الدرس 62

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام فيما ذكره سيدنا الخوئي «قده» في «مصباح الاصول» وقد أطال الكلام في «مصباح الاصول» في هذا التنبيه من «ص467 - 494». وتفصيل الكلام أن في المسألة صوراً:

الصورة الأولى: أن تكون الملاقاة والعلم بها متأخرين زماناً عن العلم بالنجاسة. وهي الصورة المتعارفة في محل البحث، كما إذا علم إما بنجاسة الماء «أ» أو نجاسة الماء «ب» وبعد ساعة علم بأن اليد الآن لاقت الإناء «أ» فحصل له علم جديد وهو إما نجاسة يده أو نجاسة ماء «ب»، فإن اليد ان لاقت «أ» وكان هو النجس فقد تنجست، وإلا فالنجاسة في «ب».

وهنا ذكر سيدنا «قده» في «ص476 وص480»: ان مناط منجزية العلم الاجمالي تعارض الاصول، ومناط تعارض الاصول أن يلزم من جريان الاصل في كلا الطرفين الترخيص في المخالفة القطعية، وأن يلزم من جريانه في أحدهما دون الآخر الترجيح بلا مرجح، فمتى ما كان في أحد الطرفين منجز غير العلم الاجمالي سواء كان منجزاً شرعياً أو منجزاً عقلياً أو منجزاً وجدانياً جرى الاصل في الطرف الآخر بلا معارض فانحل به العلم الاجمالي، ثم ذكر الامثلة، فقال:

أما المنجز الشرعي، فمثلاً: لو علم المكلف إما بنجاسة ماء «أ» أو نجاسة ماء «ب» وكان ماء «أ» مستصحب النجاسة أي انه في نفسه مستصحب النجاسة قبل العلم الاجمالي، فلا محالة حينئذ النجاسة تنجزت في إناء «أ» بمنجز شرعي وهو استصحاب النجاسة مع غمض النظر عن العلم الاجمالي؛ فاذا حصل العلم الاجمالي فليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير لأنه ان كانت النجاسة المعلومة بالاجمال في المستصحب فقد تنجزت من الاول، وان كان في غيره فهي مشكوكة، إذن بالنتيجة لا يوجد علم بتكليف فعلي على كل تقدير. فلا تجري اصالة الطهارة في ماء «أ» لأنه مستصحب النجاسة، فتجري في إناء «ب» بلا معارض وينحل به العلم الاجمالي.

وأما المنجز العقلي: فكما إذا علم المكلف انه ترك صلاة العصر أو ترك صلاة العشاء، فحينئذٍ بالنسبة الى صلاة العشاء يوجد لها منجز في رتبة سابقة على العلم الاجمالي وهي قاعدة الاشتغال فإن المكلف إذا شك في الإتيان بالصلاة وكان الوقت باقياً فمقتضى قاعدة الاشتغال هو الإتيان، إذن بالنسبة لصلاة العشاء يوجد منجز عقلي وهو قاعدة الاشتغال لاجل ذلك ان العلم الاجمالي اما ترك العشاء أو ترك العصر ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير، إذ لو كان المعلوم هو ترك صلاة العشاء فهو متنجز بقاعدة الاشتغال، وإن كان هو ترك صلاة العصر فهو مشكوك فتجري قاعدة الحيلولة أو البراءة بالنسبة لصلاة العصر بلا معارض وينحل به العلم الاجمالي.

وأما المنجز الواجداني: فكما إذا اشترك علمان في طرف واحد _هذا التنبيه السابق على هذا التنبيه الذي نحن اختلفنا فيه مع السيد «قده» _: فإنه إذا علم اجمالا اما بنجاسة الماء الأبيض أو الماء الازرق ثم علم اجمالا اما بنجاسة الازرق أو نجاسة الاحمر، فالعلم الاول منجز لتعارض الاصول في طرفيه، اما العلم الثاني فلا، لأن الإناء الازرق قد تنجز بمنجز سابق وهو العلم الاجمالي الاول فبما انه تنجز بمنجز واجداني سابق وهو العلم الاجمالي الاول فليس لدى المكلف علم بتكليف فعلي على كل تقدير، إذ على تقدير ان المعلوم بالعلم الثاني النجاسة في الإناء الازرق فقد تنجزت بعلم سابق، وعلى تقدير انها في الإناء الاحمر فهي مشكوكة، اذن تجري اصالة الطهارة في الإناء الاحمر بلا معارض وينحل العلم الاجمالي الثاني. وان كنا ناقشناه في هذا المثال في التنبيه السابق.

ثم يقول: وبناء على هذه القاعدة التي حررناها: من أنه قد يجري الاصل في احد الطرفين بلا معارض وينحل به العلم الاجمالي فنقول في المقام: إذا علم اجمالاً اما بنجاسة إناء «أ» أو نجاسة إناء «ب» ثم بعد ساعة لاقت يده إناء «أ» فتولد لديه علم الآن: ان كان النجس «أ» فقد تنجست يدي والا فالنجس باء، فهنا علم اما بنجاسة يدي أو نجاسة إناء «ب»، فيقول: هذا العلم الثاني ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير، إذ على تقدير أن النجاسة المعلومة هي في «ب» فقد تنجزت بالعلم الإجمالي السابق، وعلى تقدير انها في يدي فهي مشكوكة فمقتضى ذلك: هو جريان اصالة الطهارة في يدي بلا معارض. أو فقل: إن اصالة الطهارة في يدي لا تعارضها اصالة الطهارة في «ب» لأن اصالة الطهارة في «ب» سقطت بالمعارضة مع اصالة الطهارة في إناء «أ» في زمن سابق والسابق لا ينهض مرة اخرى للمعارضة. فهذا الكلام هو الذي قررناه عنه سابقاً ومرّت المناقشة فيه فلا نكرر.

الصورة الثانية: قال: إذا كانت الملاقاة متحدة زمانا مع النجاسة لا ان الملاقاة متأخرة زماناً عن العلم بالنجاسة كما في الصورة السابقة بل ان الملاقاة متحدة زمانا مع النجاسة، مثلاً: إذا كان ثوبي في ماء، وعلمت اما بنجاسة هذا الماء أو نجاسة الماء الآخر، اذن فالملاقاة هنا متحدة مع العلم بالنجاسة يعني ان كانت النجاسة في هذا الماء الذي فيه ثوبي فهو ملاقي للنجس بالفعل، فالملاقاة متحدة مع زمان النجاسة، في هذه الصورة إذا علمت بالنجاسة اما في هذا الماء الذي فيه ثوبي أو في غيره، هل هذا العلم الاجمالي منجز أم لا؟

قال: نعم، هو منجز، خلافاً للشيخ الأعظم، وفاقاً لصاحب الكفاية. أما أنه الشيخ الاعظم «قده» في «الرسائل»: أفاد بأن اصالة الطهارة في الثوب اصل طولي أي متأخر رتبة عن اصالة الطهارة في الماء، والوجه في التأخر الرتبي: ان طهارة الثوب متفرعة على طهارة الماء، فإنه ان كان الثوب نجسا فإن الثوب الملاقي له نجساً وإلا فهو طاهر ان لم يتنجس بمتنجس آخر. فبما ان حالة الثوب متفرعة على حالة الماء اذن الاصل الجاري في الثوب متاخر رتبة عن الاصل الجاري في الماء وبناء على ذلك: فقد تعارضت اصالة الطهارة في هذا الماء الذي فيه ثوبي مع اصالة الطهارة في الماء الآخر في رتبة سابقة، والآن في رتبة متأخرة وهي رتبة المعلولية القائمة بالثوب تجري اصالة الطهارة في الثوب بلا معارض، لأن اصالة الطهارة في الماء الآخر قد سقطت بالمعارضة في رتبة سابقة.

وقد ذكر سيدنا الخوئي «قده»: ان الحق في هذا المسالة مع صاحب الكفاية الذي ذهب الى المنجزية، فيجب اجتناب الثوب كاجتناب الماءين معاً. ذكر وجهين نحن ذكرناهما فيما سبق ولكن من باب التأكيد نذكرها: الوجه الاول: هل أن الرتب العقلية دخيلة في الاحكام الشرعية أم لا؟

فأفاد «قده»: بأن الرتب العقلية دخيلة في الاحكام العقلية لا في الأحكام الشرعية. بيان ذلك: وجود العلة متقدم رتبة على وجود المعلول وان كانا متعاصرين زماناً، فبما انه متقدم رتبة لذلك يقال: لا يمكن عقلاً ان يتقدم وجود المعلول على وجود العلة زماناً ولا يمكن ان يتأخر عنه زمانا، فهذا الحكم العقلي وهو استحالة انفكاك وجود المعلول عن وجود العلة زماناً مبني على التقدم الرتبي، أي لأن وجود المعلول مترشح من وجود العلة فلا يمكن أن يتقدم أو يتأخر عنه زماناً، إذن فالرتبة اصبحت دخيلة في الحكم العقلي.

وأما إذا جئنا الى الحكم الشرعي: كحكم الشارع بالطهارة على شيء أو بالنجاسة على شيء فإن الحكم في فعليته تابع لفعلية موضوعه زمانا، أي متى ما كان موضوعه فعليا بحسب الزمان كان الحكم الشرعي فعليا ولا علاقة لذلك في الرتب العقلية. فمثلاً:

لو كان لدينا موضوعان فعليان في زمن واحد، فإن لكل موضوع فعلي حكما فعلياً فالحكمان متعاصران زمانا لأن الموضوعين متعاصران زمانا وان كان بين الموضوعين اختلاف في الرتبة فاختلاف الرتبة لا اثر له على الحكم الشرعي فإن فعليته تابعة لفعلية الموضوع زماناً، فلو كان هناك موضوعان فعليان زمانا لكان الحكمان ايضاً فعليين زماناً وإن كان بينهما اختلاف في الرتبة.

لأجل ذلك يقول سيدنا «قده»: عندنا إناء مشكوك الطهارة وعندنا ثوب ملاقي له مشكوك الطهارة فكون الماء «أ» مشكوك الطهارة موضوع فعلي لحكم الشارع باصالة الطهارة، وكون الثوب الملاقي له مشكوك الطهارة فهو موضوع فعلي لحكم الشارع باصالة الطهارة، فبما ان الموضوعان متعاصرين زماناً، إذن الطهارتان المحكومتان شرعاً متعاصران زماناً وإن كان بين الطهارتين اختلاف في الرتبة، فإن اختلاف الرتبة لا اثر له في الاحكام الشرعية، إذ لم يقم دليل على اعتبار الرتب في الاحكام الشرعية بل مقتضى اطلاق الادلة هو عدم دخلها، فالشارع يقول: بأن الملاقى والملاقي طاهران فعلا وان كان بين الطهارتين اختلاف في الرتبة.

إذن فلا معنى لهذه الحكاية من ان اصالة الطهارة في الملاقي متأخرة رتبة عن اصالة الطهارة في الماء الملاقى فإنها وان تأخرت رتبة الا ان هذا لا دخل لها في الحكم الشرعي بل هما متعاصران زمانا.

الوجه الثاني: سلّمنا جدلاً أن الطولية معتبرة والرتب معتبرة، لكن طهارة الملاقي وإن كانت متأخرة رتبة عن

طهارة الملاقى لكنها ليست متأخرة رتبة عن الطرف الثاني للعلم الاجمالي وهو الماء الآخر. لما قُرر في الفلسفة: فإن المتأخر رتبة عن المساوي ليس متأخر رتبة عن مساويه، مثلا: وجود المعلول متأخر رتبة عن وجود العلة، لكن هل هو متأخر رتبة عن وجود العلة، لكن هل هو متأخر رتبة عن عدم العلة؟ مع ان وجود العلة وعدمها في رتبة واحد، مع ان وجود وعدمها متساويان في الرتبة لكن المتأخر رتبة عن الوجود ليس متأخراً رتبة عن العدم، فوجود المعلول متأخر رتبة عن وجود العلّة لكن هذا لا يعني انه متأخر رتبة عن عدم العلة وإن كان وجود العلة وعدمها متساويين رتبة، والسر في ذلك: ما ذكر في الفلسفة: من ان التقدم والتأخر الرتبي يحتاج الى ملاك يقتضيه، والملاك موجود بين وجود العلة وبين وجود المعلول وهو الترشح، حيث إن الترشح هو الذي اقتضى تأخر الرتبي فصار المعلوم متأخر رتبة عن وجود العلة، وهذا الملاك وهو الترشح ليس موجوداً بين عدم العلة وعدم المعلول أو بين عدم العلة أو وجود المعلول، فلا يكون وجود المعلول متأخراً رتبة عن عدم العلة. ونفس الكلام نقول به في المقام: ان الطهارة الشرعية الظاهرية في الملاقي متأخرة رتبة عن الطهارة الظاهرية في الماء الملاقى والماء الملاقى مساوي بحسب الرتبة بحسب الرتبة لعدله وهو الماء الاخر، إلّا أنّ هذا لا يقتضي أن تكون الطهارة الظاهرية في الثوب الملاقي متأخرة رتبة عن الطهارة الظاهرية في الماء الاخر. لأن ملاك التأخر الرتبي ليس موجوداً بينهما. فمقتضى ذلك: ان اصالة الطهارة في الماء الآخر معارضة لأصلين في الطرف الثاني وهما: اصالة الطهارة في الملاقى واصالة الطهارة في الملاقي. لأن لدينا علماً إجمالياً إما بنجاسة ماء «ب» أو نجاسة «أ» وملاقيه معاً، فأصالة الطهارة في ماء «ب» معارضة لاصلين في طرف «أ» فلا يتم ما ذكره الشيخ الاعظم من عدم المنجزية.

وما افاده «قده» متين وجيه في مناقشة الشيخ الاعظم، وأنّ مقتضى اطلاق الادلة تعارضها في هذا الفرض فيكون العلمان منجزين، يعني العلم الاجمالي بنجاسة ماء «أ» أو «ب» والعلم الاجمالي بنجاسة الثوب أو «ب» لأن زمان الملاقاة وزمان النجاسة المعلومة اجمالاً متحد.

وأما الصورة الثالثة: وهو ما إذا كان الزمان مختلفا أي أنّ زمان الملاقاة متأخر عن زمان النجاسة وإن كان العلمان متعاصرين. فيأتي الكلام فيها إنشاء الله.

والحمد لله رب العالمين.