الدرس 82

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

وقع البحث في جريان البراءة في الاقل والاكثر الارتباطيين، وذلك في مقامين:

المقام الأول: في دوران الامر بين الاقل والاكثر في الاجزاء.

المقام الثاني: في جريان البراءة في الشرائط.

اما المقام الاول: وهو جريان البراءة عند دوران الامر بين الاقل والاكثر في الاجزاء: وقد اختلف في هذا البحث على ثلاثة اقوال:

القول الاول: بعدم جريان البراءة لا عقلاً ولا شرعاً، وهو ما نسب إلى صاحب الفصول وصاحب هداية الم...........

القول الثاني: هو عدم جريان البراءة العقلية مع جريان البراءة الشرعية، وهو ما ذهب اليه صاحب الكفاية «قده» في الكفاية دون حاشيته على الرسائل.

القول الثالث: ما بنى عليه المتأخرون منهم سيدنا الخوئي وتلامذته من جريان البراءة عقلاً وشرعاً، فالكلام فعلاً في جهتين:

الجهة الاولى: في جريان البراءة عقلا، أي في عدم منجزيةا لعلم الاجمالي، هل ان العلم الاجمالي في المقام الدائر بين الاقل والاكثر الارتباطيين منجز عقلاً أم لا؟

والجهة الثانية: في جريان البراءة شرعاً، فالكلام فعلاً في منجزيةا لعلم الاجمالي وعدم منجزيته.

وقد افاد سيدنا الخوئي «قده» في «مصباح الاصول»: أنّ المسألة مبتنية على ان المقام من قبيل الاقل والاكثر؟ أو ان المقام من قبيل المتباينين.؟

فاذا لاحظنا نفس التكليف فقد يقال: انه من باب الاقل والاكثر. واذا لاحظنا المكلف به أي متعلق التكليف فقط يقال انه من باب المتباينين.

بيان ذلك:

اذا لاحظنا نفس التكليف مع غمض النظر عن المتعلق فنقول: لدينا علم تفصيلي بثبوت التكليف بالأقل. وشك بدوي في ثبوت التكليف بالأكثر، فالعلم الاجمالي بوجوب الاقل ا والاكثر منحل حقيقة بعلم تفصيلي بوجوب الاقل وشك بدوي في الاكثر. فهنا تجري البراءة عقلا ونقلا عن الاكثر.

اما إذا نظرنا إلى متعلق التكليف لا إلى ذات التكليف، أو نظرنا إلى الغرض من التكليف. فقد يقال بعدم الانحلال. بيان ذلك:

اذا قلنا بأن هناك تكليفا متيقناً قطعا لكن لا ندري هل متعلق ذلك التكليف المتيقن تسعة أو عشرة؟ فالشك في متعلق التكليف لا في نفس التكليف فالتكليف متيقن، انما هل متعلقه تسعة أم عشرة، هذا هو موطن التردد، اذن فالامر دائر بين المتباينين لأن التكليف مقطوع لا شك فيه انما الشك في متعلق هل متعلقه تسعة أو متعلقة عشرة فالعلم الاجمالي منجز؟ أو بلحاظ غرض التكليف، بأن يقال: نعم، هناك علم تفصيلي بوجوب الاقل، وشك بدوي في وجوب الاكثر، لكن هذا إذا قصرنا النظر على الجعل، اما إذا لحظنا الغرض من وراء هذا التكليف سوف يكون التكليف بين المتباينين لاننا ندري أن هنا تكليفان إذن هنا غرض لزومي، ولكن هل هذا الغرض اللزومي يتحقق بفعل الاقل أو يتحقق بفعل الاكثر، فبلحاظ عالم الغرض يكون الامر دائرا بين متبايين، فيكون العلم الاجمالي منجزاً، اذن فمدخل المسالة بنظر سيدنا الخوئي: هل ان المورد من موارد الشك في التكليف؟ أو من موارد الشك في المكلف به؟ هل ان المنظور في المسالة ذات الجعل؟ أو ان المنظور في المسالة هو الغرض اللزوم الذي علم بعد ما علم الجعل؟

لأجل ذلك يقال: بأن جريان البراءة عقلا أي عدم منجزية العلم الاجمالي امامه موانع في المقام. فما هي هذه الموانع؟

المانع الاول: ان يقال: بأن لدينا علم اجماليا دائرا بين متباينين لا بين اقل واكثر، لأننا نعلم اجمالا بوجوب استقلالي، هل هذا الوجوب الاستقلالي منصب على الاقل أو منصب على الاكثر. فلدينا علم بواجب استقلالي هل هو الاقل أو هو الاكثر، ومن الواضح ان هذا علم دائر بين متباينين، لأنه علم بواجب استقلالي اما اقل أو اكثر، فهذا علم دائر بين متباينين فكيف يكون غير منجز.

واجيب عنه ذلك بوجهين:

الوجه الاول: ما تعرّض له الشيخ الاعظم في «فرائد الاصول»:

وملخّصه: أننا لا ندعي الانحلال الحقيقي، العلم الاجمالي غير منحل حقيقة، مهما قلنا فالعلم بوجوب استقلالي بالأقل أو بالأكثر باقٍ لا يتغير، ما زلنا نقول أن هناك واجبا استقلاليا اما الاقل أو الاكثر فمن حيث الانحلال الحقيقي لا يوجد انحلال حقيقي، انما المدعى الانحلال الحكمي. والانحلال الحكمي بأحد تقريبات تعرض لها الشيخ الاعظم «في الفرائد»:

التقريب الاول: على اية حال إذا علمنا اما بوجوب الاقل أو بوجوب الاكثر فوجوب الاقل معلوم تفصيلاً، اما لأنه واجب نفسي إذا لم يكن الاكثر واجبا واقعا أو انه واجب غيري إذا كان الاكثر واجبا واقعاً، فوجوب الاقل نفسيا أو غيريا معلوم على كل حال، غاية ما في الباب هل يجب الاكثر أم لا؟ شيء آخر.

اما وجوب الاقل اما لأنه واجب نفسي أو لأنه واجب غيري هذا معلوم بالتفصيل.

والعلم بأن الاقل واجب على كل حال اما نفسيا أو غيريا مساوق للعلم باستحقاق العقوبة على تركه. فنحن نعلم ان ترك الاقل موجب لاستحقاق العقوبة جزما، اما لأنه ترك واجب نفسي أو لأن تركه ترك لواجب نفسي اخر وهو الاكثر. فعلى أية حال نعلم بأن في ترك الاقل استحقاق للعقوبة. نعم نحن لا ندري هل ان استحقاق العقوبة على ترك الاقل في نفسه لأنه واجب نفسي أو استحقاق العقوبة على استلزام ترك الاقل لترك الأكثر، هذا لا نعلم به، لكن هذا غير مهم، لأن المناط في تنجز التكاليف واجبية أو تحريمية هو احراز استحقاق العقوبة، فأي واجب أو أي محرم انما يتنجز على المكلف إذا احرز ان في تركه عقوبة، سواء احرز ان العقوبة على تركه في نفسه أو العقوبة على ترك ما يستلزمه، هذا غير مهم عقلاً، فالمهم عقلاً أن نحرز ان في ترك هذا العمل استحقاق العقوبة، وهذا حاصل بالنسبة للأقل.

والنتيجة: هناك علم تفصيلي بوجوب الاقل وشك في بدوي في وجوب الاكثر.

او فقل: هناك علم تفصيلي باستحقاق العقوبة على ترك الاقل وشك في استحقاق العقوبة على ترك الاكثر. فالعلم الاجمالي بالنتيجة منحل.

ولكن اشكل على هذا التقريب:

أولاً: هل يتصف الاقل بالمقدمية كي يكون واجبا غيري؟ وعلى فرض اتصافه بالمقدمية فهل كل مقدمة واجب غيري؟ وعلى فرض اتصافه بالواجب الغيري هل الوجوب الغير موجب لاستحقاق العقوبة أم لا؟

فهنا ثلاثة حررت وفصلت في الواجب الغيري:

السؤال الاول: هل ان الاجزاء مقدمة أم لا؟ وقد انكر هذا جمع منهم المحقق النائيني «قده» حيث قال: المقدمة ما كان هناك وجودان واحدهما متوقف على الآخر، كأداء المناسك المتوقف على السفر إلى مكة، فهناك وجودان: أداء المناسك والسفر إلى مكة، فهنا يصح ان نصف السفر بأنه مقدمة. أما في المقام فليس هناك وجودان بل وجود واحد، بلحاظ نسمّيه الكل، بلحاظ نسمّيه الاجزاء. فاذا لاحظنا هذا الوجود الواحد منضما سميناه الكل، واذا لاحظناه لا بشرط الانضمام سميّناه الاجزاء، فالفرق بين الاجزاء والكل فرق اعتباري لحاظي لا ان هناك واقعا وجودين احدهما متوقف على الاخر كي يقال بأن الاجزاء مقدمة في الكل فتتصف بالوجوب الغيري.

ثانياً: سلّمنا أن الاجزاء تتصف بالمقدميّة، من قال ان كل مقدمة واجبة بالوجوب الغيري، فنفس الشيخ الاعظم «قده» يقول: ما يتصف بالوجوب الغيري ما كان بقصد التوصل للواجب النفسي والا لا يتصف بالوجوب الغيري، ومن الواضح ان من يأتي بالأقل لعدم علمه بوجوب الاكثر لا يأتي بالأقل بقصد التوصل إلى الواجب الاخر وانما هو هو الواجب المعلوم فكيف يكون موصوفا بالوجوب الغيري.

ثالثاً: لو فرضنا ان الاقل متصف بالمقدميّة ولكونه واجبا غيريا، فهل ان الوجوب الغير يوجب استحقاق العقوبة على مخالفته؟

الجواب: لا، لأن مناط استحقاق العقوبة تفويت غرض لزومي على المولى، والغرض اللزومي في ذي المقدمة لا في المقدمة، فمخالفة الامر الغيري بالمقدمة لا يكون مناطاً لاستحقاق العقوبة، إذن دعوى ان العلم بوجوب الاقل مساوق للعلم باستحقاق العقوبة على تركه على أي حال فيوجب انحلال العلم الاجمالي ممنوع.

التقريب الثاني: ما ذكره الشيخ «قده» قال: ليس المهم انه واجب نفسي أو غيري، المسألة ترتبط باستحقاق العقوبة، فلنقل: أن الاجزاء ليست مقدمة ليست متصفة بالواجب الغيري، ليس الوجوب الغيري مناطاً لاستحقاق العقوبة. لنقل بذلك على اية حال، إذا علم اما بوجوب الاقل أو بوجوب الاكثر فقد علم بأن في ترك الاقل استحقاقا للعقوبة اما لأنه في نفسه واجب أو لأن تركه مستلزم لترك ما هو الواجب، اذن في تركه استحقاق للعقوبة، هذا هو مناط الانحلال لا مناط الانحلال كونه واجبا نفسيا أو غيريا على كل حال. بل مناط الانحلال ان في تركه استحقاق للعقوبة.

مثلا: لو علم انه نذر، اما نذر الوضوء أو نذر الصلاة مع الضوء، فلنفترض ان الوضوء ليس واجبا بالوجوب الغيري، مع ذلك نقول: ان لترك الوضوء استحقاقا للعقوبة، اما لأنه المنذور، أو لأن تركه مساوق لترك المنذور، فعلى اية حال يعلم باستحقاق العقوبة على ترك الوضوء.

ولكن، _وهذه الجهة لابد من التامل فيها_ ذهب جمع من المحشين والمعلقين بأن العلم الاجمالي منجز، فاذا علمت اجمالا اما بوجوب الوصول إلى جمكران أو بوجوب صلاة ركعتين في جمكران، فلا ينحل هذا العلم الاجمالي اعلم على أية حال أعلم بأن في ترك الذهاب إلى جمكران عقوبة، هذا لا يفيد، إذ لو صرّح المولى نفسه: اني يا عبدي اعاقبك، اما على ترك الوصول إلى جمكران أو اعاقبك على ترك الصلاة في جمكران، فهل ينحل هذا العلم الاجمالي، بأن اقول عل اية حال في ترك الوصول إلى جمكران عقاب؟ فمع هذا العلم الاجمالي بأنه سيعاقبني على هذا أو على هذا كيف ينحل العلم الاجمالي بأن في ترك الذهاب إلى جمكران عقوبة.

والحمد لله رب العالمين.