم منجزيته، وكان الطريق الأول للشيخ الأعظم «قده» وهو عبارة عن أن الاصل الجاري في ملاقي أحد الطرفين أصلاً طولياً مع غمض النظر عن كون العلمين متعاصرين أم متفاوتين زماناً. والطريق الثاني: ما سلكه صاحب الكفاية والمحقق الاصفهاني وسيدنا الخوئي «قدست أسرارهم» من أنّ المدار على أن العلم الاجمالي بملاقاة أحد الطرفين هل هو متأخر زماناً أم لا؟. فإذا كان العلم الاجمالي بالملاقاة متأخراً زماناً لم يكن منجزاً. هذا سبق البحث فيه.

الطريق الثالث: ما ذهب اليه المحقق العراقي «قده» من أن المدار على الرتبة لا على الزمن، أي ليس المناط هو ان العلم الثاني متأخر زماناً أم معاصر، وإنما المناط ان العلم الثاني متأخر رتبة أم لا؟ لذلك قسّم المحقق العراقي «قده» البحث إلى ثلاث صور:

الصورة الاولى: أن يكون العلم الاجمالي بالملاقي متأخراً رتبة عن الأول، مثلاً: علمت اجمالاً بنجاسة الماء الأبيض أو الماء الازرق، وعلمت اجمالاً بنجاسة يدي أو الماء الأزرق والسبب في العلم الاجمالي الثاني هو الاول، أي لولا علمي بنجاسة الأبيض أو الأزرق لما علمت بنجاسة يدي أو الازرق، لأن نجاسة يدي إن حدثت فهي ناشئة عن الملاقاة للنجس، فالعلم الثاني متولد عن الاول متأخر عنه رتبة وان كانا متعاصرين زماناً، فأنا في آن واحد علمت بنجاسة الأبيض أو الأزرق وفي نفس الآن علمت بنجاسة يدي أو الأزرق لأجل ملاقاة يدي لما هو النجس.

الصورة الثانية: ان اعلم بنجاسة يدي أو الإناء الأزرق ابتداءً، اعتقدت في البداية ان هناك قطرة دم وقعت على يدي أو الإناء الازرق، فأنا معتقد اما بنجاسة اليد أو الإناء الازرق، ثم تبين لي ان يدي ان كانت نجسة فنجاستها ناشئة من ملاقاة الإناء الابيض، هنا الامر العلم الاجمالي الثاني بنجاسة احد الطرفين تولد من العلم الاجمالي الاول، أي لولا علمي بنجاسة يدي أو الأزرق لما حصل لي علم بنجاسة الأبيض أو الأزرق لأن السبب في العلم الاجمالي الثاني انني علمت ابتداء بنجاسة يدي أو الازرق، ثم قلت: إن كانت يدي نجسة فنجاستها من الإناء الأبيض. فالعلم الاجمالي بنجاسة الأبيض أو الأزرق تولد عن العلم الاجمالي الاول بنجاسة يدي أو الازرق.

الصورة الثالثة: ان لا يكون بين العلمين ترتب، كما اذا علمت اجمالا بنجاسة الأبيض أو الازرق، وعلمت اجمالا بنجاسة يدي أو الأزرق واحتملت انها نجاسة اخرى غير تلك النجاسة أي علمت بوقوع قطرة دم في الأبيض أو الأزرق ثم علمت بنجاسة في يدي أو الأزرق ولعلها نجاسة اخرى، فالعلمان ليس بينهما ترتب، لو تبين لي بعد ذلك ان النجاسة في اليد لو كانت فهي من ملاقاة الأبيض مع ذلك لا يتغير الامر يبقى العلمان الاولان على حالهما من عدم الرتبية.

بعد بيان الصور الثلاث قال: أي علم متأخر رتبة في الصورة الأولى أو الثانية فهو ليس بمنجز؛ لما ذكره في التنبيه السابق. ذكرنا هذا البيان له في التنبيه السابق وهو: انه في الصورة الاولى: علمت بنجاسة الأبيض أو الأزرق وعلمت بنجاسة يدي أو الأزرق لأن يدي لاقت ما هو النجس، فيقول حينئذ العلم الاجمالي الثاني وهو العلم اما بنجاسة يدي أو الأزرق هل ينجس الأزرق بنفس تنجس السابق أو بتنجس جديد؟

فإن كان العلم الاجمالي الثاني موجباً لنفس المنجزية التي حدثت في العلم الاول وهو العلم الاجمالي بنجاسة الأبيض أو الازرق، هذا غير معقول، لأن العلم الاجمالي الثاني متأخر رتبة عن الاول، يعني ان التنجز بالعلم الاول هو في رتبة الثاني وليس معلولاً له كي يكون العلم الاجمالي الثاني سببا لمنجزيته ما دامت المنجزية سابقة عليه فهي في عرضه وليست معلولا له واثرا له.

وإن قلتم بانه احدث تنجزا جديد يعني الأزرق تنجز مرتين تنجز بالعلم الاول وتنجز بالعلم الثاني. فيقال: ان العلم الاجمالي لا يتنجز.

وجواب هذا البيان اتضح مراراً: بلحاظ ان نسبة العلم الاجمالي للمنجزية نسبة الموضوع إلى الحكم وبالتالي فلا مانع من حدوث منجزية جديدة للأزرق استنادا إلى العلمين معاً.

ثم انه يرد على كلام المحقق العراقي: انه في المثال الاول الذي اشار اليه صاحب الكفاية وهو انه: اذا علمت اجمالا بنجاسة إناء جاري أو انائي، وعلمت في نفس الوقت بملاقاة يدي لإناء جاري أي حصل لي علم اجمالي آخر اما بنجاسة يدي أو نجاسة انائي، فحينما حدث العلمان كان إناء جاري خارجا عن محل ابتلائي ومقتضى ذلك ان العلم الاجمالي الاول وهو اما نجاسة جاري أو نجاسة إنائي ليس منجز لأن احد طرفيه خارج عن محل الابتلاء. ولكن العلم الاجمالي الثاني اما بنجاسة يدي أو نجاسة انائي منجز لأن كلا من الطرفين داخل في محل الابتلاء. هذا يسلم به المحقق العراقي كما يسلم به صاحب الكفاية.

بعد ذلك صار إناء جاري داخل في محل ابتلائي كأن رمى الجار الإناء في داري فدخل الإناء في محل ابتلائي، فعلى مبنى العراقي من ان كل علم متأخر رتبة ليس منجزاً، الان بعد ان دخل جاري محل ابتلائي العلم المتأخر رتبة هو نجاسة اليد أو إنائي، لأنه بعد أن دخل إناء جاري في محل ابتلائي قلت: عندي علم بنجسة إنائي أو إناء جاري الداخل في محل ابتلائي فعلمي إما بنجاسة يدي أو نجاسة انائي متأخر رتبة لأن نجاسة يدي لو كانت فهي متولدة من ملاقاة إناء جاري. فمقتضى كلامه ان يقول: ان العلم الاجمالي هو بنجاسة يدي أو نجاسة انائي الذي كان منجزا قبل ان يرميه علي جاري صار الآن غير منجز بعد أن رمى عليّ الإناء، لأنه قبل ان يرمي الإناء ما كان هذا متأخر رتبة عن شيء، وبعد ان رمى الإناء علي صار العلم الاجمالي بنجاسة يدي أو انائي متأخر رتبة عن ذلك العلم، فمقتضاه ان تزول المنجزية عن هذا العلم الاجمالي بنجاسة يدي أو انائي.

لكنه لا يقول بذلك، وحاول السيد الشهيد في «البحوث» ان يرمم كلام العراقي وجهين لا نحتاج إلى ذكرهما لوضوح ضعفهما. فراجع. فالنتيجة: أن ما ذكره المحقق العراقي من ان العلم الاجمالي المتأخرة رتبة ليس بمنجز ممنوع.

الطريق الرابع: ما ذكره سيدنا الخوئي «قده» في «الدراسات» وانما نتعرض له لأنه عدل عنه في مصباح الاصول لأنه رتب عليه بعض الآثار الفقهية.

فقد افاد في «الدراسات»: ليس المدار في عدم المنجزية على ان الاصل طولي كما ذهب اليه الشيخ الاعظم، وليس المدار على عدم المنجزية في ان العلم الاجمالي متأخر زمانا كما ذهب اليه هو في الطريق الثاني. وليس المدار على عدم المنجزية على ان العلم الثاني متأخر رتبة كما ذهب اليه المحقق العراقي وهو الطريق الثالث.

فالمدار على المعلوم لا على العلم، كل الوجوه الثلاثة تركز على العلم نفسه. نحن نركز على المعلوم: هل الملاقاة كانت متعاصرة زماناً مع النجاسة أم لا؟. سواء كان العلم بالملاقاة متقدما زمانا أو متأخراً زمانا، المعلوم بالملاقاة ما هو زمانه؟ بيان ذلك: علمت بنجاسة الأبيض أو الأزرق وفي نفس الوقت علمت بملاقاة يدي للأبيض في وقت علمي بالنجاسة، فالملاقاة والنجاسة متعاصرة. واضح المنجزية هنا في كلا العلمين. علمت بنجاسة الأبيض أو الازرق، بعد ساعة علمت بملاقاة يدي للإناء الابيض، لكن علمت بملاقاة يدي للإناء الأبيض بعد ساعة العلم الان لكن المعلوم سابق، علمت الان بملاقاة يدي للإناء الأبيض منذ ساعة هنا أيضاً كلا العلمين منجز الاول والثاني مع ان العلم الثاني متأخر زمانا، لكن حيث إن المعلوم وهو الملاقى معاصر زماناً للنجاسة إذن فهو منجز. بينما بمجرد ان اعلم ان الملاقاة متأخرة زماناً يعني علمت بنجاسة الإناء الأبيض أو الأزرق الآن وعلمت بعد ساعة بملاقاة يدي للأبيض، لكن لاقته الآن لا قبل ساعة، فالعلم بالملاقاة متأخر والملاقاة أيضاً المعلومة متأخرة. هنا لا يكون العلم الاجمالي الثاني منجزاً، قال «قده» لأمرين:

الامر الاول: أن المدار في المنجزية على العلم الفعلي، لا على حدوث العلم، والعلم الفعلي تبدل صار علما ثاني. بيان ذلك: إذا علمت بنجاسة الأبيض أو الأزرق ثم بعد ساعة علمت بملاقاة يدي للأبيض من قبل ساعة فالعلم الاول والثاني صار علما واحداً انني اعلم بنجاسة الأزرق أو الأبيض ويدي، إذ ما دامت الملاقاة متعاصرة زماناً بالعلم بالنجاسة إذن بالنتيجة صحيح العلم بالملاقاة متأخر لكن بما ان الملاقاة المعلومة متقدمة إذن صار من مجموع العلمين علم واحد، وهو: اما نجاسة الأزرق أو نجاسة الأبيض ويدي. فهذا العلم الاجمالي منجز وان كان في جهة طرف واحد وفي جهة طرفين. تعدد الاطراف لا يؤثر في منجزية العلم.

الامر الثاني: إذا كانت الملاقاة نفسها متأخرة زماناً، يعني بعد ساعة علمت بالملاقاة الآن لا عملت بها قبل ساعة، بعد ساعة علمت الآن بملاقاة يدي للأبيض، هل هذا يحدث علما منجزا وهو اما نجاسة يدي أو الازرق، يقول: لا، لأنه ليس علما بتكليف جديد، وذلك أقول: اما نجاسة الأزرق فهي معلومة من الاول، واما نجاسة يدي فهي مشكوكة بدواً، إذ لعل الملاقاة صارت بعد زوال النجاسة فليس لي علم بتكليف فعلي على كل حال، ان كانت النجاسة في الأزرق فهو تكليف فعلي من الاول، والا فالنجاسة في يدي مشكوكة. فالنتيجة عن السيد الخوئي «قده» في «الدراسات»: أنه متى ما كانت الملاقاة المعلومة متأخرة زمانا عن العلم بالنجاسة لم يكن العلم بها منجزا لأنه ليس علماً بتكليف علي على كل تقدير.

والحمد لله رب العالمين.