الدرس 69

انحلال العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في أنّ الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة هل يجب الاجتناب عنه بمقتضى منجزية العلم الاجمالي أم لا؟ وذكرنا أنّه هل يُدّعى وجوب الاجتناب عنه لأحد وجوه:

الوجه الأول: دعوى أن الدليل الدال على نجاسة الملاقى هو بنفسه دال على نجاسة الملاقي بلحاظ أن نجاسة الملاقي مترشحة من نجاسة الملاقى، وقد مر البحث في هذا الدليل.

الوجه الثاني: دعوى وجود علم إجمالي ثاني أي إذا علمنا بنجاسة الإناء الأبيض أو الإناء الأزرق ثم لاقى الثوب الإناء الأبيض حصل علم اجمالي جديد وهو العلم إما بنجاسة الثوب أو نجاسة الماء الازرق، وهذا العلم منجز، وسبق أن ذكرنا طرقا عديدة لحل هذا العلم الاجمالي حكماً.

الوجه الثالث: ما ذكره السيد الشهيد «قده» من أن هناك وجها لوجوب اجتناب الملاقي وإن لم يكن العلم الاجمالي الثاني منجزاً. وبيان ما ذكره «قده» في أمور:

الأمر الاول: وقع بحث كبروي بين الفقهاء في أن الحرمة هل تكون فعلية قبل فعلية موضوعها أم لا؟

فلا إشكال أن الوجوب لا يكون فعليا قبل فعلية موضوعه، فمثلا وجوب الحج لا يكون فعليا قبل فعلية الاستطاعة، ولكن هل حرمة شرب الخمر تكون فعلية قبل وجود خمر في الخارج أم لا؟ فالمعروف بين الفقهاء انه لا فرق بين الاحكام سواء كانت تكليفية أو وضعية، كما لا فرق في التكاليف بين ان تكون وجوبية أو تحريمية، ففي الجميع لا يكون الحكم فعليا الا بفعلية موضوعه، بلحاظ ترتب الحكم على موضوعه في لسان الدليل ومقتضى هذا الترتب تبعيته في الفعلية فاذا قال المولى: الخمر نجس، كان كلامه ظاهراً في تبعية النجاسة لوجود الخمر فلا فعلية لها قبل فعليته، كذلك إذا قال يحرم شرب الخمر فإنه ظاهر في أن الحرمة تابعة لفعلية الموضوع الا وهو الخمر، أو إذا قال مثلا المشرع: يجب الحج على المستطيع، فإن ظاهره ترتب الوجوب على الاستطاعة، فبما ان ظاهر الادلة ترتب الحكم على الموضوع سواء كان وضعيا أم تكليفيا وجوبيا أم تحريميا، فمقتضى هذا الظهور: تبعية الحكم في فعليته لفعلية الموضوع.

ولكن، سيدنا الخوئي «قده»: ذهب إلى ان الاحكام التحريمية تكليفية أم وضعية تكون فعلية قبل فعلية موضوعاتها ولا تقاس بالأحكام الوجوبية، فالحكم الوجوبي بما ان الغرض من البعث فالبعث فرع القدرة والقدرة فرع وجود الموضوع، فلا معنى لأن يكون الحكم الوجوبي فعليا قبل فعلية موضوعه، واما بلحاظ الحكم التحريمي كما إذا قال الشارع يحرم شرب الخمر فإن هذه الحرمة يتحقق الغرض منها ولو قبل وجود خمر خارجا فلو فرضنا أن هناك سجينا في زنانة انفرادية لا يمكنه وصول الخمر مع ذلك تكون حرمة شرب الخمر في حقه فعلية بلحاظ أن الغرض من تحريم شرب الخمر زجر المكلف، ويكفي في زجره كفّ النفس عن الخمر على تقدير وجوده، فإن بناء المكلف على كف نفسه وصد نفسه عن المحرمات وإن لم تتحقق موضوعاتها خارجا كافٍ في صحة التحريم وعدم لغويته، وإلا فالشخص الذي يقول: أنا مجتنب عن الخمر لا لأجل عدم رغبتي أو لأجل عدم عزمي، بل لأجل عجزي وعدم وجود الخمر بين يدي لا يعد مؤمناً مطيعاً، وإنّما الاطاعة تكون كف النفس وزجرها عن المحرمات حتى على تقدير عدم موضوعاتها، وهذا أثر واضح لفعلية الحرمة. كذلك بالنسبة إلى الحرمة الوضعية كما سيأتي تقريبه في القول الثالث. وذهب السيد الشهيد «قده»: إلى الفصيل بين الحرمة التكليفية والحرمة الوضعية، فقال:

أمّا بالنسبة للحرمة التكليفية: فليست فعلية قبل فعلية موضوعه، وذلك: أولاً: لأن كل حكم تكليفي مولوي فإن فعليته بفعلية القدرة على متعلقه، إذ لا يعقل التكليف بغير المقدور، ولا قدرة على متعلق الحرام مع عدم وجود موضوعه، فإنه عاجز عن شرب الخمر ان لم يوجد خمر في الخارج، وعاجز عن الزنا إن فقد نصف الإنسان في الخارج، فحينئذ بما انه عاجز عن متعلق الحرام لعدم موضوعه فالتكليف فيه ليس موضوعيا والا لكان التكليف فيه بغير المقدور.

أو يتمسك بظاهر الدليل، فيقال: ظاهر قوله ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ يعني اللحم الموجود، الميتة الموجودة، فإنه وان امكن ثبوتا ان تكون الحرمة فعلية قبل فعلية موضوعها الا ان ظاهر الدليل اثباتا هو ان مناط فعلية الحرمة على فعلية الموضوع. هذا بالنسبة إلى الحرمة التكليفية.

أمّا بالنسبة للحرمة الوضعية فالأمر ليس كذلك، الصحيح مع سيدنا «قده» وهو ان الحرمة الوضعية فعلية قبل فعلية موضوعها. بيان ذلك: إذا قال لنا الشارع: يجب عليكم الصلاة المشروطة بشرائط وجودية وشرائط عدمية ومن الشرائط الوجودية ان تكون الصلاة مع الاطمئنان، ومن الشرائط العدمية: ان لا تكون الصلاة في ثوب نجس، فهذا شرط عدمي. ومن الواضح أنه إذا دخل الزوال على المكلف صار وجوب الصلاة المشروطة بشرائطها الوجودية والعدمية فعلياً، فيجب عليك الان المشروطة بشرائط وجودية منها الاطمئنان والمشروطة بشرائط عدمية منها ان لا يكون ساتر العورة نجساً. إذن حرمة الصلاة في الساتر النجس فعلية بفعلية وجوب الصلاة، وإن لم يوجد ساتر نجس في العالم الإسلامي، مع ذلك يقول الشارع: يجب عليك فعلا ان تصلي صلاة ليس في ثوب نجس، فحرمة الصلاة في ثوب نجس حرمة وضعية فعلية بفعلية المشروط بها الا وهو وجوب الصلاة فما دام وجوب الصلاة فعلياً والمفروض أنّ الصلاة مشروطة بأن لا تكون في ساتر نجس، فهذه الحرمة المعبّر عنها بالمانعية حرمة فعية. وإن لم يوجد ثوب نجس في الخارج.

أو إذا قال: يجب عليك الصلاة عن طهارة مشروطة بأن لا تكون بماء نجس فحرمة الصلاة بالوضوء بماء نجس فعلية بفعلية وجوب الصلاة، إذن الحرمة الوضعية فعلية وان لم يكن موضوعها فعليا بخلاف الحرمة التكليفية، فعلى هذا الاساس نقول: لو كان لدينا حكمان: حكم حرمة شرب النجس، حكم حرمة الوضوء بالماء النجس. فنقول: ان لم يوجد ماء نجس في الخارج فحرمة شربه ليست فعلية لعدم وجوده، لكن حرمة الوضوء به فعلية لفعلية وجوب الصلاة المقيدة بأن لا يكون طهارتها بماء نجس. هذا هو الامر الاول وتحقيق ما هوا لصحيح في محله.

الامر الثاني: بناء على ما ذكرناه في الامر الاول يتبين لنا أنّ هناك علم اجمالي منجز في ملاقي احد اطراف ملاقي الشبهة المحصورة لا بلحاظ الحكم التكليفي، لكن بلحاظ الحرمة الوضعية. بيان ذلك: إذا علمت اجمالا بنجاسة الإناء الأبيض أو الإناء الأزرق ووجوب الصلاة صار فعليا في حقي إذ دخل الوقت والمكلف بالغ عاقل فوجبت عليه الصلاة بالفعل، حتى قبل الملاقاة اقول: علمت اجمالاً بنجاسة الأبيض أو الأزرق فأنا اعلم تفصيلاً بحرمة الصلاة في ثوب ملاق للنجس منهما، وهذه الحرمة حرمة فعلية، واعلم اجمالا بحرمة الصلاة في الملاقي لاحدهما وهذا قبل حصول الملاقاة فضلا عما بعد حصول الملاقاة فإن هناك حرمة فعلية معلومة بالتفصيل لملاقي النجس منهما، معلومة بالإجمال لملاقي أحدهما. وبالتالي لو فرضنا ان حصلت الملاقاة وفي ظرف حصول الملاقاة خرج الطرف الاخر عن محل الابتلاء حتى لا يكون هناك علم اجمالي منجز، ففي ظرف الملاقاة الماء الأزرق اخذه الجار فاستعاره، حينئذ مع ان الملاقاة انما حدثت بعد خروج الطرف الآخر عن محل الابتلاء، مع ذلك أقول: يحرم الصلاة حرمة فعلية تفصيلا بملاقي النجس منهما واجمالاً بملاقي أحدهما وهو هذا الثوب الملاقي للإناء الابيض. فمقتضى هذه الحرمة الفعلية المعلومة بالاجمال عدم صحة الصلاة في هذا الملاقي، وإن كان العلم الاجمالي الثاني غير منجز، لأن العلم الاجمالي الجديد وهو اما نجاسة الثوب أو نجاسة الإناء الأزرق ليس منجزا لأن الإناء الأزرق خرج عن محل الابتلاء حيث استعاره الجار، إذن بالنتيجة العلم الاجمال الثاني بنجاسة الثوب أو الإناء الأزرق ليس منجزا لخروج احد طرفيه عن محل الابتلاء فالوجه الثاني الذي استدللنا به منتفي في المقام، ولكن هنا وجه جديد وهو العلم الإجمالي بحرمة الصلاة في هذا الثوب. هذا هو الامر الثاني الذي ذكره.

الامر الثالث: إن قلت: لو علم المكلف بأنه إما يجب عليه اكرام ولده زيد بالفعل أو يجب عليه اكرام عمر إن نزل المطر، هل يستطيع هذا المكلف ان يقول بأن هنا علما اجماليا منجزا وهو العلم الاجمالي أم بوجوب اكرام ولده زيد أو بوجوب اكرام ولده عمر إن نزل المطر، بلحاظ تعاض البراءة في الطرفين، أي البراءة عن وجوب اكرام زيد بالفعل معارضة بالبراءة عن وجوب اكرام عمر على تقدير نزول المطر، وبعد تعارض البراءتين يصبح العلم الاجمالي منجزاً، لأن منجزية العلم الإجمالي فرع تعارض الاصول.

ام يقال أن هذا الكلام غير صناعي؟! لأن جريان الاصل الترخيصي في أي طرف فرع فعلية موضوعه وموضوعه الشك فما لم يحصل شك فلا معنى لجريان الاصل، وحينئذ لا معنى للشك في وجوب اكرام عمر، لأن وجوب اكرام عمر إنما يتصور على فرض نزول المطر، اما قبل نزول المطر فليس الشك في وجوبه شكا فعليا كي يكون مجرى لأصالة البراءة. والنتيجة: ان منجزية العلم الإجمالي فرع تعارض الاصول في الطرفين، وتعارض الاصول في الطرفين، فرع جريان الاصل في كل منهما في حد نفسه، وجريان الاصل في كل منهما فرع كون الشك في كل منهما فعليا، ولا يوجد شك فعلي في وجوب اكرام عمر، إنما الشك في وجوبه على تقدير نزول المطر أما لا يوجد شك فعلي في وجوب اكرام عمر، إذن لا تجري أصالة البراءة في وجوب اكرام عمر فتجري أصالة البراءة في وجوب اكرام زيد بلا معارض فلا يوجد علم اجمالي. ونطبقه على المقام. فنقول: بعد ملاقاة الثوب للإناء الأبيض هل العلم الإجمالي منجز أم لا؟ نقول: لا، لأن تنجزه فرع تعارض الاصول، وتعارض الأصول فرع جريانها وجريانها فرع فعلية الشك ولا يوجد شك فعلي في الثوب الا بعد الملاقاة، أما قبل الملاقاة كيف يقال أن العلم الإجمالي منجز؟! إذن دعوى انه قبل ملاقاة الثوب للإناء الأبيض ان نقول يوجد علم اجمالي بحرمة الصلاة في الملاقي حرمة وضعية.

الجواب: أن منجزية هذا العلم الاجمالي فرع تعارض الاصول، تعارض الأصول فرع جريانها، اصلاً لا تجري أصالة الطهارة في الملاقي قبل الملاقي قبل الملاقاة، إذ قبل الملاقاة لا يوجد شك فعلي في نجاسته كي تجري فيه أصالة ا لطهارة. وأما بعد الملاقاة فالمفروض ان الطرف الثاني خرج عن محل الابتلاء، أخذه الجار فلا تجري فيه أصالة الطهارة إذ لا أثر لها فتجري أصالة الطهارة في الملاقي بلا معارض. إذن فالعلم الاجمالي المدعى متى يتنجز بعد الملاقاة؟ بعد الملاقاة؟ فإن كان مدّعاكم التنجز قبل الملاقاة، فالمفروض ان التنجز فرع تعارض الاصول وتعارض الاصول فرع جريانها، ولا تجري أصالة الطهارة في الثوب قبل ملاقاته للماء الابيض، إذ ليس الشك في نجاسته حينئذ فعليا كي يكون مجرى لأصالة الطهارة، وبعد الملاقاة تجري أصالة الطهارة في الطرف الثاني بلا معارض لأن الطرف الثاني خرج عن محل الابتلاء.

والحمد لله رب العالمين.