الدرس 83

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنّ العلم الإجمالي في الوجوب النفسي إمّا في الأقل أو في الاكثر، هل ينحل حكما بجريان البراءة العقلية عن الأكثر أم لا؟

وذكرنا أنّ هناك وجهين استفيدا من كلام الشيخ الاعظم «قده» لإثبات الانحلال.

الوجه الاول: عبارة عن تقريبات ثلاثة استفاد منها الاعلام من عبارته.

التقريب الاول: أنّ العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل نفسيا أو غيريا وشك في وجوب الاكثر.

وقد مضى الاشكال في هذا القريب.

التقريب الثاني: أن العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو وجوب الأكثر ينحل لعلم تفصيلي باستحقاق العقاب على ترك الأقل على كل حال، سواء كان هو الواجب النفسي أو كان تركه مستلزما لترك الواجب النفسي. بينما العقاب على ترك الأكثر ليس معلوما فتجري البراءة عنه.

وقلنا بأن البعض شكك في انحلال هذا العلم الاجمالي فقال: بأن انحلال العلم الاجمالي بعلم آخر يتوقف على ان يكون العلم الآخر تفصيلياً، فلدينا علم اجمالي بوجوب نفسي إما للأقل أو للأكثر، ولأجل ان ينحل هذا العلم الاجمالي ولو حكماً لابد من علم تفصيلي في أحد الطرفين، والعلم بأن في ترك الأقل استحقاقاً للعقوبة ليس علما تفصيلياً لأنه أيضاً علم اجمالي، إذ لا ندري ان استحقاق العقوبة على ترك الأقل في نفسه؟ أو لأجل أن ترك الأقل ترك للأكثر؟

فغاية ما نعلم به هو استحقاق العقوبة لكن هذا علم اجمالي إذ لعلم منشأ استحقاق العقوبة كون الأقل هو الواجب، ولعل منشأ استحقاق العقوبة ان ترك الأقل يستلزم ترك الواجب، فلم يعلم استحقاق العقوبة على ترك الأقل نفسه، كي يكون علما تفصيليا موجبا لانحلال العلم الاجمالي بالوجوب.

ولكن هذا الذي افيد محل تأمل بل منع، ولأجل بيان ذلك نتعرض للمبنى الذي اخترناه في حقيقة المنجزية:

فنقول: ليس ملاك المنجزية هو دفع العقوبة كما يظهر من كلمات سيدنا «قده» وغيره، بل المنجزية _كما حرّرناه في العام الماضي_ هي عبارة عن حكم العقل بلا بدية العمل قضاء لحق الطاعة أو لشكر المنعم وأثر حكم العقل هو استحقاق العقوبة، فليس ملاك المنجزية هو استحقاق العقوبة حتى ندور مداره، فلو قطع العبد بأن لا عقوبة عليه أو لأنه لا يستحق عقوبته لم يكن ذلك منافيا للمنجزية، فإن منجزية التكليف متقومة بانه إذا ادرك العقل ان هذا تكليف المولى حكم بانه لابد من الاتيان به قضاء لحق المولوية، ترتبت العقوبة على المخالفة أم لم تترتب. هذا اثر من آثار حكم العقل بلابدية العمل، وبناء على ذلك: فليس المهم هو ان اعلم تفصيلا بأن في ترك الأقل استحقاق للعقوبة على تركه اما لأنه الواجب أو لشيء اخر، هذا ليس المهم.

المهم ان اعلم ان ترك الأقل مخالفة قطعية لما هو المعلوم بالاجمال. فأنا عندما اعلم بواجب اما الأقل أو الأكثر فقد علمت تفصيلا ان ترك الأقل مخالفة قطعية لذلك الواجب المعلوم بالإجمال، سواء كان الأقل هو الواجب أو كان الأقل جزءا من الواجب، على أية حال ترك الأقل مخالفة قطعية للواجب المعلوم بالاجمال، فبلحاظ هذا العلم التفصيلي وهو ان ترك الأقل مخالفة قطعية للمعلوم بالاجمال ولا يعلم ان ترك الأكثر مخالفة أم لا؟ فهو مجرى للبراء العقلية.

ولكن المحقق العراقي «قده» في «نهاية الافكار، ج3، ص385» اشكل على الانحلال في المقام بما يترتب على سنخ مبانيه، حيث قال:

إن العلم الاجمالي متقدم رتبة على العلم التفصيلي إذ لولا وجود علم اجمالي لما تولد علم تفصيلي، فلأجل أننا نعلم اما بوجوب الأقل أو وجوب الأكثر علمنا تفصيلا بوجوب الأقل على كل حال، فالعلم التفصيلي بوجوب الأقل على كل حال تولد عن العلم الاجمالي اما بوجوب الأقل أو وجوب الاكثر.

اذن العلم التفصيلي بوجوب الاقل، أو بعبارة ادق: بلا بدية الأقل اما لأنه الواجب أو لأنه جزء الواجب أو لأنه مقدمة للواجب، العلم التفصيلي بلا بدية الأقل متولد عن العلم الاجمالي اما بوجوب الأقل أو وجوب الاكثر، والمتولد متأخر رتبة عما تولد منه. فاذا رجعنا للعلم الاجمالي وجدنا ان العلم الاجمالي في رتبته منجز لأن العلم الاجمالي علة تامّة للتنجيز، فبمجرد ان علم المكلف اجمالا اما بوجوب الأقل أو وجوب الأكثر تنجز العلم الاجمالي فتولد العلم التفصيلي بعد ذلك بالتحليل والتأمل لا يرفع منجزية العلم الاجمالي التي تحققت في رتبة سابقة. فلا أثر لهذا العلم التفصيلي بانه لابد من الأقل فليكن، اما قد تنجز العلم الاجمالي في رتبة سابقة.

ولكن، تأخر العلم التفصيلي عن العلم الاجمالي رتبة لا يعني تأخره عن منجزيته، فالعلم الاجمالي التفصيلي متأخر رتبة عن العلم الإجمالي، هذا صحيح لا زمانا بل رتبة. لكن هذا لا يعني ان العلم التفصيلي متأخر رتبة عن منجزية العلم الاجمالي بل هما في عرض واحد، بمعنى: أنه إذا حدث العلم الاجمالي ترتب عليه امران: تولد العلم التفصيلي ومنجزيته، لا ان العلم التفصيلي متأخر رتبة عن منجزية العلم الاجمالي كي يقال بأنه مع تأخره رتبة عن المنجزية فكيف يكون رافعاً لها. هذا اول الكلام. فإن قال العراقي كما يبدو من هذه الصفحة التي نقلنا عنها: إن المتأخر عن المساوي لما هو متقدم متأخر عنه، مثلا، إذا كان «ج» متأخر عن «ب» رتبة و«ب» مساوي ل «أ» رتبة، إذن «ج» متأخر عن «أ» رتبة، فالمتأخر عن المساوي لشيء متأخر رتبة عن ذلك الشيء.

فنقوم بتطبيق هذه الآية المزعومة على المقام: فنقول: العلم التفصيلي متولد عن العلم الاجمالي، ومساوٍ في الرتبة، _يعني العلم التفصيلي لمنجزية العلم الاجمالي_ ومنجزية العلم التفصيلي متأخرة رتبة عن العلم التفصيلي نفسه، فإذن حيث لا يعقل ان تكون المنجزية في رتبة نفس الشيء نفس العلم، إذن العلم التفصيلي مساوٍ رتبة لمنجزية العلم الاجمالي ومنجزية العلم التفصيلي متأخرة رتبة عن نفس العلم التفصيلي فتكون متأخرة عن منجزية العلم الاجمالي. فبما أن منجزية العلم التفصيلي متأخرة رتبة عمّا يساوي منجزيةا لعلم الإجمالي كانت متأخرة عن منجزية العلم الإجمالي، فكيف تكون رافعة لها؟

ولكن الجواب: ان التقدم والتأخر الرتبي يحتاج إلى ملاك، وقياس المساواة في الرتب قياس عاطل باطل، فلا يكون التأخر الرتبي الا بملاك المعلولية أي ما لم يكن الشيء معلولا لشيء آخر فلا يكون متأخر عنه رتبة، وبالتالي التأخر عن المساوي رتبة لشيء ليس متأخر رتبة عن ذلك الشيء، ولذلك قالوا: المعلول كالإحراق متأخر رتبة عن العلة وهي النار، لكن ليس متأخرة رتبة عما هو مساوٍ للنار وهو نقيضها كعدمها، فالإحراق متأخر رتبة عن النار بمناط المعلولية لكنه ليس متأخراً عن عدم النار لأن عدم النار والنار في رتبة واحدة.

إذن بالنتيجة: ما في كلمات العراقي «قده» ليس تاماً بلحاظ أن العلم التفصيلي ليس متأخراً رتبة عن منجزية العلم الاجمالي ولا منجزية العلم التفصيلي متأخر رتبة عن منجزية العلم الإجمالي، وبالتالي لا مانع من انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بأنه لابد من الاتيان بالأقل على كل حال، فتجري البراءة العقلية عن الاكثر.

التقريب الثالث: ما تعرّض له سيدنا الخوئي «قده»، وخالفه السيد الإمام «قده» والسيد الاستاذ «دام ظله» _وإن كان هذا لا ربط له بمحل الكلام، لكن لأن سيدنا تعرّض له في المقام تعرّضنا له_: حيث قال: على فرض ان العلم الاجمالي لا ينحل، يكفينا جريان البراءة الشرعية، المفروض ان البراءة الشرعية تجري عن وجوب الأكثر وهذا كافٍ لنا.

الا ان السيد الامام «قده» في «تهذيب الاصول، ج2» والسيد الأستاذ «دام ظله» في «بحوثه» خالفا في ذلك، فقالوا: إذا لم يكن العلم الاجمالي منحل لا تجري البراءة الشرعية، نعم إذا انحل فواضح، أما مع فرض عدم انحلاله لا تجري البراءة الشرعية، والسر في ذلك احد وجهين:

الوجه الاول: مبناهم هما دعوى الانصراف، يعني انصراف دليل البراءة بل ادلة الأصول الترخيصية اجمعين عن مورد العلم الإجمالي وإن لم يكن العلم الاجمالي منجزاً فإن دليل البراءة منصرف عنه لأن موضوع دليل البراءة الشك في التكليف لا الشك في انطباق المعلوم بالاجمال على هذا الطرف أو ذاك الطرف. فاذا علم اجمالا إما بوجوب الأقل أو وجوب الاكثر، فليس من موارد الشك في التكليف، إنما الشك في انطباق المعلوم بالاجمال على الأقل أو على الاكثر، وهذا خارج موضوعا عن دليل البراءة.

وهذه المناقشة كما ترون مبنائية. حيث ذكرنا فيما سبق ان المباني في ادلة الأصول ثلاثة: المبنى الاول وهو المختار:

أن ادلة الأصول الترخيصية شاملة لموارد العلم الإجمالي المنجز فضلاً عن غيره بمقتضى الإطلاق الأفرادي لها.

المبنى الثاني مبنى السيد الشهيد: أن ادلة الأصول الترخيصية منصرفة عن العلم الاجمالي المنجز، اما إذا لم يكن منجزا بأن كان احد الطرفين منجزا بمنجز اخر فأدلة الأصول تشمل الطرف الآخر بلا مانع.

المبنى الثالث وهو مبنى السيد الإمام والسيد الأستاذ: من أنه انصراف أدلة الأصول عن مورد العلم الإجمالي وإن لم يكن منجزاً.

فهذا اختلاف في المباني القائمة ما يستظهر من ادلة الأصول العملية الترخيصية.

الوجه الثاني _من الاشكال_: قالوا البراءة هنا متعارضة، لكنه خصّوا هذا الاشكال الثاني بمورد دوران الأمر بين المقدمة وذي المقدمة. ما قالوا بالإشكال بدوران الأمر بين الأقل والاكثر.

بيان ذلك: إذا نذر المكلف نذراً إما نذر الوضوء أو نذر الصلاة مع الوضوء فهذا غير دائر بين الأقل والأكثر الارتباطيين وإنما دائر بين المقدمة وبين ذي المقدمة، يعني دائر بين وجودين، الوضوء وحده، أو الصلاة مع الوضوء. فهنا في مثل هذا الفرض قالوا: بأن البراءة متعارضة لأن البراءة عن وجوب الأكثر وهو الصلاة مع الوضوء معارضة بالبراءة عن الوجوب النفسي لنفس الوضوء. فإن قلتم: ما هي الثمرة في ذلك؟ لأنه لابد ان يتوضأ؟

قالوا: الثمرة في ذلك التأمين من العقوبة على ترك الوضوء على فرض ترك الصلاة.

فلو فرضنا أنّ المكلف تارك للصلاة ما عصيانا أو نسيانا فهل ترك الوضوء في هذا الفرض وهو فرض ترك الصلاة موجب لعقوبة فتجري البراءة عن ترك الوضوء في فرض ترك الصلاة، وحينئذٍ تتعارض البراءتان: البراءة عن وجوب الصلاة مع الوضوء، مع البراءة عن الوضوء نفسه «الوجوب النفسي للوضوء» وثمرة ذلك انك آمن من العقوبة على ترك الوضوء عند ترك الصلاة.

طبعاً هذا بناء على ان المتجري لا يستحق العقوبة، والا لو كان المتجري يستحق العقوبة لكان ترك الوضوء موجبا للعقوبة على كل حال، أما لأنه الواجب أو لأن في تركه تجري، حيث يعلم المكلف إجمالاً اما بوجوب الوضوء أو وجوب الصلاة مع الوضوء. فإن قلنا باستحقاق التجرّي للعقوبة لا فائدة، لأنك معاقب على كل حال، اما إذا قلنا بأن التجرّي لا عقوبة على تركه إذن بالنتيجة يقول: لا ادري هل انا معاقب على ترك الصلاة؟ أو انا معاقب على ترك الوضوء على فرض ترك الصلاة؟ فتتعارض البراءتان. فكيف قلتم بأن دليل البراءة الشرعية يجري في احد الطرفين وهو الصلاة بلا معارض؟.

الجواب ذلك ظاهر: لأنه مع حكم العقل بلا بدية الوضوء على كل حال، سواء كان الوضوء هو الواجب أو كان الوضوء مقدمة للواجب على اية حالة لابد من الوضوء، فمع حكم العقل بلا بدية الوضوء على كل حال، وأن ترك الوضوء مخالفة قطعية لما هو المعلوم بالإجمال فلا تبقى ثمرة في إجراء البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء للتأمين من العقوبة على تركه عند تركه للصلاة.

إذن بالنتيجة: تجري البراءة الشرعية كما يقول سيدنا الخوئي «قده» عن الطرف الآخر وهو الصلاة بلا معارض.

هذا تمام الكلام في الوجه الاول من الوجهين اللذين ذكرهما الشيخ الأعظم «قده» في «الفرائد»، لإثبات انحلال العلم الإجمالي.

والحمد لله رب العالمين.