الدرس 84

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنه إذا دار الأمر بين الأقل والاكثر في الاجزاء وشككنا هل ان الواجب مكوّن من عشرة أجزاء أو أحد عشر جزءاً؟ فهل هذا العلم الاجمالي وهو العلم بواجب استقلالي اما عشرة أو اكثر منحل أم لا؟ فذكرنا أن البحث الانحلال الحكمي أي هل هو منحل بلحاظ البراءة العقلية بمعنى ان البراءة العقلية تجري عن الأكثر أم ليس منحلاً؟

وذكرنا ان الشيخ الاعظم «قده» في _الرسائل_ يظهر من كلامه وجهان لإثبات الانحلال الحكمي بلحاظ البراءة العقلية:

الوجه الاول: ان العلم بأن الواجب اما الأقل أو الأكثر ينحل الى علم تفصيلي بأن الأقل واجب على كل حال، اما نفسيا أو غيريا. وسبق الكلام في ذلك.

وقد اشكل على هذا الانحلال:

بان العلم التفصيلي متولد عن العلم الاجمالي وما كان متأخرا رتبة فلا يعقل ان يكون رافعا لمنجزية ما سبقه في الرتبة، والمفروض أن العلم الاجمالي في رتبه وهوا لعلم اما بوجوب الأقل أو بوجوب الأكثر قد تنجز، فبعد ان تنجز العلم الاجمالي في رتبته وحصل علم تفصيلي بأن الأقل واجب على كل حال فهذا العلم التفصيلي لتأخره رتبة لا يوجب ارتفاع منجزية العلم الاجمالي في رتبته. والمحقق العراقي «قده» لم يرتضي هذا الاشكال من جهة: أن هذا المبنى يبتني على أن الاجزاء تتصف بالوجوب الغيري. فاذا قلنا بأن الاجزاء تتصف بالوجوب الغيري فيقال حينئذٍ: لمّا علم اجمالاً بواجب اما الأقل أو الأكثر فقد علم بأن الأقل واجب اما نفسيا أو غيرياً، وهذا العلم التفصيلي واهو ان الأقل واجب اما نفسيا أو غيريا لا يوجب ارتفاع منجزية العلم الاجمالي لتنجزه في رتبة سابقة، فاذا انكرنا وقلنا بأن الاجزاء لا تتصف بالوجوب الغيري فلا يأتي هذا الاشكال وهو ان العلم التفصيلي متولد من العلم الاجمالي ومتأخر عنه رتبة فلا يعقل ان يكون رافعا لمنجزيته في رتبه.

ونحن سابقا في الدرس السابق: شرحنا ان الاشكال للعراقي واجاب عنه، والحال: بأن العراقي طرح هذا الاشكال واجاب عنه بهذا الجواب وهو: ان هذا المدّعى يبتني على أن الاجزاء تتصف بالوجوب الغيري والحال انها لا تتصف به.

والصحيح: ان حل الاشكال لا يبتني على ما ذكره المحقق العراقي، فسواء قلنا ان الاجزاء تتصف بالوجوب الغيري أو لم نقل، فإن حل هذا الإشكال وهو أن العلم التفصيلي بوجوب الأقل متأخر رتبة عن العلم الإجمالي فلا يكون رافعاً لمنجزيته الصحيح في الجواب ما ذكرناه في الدرس السابق: من أن تأخر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي وجوداً لا يعني تأخره منجزيةً. أي ليست منجزية التفصيلي متأخرة رتبة عن منجزيةا لعلم الاجمالي. لا ان الجواب عن الاشكال ان يقال ان الاجزاء لا تتصف بالوجوب الغيري فليس هناك علم تفصيلي بوجوب الأقل على كل حال. بل نقول: حتى مع الاتصاف هذا الاشكال لا يرد، لأن العلم التفصيلي من حيث المنجزية ليس متأخراً رتبة عن العلم الاجمالي.

الوجه الثاني: المستفاد من عبارة الشيخ الاعظم في «فرائد الاصول» وقد ذكر المحقق النائيني في «الفوائد، ج4، ص156» أن هذا الوجه الثاني هو المعتمد عند الشيخ لا ما يتوهم من عبارته في الوجه الاول، لأن الشيخ نفسه لا يقول بأن الاجزاء تتصف بالوجوب الغيري، فإذن معتمد كلامه هو الوجه الثاني:

قال الشيخ الاعظم، ان العلم الاجمالي اما بوجوب الأقل أو وجوب الأكثر ينحل الى علم تفصيلي بوجوب الأقل استقلالا أو ضمناً، ذاك الوجه كان يقول نفسيا أو غيرها، الآن قال: استقلاليا أو ضمنياً. على اية حال هذه الاجزاء اما هي الواجب اذن هي واجب استقلالي، أو هي جزء الواجب فهو واجب ضمني. فهي واجب اما استقلالا أو ضمنا، وبالتالي فقد حصل علم تفصيلي بوجوب الأقل اما استقلالا أو ضمنا فتجري البراءة على العقلية عن الأكثر. وهنا اشكالات على هذا الوجه لإثبات الانحلال:

الاشكال الاول: ما ذهب اليه المحقق النائيني «قده» في «الاجود والفوائد» عند التأمل ليس هذا العلم التفصيلي الا نفس العلم الثاني، انما اختلفت الصياغة، إذ تارة نصوغه بهذا النحو فنقول: نعلم اجمالا اما بوجوب الأقل نفسيا استقلاليا أو وجوب الأكثر استقلاليا، وتارة نقول: نعلم بوجوب الأقل لكن لا ندري هل هو واجب لا بشرط أو هو واجب بشرط شيء، فإن كان هو الواجب استقلالا اذن هو واجب لا شرط، وإن كان هو الواجب ضمنا كان هو الواجب بشرط شيء، فرجعنا للعلم الإجمالي مرة أخرى، فسواء صغنا المطلب انه: نعلم اجمالا بواجب استقلالي وهو الأقل أو الاكثر. أو قلنا نعلم اجمالا بوجوب الاقل، لكن لا ندري هل هو واجب لا بشرط يعني استقلالاً أو هو واجب بشرط شيء يعني ضمنا، فالثاني علم اجمالي هو عين الاول، فكيف يدعى انه علم تفصيلي موجب لانحلال العلم الاجمالي الاول فتجري البراءة عن الأكثر بلا مانع؟

وقد اجاب عن ذلك سيدنا الخوئي «قده» في «مصباح الاصول»: ليس البحث في الانحلال الحقيقي وانما البحث في الانحلال الحكمي، وبما ان البحث في الانحلال الحكمي فلا وجه لهذا التركيز على انه هذا عين هذا، لدينا علم اجمالي بواجب استقلالي اما الأقل أو الاكثر، هذا علم اجمالي، ولدينا علم بوجوب الأكثر اما لا بشرط أو بشرط شيء. فلم ينحل الاول بالثاني حقيقة لاننا ما زلنا في حلقة العلم الإجمالي، وانما المدعى الانحلال الحكمي، وهو انه: هل تجري البراءة العقلية عن الأكثر بلا مانع أم لا؟ هذا هو محط البحث.

فلابد ان يرتكز وينظر المحقق النائيني الى هذه النقطة.

فذكر «قده» في «مصباح الاصول» صياغتين لإثبات الانحلال الحكمي:

الصياغة الاولى: ان الوجوب الاستقلالي للمركب ينحل الى وجوبات ضمنية بعدد الاجزاء فلكل جزء جزء وجوب ضمني، ولذلك بمجرد ان يأتي المكلف بالجزء سقط وجوبه الضمني وامتثل، وعليه ان يأتي بالجزء الآخر. لأن الواجب ارتباطي فوجوب كل جزء مشروط بضم بقية الاجزاء عليه على نحو الشرط المتأخر.

وبناء على ذلك فإذا كان لدينا مركب من عشرة اجزاء فلدينا عشرة وجوبات ضمنية، وان كان اكثر كان اكثر، إذن بالنتيجة إذا دار امر المركب بين عشر أو احد عشر قد انحل الى علم تفصيلي بوجوبات الى عشرة اجزاء وشك في وجوب حادي عشر فهو مجرى للبراءة العقلية.

هذه هي الصياغة الاولى.

والاشكال الفني هو: وهو ان التعبير «ان هناك وجوبات ضمنية فإذا أتيت بالجزء سقط وجوبه ولكن يجب الاتيان بالجزء اللاحق لأنه شرط متأخر» هذا التعبير غير فني لأن الوجوبات الضمنية هي عين الوجوب الاستقلالي للمركب وانما الانحلال عقلي لا اكثر. إذ لم يصدر المولى وجوبات بعدد الاجزاء وانما قال: تجب الصلاة المؤلفة من كذا، الا ان العقل يقوم بتشريح وتحليل ذلك الوجوب الاستقلالي الى وجوبات ضمنية، وإنما في الواقع لا توجد وجوبات ضمنية وانما هو وجود عقلي، فلأجل ذلك لو اتى بالركوع قبل ان ياتي بالسجود لم يسقط وجوب الركوع لأن وجوب الركوع عين وجوب المركب، ولا يسقط وجوب المركب الا بالاتيان بجميع الاجزاء، وهذا مجرد تحليل وتعميل عقلي ليس الا.

الصياغة الثانية: قال: نحن مع المحقق لأن العلم بواجب اما الأقل أو الأكثر علم بوجوب الأقل لكن لا ندري هل وجب الأقل لا بشرط أو وجب الأقل بشرط شيء؟

فاذا دار امر الأقل بين لا بشرط وبين بشرط شيء؟ فهل تتعارض البراءة فيهما؟ يقول لا، لانهما ليس من قبيل المتباينين فإنه لو دار الأمر بين المتباينين كما لو علمنا بواجب يوم الجمعة ولا ندري انه الظهر أو الجمعة؟ فهنا يقال: بأن البراءة عن الجمعة معارضة بالبراءة عن الظهر، اما في المقام «اذا دار بين بشرط شيء وبين لا بشرط» فلا تتعارض البراءة؛ يقول: فتجري البراءة عن البشرط شيء، لأنه تقييد، والتقييد فيه ثقل وكلفة، ولكن لا تجري البراءة عن الإطلاق وهو اللا بشرط لأن في الإطلاق سعة وترخيصا واطلاق للعنان فليس فيه ثقل كي تجري البراءة عنه، فإذا دار امر الواجب وهو الأقل بين اطلاق وبين تقييد فحيث ان التقييد ثقل جرت البراءة عنه وحيث ان الاطلاق خفة فلا معنى لجريان البراءة عنه، فهذا نظير العلم الاجمالي ب «إما الحرمة أو الاباحة» كما إذا علمنا اجمالا بأن الغنى اما حرام أو مباح؟

إذن فاذا دار الأمر فقد حصل علم اجمالي اما أن الغنى حرام أو حلال، فمن الواضح ان هذا العلم الاجمالي منحل، لأن الحرمة ذات ثقل فتجري عنها البراءة، واما الإباحة فليست ذات ثقل حتى تجري عنها البراءة.

فالنتيجة: أن العلم الاجمالي في المقام منحل حكما بجريان البراءة عن الأكثر بلا معارض بخلاف باب المتباينين فإن البراءة فيه تتعارض لأن كلا الطرفين ذو ثقل.

ولا نشكل ايضاً اشكالاً جوهرياً بل إشكالاً فنياً:

وهو أن محط البحث في البراءة العقلية _ولم نصل الى البراءة الشرعية_، ومن الواضح ان الاحكام العقلية لا تتعارض، حتى يقال في الأقل والاكثر لا معارضة، في المتباينين معارضة، فإن التعارض إنما يتصور في البراءة الشرعية لأن التعارض بمعنى التعارض في اطلاق الدليل، حيث يقال: إن شمول دليل البراءة لهذا الطرف معارض في شموله لهذا الطرف.

اما في البراءة العقلية فهي لا ترجع الى دليل عقلي كي يتعارض شموله، بل يقال: إن احد الطرفين وهو وجوب الأكثر أي بشرط شيء موضوع للبراءة العقلية، بينما الطرف الآخر وهو وجوب الأقل لا بشرط ليس موضوعاً للبراءة العقلية، ويقال في المتباينين: إذا دار الأمر بين الظهر والجمعة: كل منهما في نفسه موضوعا للبراءة العقلية لا ان البراءة العقلية تتعارض في المتباينين ولا تتعارض في الأقل والاكثر.

فقد ركّز سيدنا «قده» في الاشكال على المحقق النائيني ان المسألة ليست من الانحلال الحقيقي وانما انحلال الحكمي بلحاظ البراءة العقلية.

لكن هل يعقل الانحلال الحقيقي في المقام؟ بأن نقول: العلم الاجمالي تبخّر وزال بعلم آخر أم لا يعقل؟

هذا ما يأتي عنه الكلام تفصيلاً.

والحمد لله رب العالمين.