الدرس 86

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: ان الانحلال الحقيقي في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء يتوقف على مقدمتين:

المقدمة الأولى: في تحليل التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين. وذكرنا: ان المسالك في ذلك ثلاثة: انهما تقابل الملكة والعدم كما ذهب اليه المحقق النائيني «قده» أو أنه تقابل بالدين، كما ذهب اليه اخيرا السيد الخوئي «قده»، أو انه تقابل السلب والايجاب وهو الصحيح.

وذكرنا امس: ما يثبت تقابل السلب والايجاب. ولكن في كلمات السيد الأستاذ «دام ظله» في بحث اخذ قصد الامر في متعلق الامر، كلاماً يراد به الانتصار إلى ان التقابل هو من قبيل تقابل الملكة والعدم كما ذهب اليه المحقق النائيني «قده» وبيان ذلك:

أنه قد افاد أن لدينا نوعين من التقييد ونوعين من الإطلاق، فهناك تقييد وإطلاق ذاتيان ووهنا تقييد وإطلاق لحاظيان ووقع الخلط بين القسمين في كلمات الاعلام، فالتقييد والإطلاق الذاتيان يتقابلان تقابل الإيجاب والسلب، وأما الاطلاق والتقييد اللحاظيان فهما فعلان اختياريان من افعال المولى يتصفان بالحسن والقبح ويتقابلان تقابل الملكة والعدم في المحل القابل لهما.

ومن أجل بيان ذلك تعرض لموردين في التقييد الذاتي وموردين للإطلاق الذاتي، لكي يتضح الفرق بين التقييد والإطلاق الذاتيين والتقييد والإطلاق اللحاظيين.

فأما مثال التقييد الذاتي: فقد ذكر موردين:

المورد الاول: هو فرض ضيق المنشأ ارتكازاً وإن كان واسعاً تفصيلاً. بيان ذلك:

أن المتعاملين إذا انشئا معاوضة فقد يلتفتان إلى أن هناك ارتكازاً عقلائيا وهو اعتبار المساواة في المالية بين العوض والمعوض، فينشئان المكلية مقيدة بالمساواة بينهما في المالية، وتارة: ينشأ المتعاملان المعاملة غافلين عن هذا المرتكز العقلائي، وإن كان في ذهنهما لكنه ليس ظاهراً تفصيلاً، فهما ينشئان الملكية مع الغفلة عن أن هناك ارتكازاً حتى في اذهانهما وهو اعتبار المساواة في المالية بين العوض والمعوض.

فهنا في هذا المورد: وان كانت صورة المنشأ مطلقة لكنها في الواقع ضيّقه، لانهما لو نبهما لانتفتا إلى انهما لا يريدان مطلق الملكية، بل يريدان تبادل الثمن والمثمن المالية فالمنشأ ليس مقيداً لحاظاً لعدم التفاتهما تفصيلاً، لكنه مقيد ذاتاً، أي وقع ضيّقاً بلحاظ أنه في ارتكازاهما ان لا يكون المنشا مطلق الملكية.

والمورد الثاني _للتقيد الذاتي_: ما إذا ورد القيد على الوجوب فتضيق الواجب.

بيان ذلك: أن النسبة بحسب تعبيره بين الوجوب والواجب نسبة الوجود للماهية، فكما ان الماهية حد للوجود فإن الواجب حد للوجوب، مثلا: إذا وقع في عالم العين وجود، ولا ندري ان هذا الوجود سيعي ضيق ما هي مرتبته؟ فهذا الوجود له حد يكشف عن مرتبته من الوجود وحده هو المعبر عنه بالماهية. كذلك إذا وقع وجوب فهو وجوب اي شيء؟ فيكون بيان الواجب حدا للوجوب، فنسبة الوجوب للواجب نسبة الوجود للماهية ونسبة المحدود للحد، وحيث ان النسبة بينهما كذلك لهذا أي تقييد للوجوب يوجد ضيقاً في الواجب، لأن أي ضيق في الوجود يوجب ضيقا في الماهية المنتزعة من الوجود، واي ضيق في المحدود ينعكس على حده، فاذا قال المولى: إذا زالت الشمس فصلي، فهنا الزوال قيد في الوجوب، اي قيد في الهيئة، فالمولى عندما انشا الوجوب اي انشأ مفاد الهيئة قيده تقييدا لحاظيا بالزوال، وحيث إنه قيّد الوجوب تقييدا لحاظيا بالزوال وقع الواجب ضيقا، فصار الواجب بهذا الوجوب الصلاة بعد الزوال لا مطلق الصلاة، فالواجب تقيد ذاتا والوجوب تقيد لحاظا، بمعنى ان المولى قام بتقييد الوجوب ومفاد الهيئة تقييدا لحاظيا ونتيجة هذا التقييد اللحاظي ولد الواجب ضيقاً محدوداً فصار للواجب تقيّد ذاتي، مع أن الذي طرأ على الوجوب تقييد لحاظي.

وهذا التقيّد الذاتي للواجب يبطل محل الاطلاق والتقييد اللحاظيين في الواجب، لأن الواجب إذا ولد ضيّقا فلا هو قابل للاطلاق اللحاظي ولا هو قابل ايضا للتقييد اللحاظي، لأن المتقيد لا يتقيد، فالتقيد الذاتي رفع القابلية ابطل القابلية قابلية المحل للاطلاق والتقييد اللحاظيين.

فظهر بذلك:

أن التقييد والاطلاق اللحاظيين يحتاج إلى محل قابل وهو أن لا يكون المحل متقيداً ذاتاً وضيقا ذاتا ولو بمنشأ خارجي.

هذا بلحاظ موارد التقيد الذاتي.

وأما بلحاظ موارد الاطلاق الذاتي فقد ذكر موردين ايضا في كلامه:

المورد الاول: كما في فرض عدم امكان التقييد، مثلاً: ما بحث في الاوامر من انه: هل يعقل اخذ قصد الامر في متعلق الامر؟ وهل يمكن للمولى ان يقول: صل بقصد قولي هذا صلي أم لا يمكن؟!

فبناء على عدم الإمكان: قال المحقق النائيني «قده» ان الجعل وقع مهملاً، لا مطلقاً، ولا مقيدا. إذ لا يمكن اصلا في المقام التقييد كي يمكن الاطلاق، وقع الجهل مهملا ولذلك ان كان غرض المولى قائما بالمقيد فلابد من متمم جعل يفيد فائدة التقييد، وإن كان غرض المولى في الطبيعي فلابد من متمم جعل يفيد فائدة الاطلاق والا الجعل وقع مهملا.

وذهب سيدنا الخوئي «قده» إلى انه الاهمال مستحيل، فالإطلاق وقع بالضرورة أي إذا استحال التقييد تعين الاطلاق لا ان الاطلاق مستحيل لأن تقابلهما تقابل الضدين. فاذا استحال احدهما تعين الاخر، وهنا افاد السيد الاستاذ بأنه: أن ما وقع اطلاق لا كما يقول المحقق النائيني انه اهمال بل ما وقع اطلاق لكنه اطلاق ذاتي لا اطلاق لحاظي، لأن الاطلاق اللحاظي فعل اختياري للمولى، والإطلاق هنا فرض نفسه على المولى لا أنه فعل اختيار له حيث لا يمكنه التقييد فيتعين عليه الاطلاق.

فهذا الاطلاق الذي فرض نفسه من دون فعل اختياري للمولى هو اطلاق ذاتي لا اطلاق لحاظي، والإطلاق الذاتي يقابل التقييد أو التقيد تقابل السلب والإيجاب، التقييد إيجاب والإطلاق الذي يفرض نفسه على المولى عدم التقييد وهو فعلي وهو سلب.

المورد الثاني: ما إذا لم يؤخذ القيد مع عدم التفات المنشأ للانقسامات، مثلا رجل عامي قام وقال: وقفت هذه الدار أو البستان للعلماء، وهو لا يدري ان في العلماء اصولي واخباري، ولكنه بفطرته لا يعلم بهذا التقسيم اصلا، على شاكلة واحدة. فانشأ الوقف قال: وقفت هذه الدار على العلماء. ثم نبه على ان هناك علماء اصوليون يفتون بالعقل، وهناك علماء اخباريون لا يفتون الا بالحديث والروايات.

إذن هذا الذي انشأ الوقف مطلقا ولم يكن ملتفتا إلى الاقسام، هل الذي حصل منه اطلاق لحاظي أم اطلاق ذاتي؟

يقول: الذي حصل منه اطلاق ذاتي، بمعنى انه وقف الدار على العلماء من دون تقييد لكن لم يكن عن التفات للاقسام ولحاظ للرفض. والنتيجة: عندنا تقييد من جهة وهو: التقييد اللحاظي والذاتي، وعندنا اطلاق من جهة، وهو الاطلاق الذاتي واللحاظي، وتقابل الإطلاق الذاتي مع التقييد بكلا قسمين تقابل السلب والايجاب، وأما تقابل الاطلاق اللحاظي مع التقييد اللحاظي تقابل الملكة والعدم، بمعنى انهما فعلان اختياران يقومان به المولى فيحتاج الاطلاق اللحاظي إلى لحاظ من المولى للاقسام ورفض للتقسيم مع قدرته على ذلك، وإلا لا يكون اطلاقاً لحاظياً. هذا الذي افاده السيد الأستاذ «دام ظله» في بحث «أخذ قصد الامر في متعلق الامر» وذكر هذا النقطة ايضا في «شرح قاعدة لا ضرر».

ويلاحظ على ما افاده:

اولا: انه تارة يرى ان ما افاده اصطلاح خاص به، وهو تقسيم الاطلاق إلى ذاتي ولحاظي كتقسيم التقييد إلى ذلك، فلا مشاحة في الاصطلاح. وتارة يقول: بأن ما هو محل الكلام بين الاعلام من انه هل التقابل تقابل «تقابل الملكة والعدم» أو التضاد أم الايجاب والسلب هو الذي بين الاعلام من قبيل الاطلاق اللحاظي لا من قبيل الاطلاق الذاتي، ولو التفت الاعلام لذلك لقالوا ان التقابل تقابل الملكة والعدم، فاذا كان هذا مقصوده فهو ممنوع، فإن ما هو محل الكلام بين الاعلام هو واقع عدم التقييد ليس الا بلحاظ ان هذا هو الصالح لأن يكون موطنا للاثر، كما ذكرنا امس، فإن محل البحث ليس في عالم اللحاظات العقلية، وانما محل البحث: ما هو الواقع الذي يكون صالحا لترتب الأثر؟ قد لا يترتب عليه الاثر لمانع من الموانع، كلامنا في الصلاحية لا في الفعلية، فما هو الواقع الصالح لأن يكون موضع الاثر؟ هو واقع عدم التقييد، مثلاً: إذا لاحظ المولى الرقبة، فإما ان يرى ان الملاك في الرقبة المؤمنة فقد راقب الملكة بوصف المال، واما انه لاحظ الرقبة سارية كما في بعض التعبيرات، فإن لحاظ السريان لا دخل له في الاثر، إذ يكفي في ترتب الاثر بمعنى اشتغال العهدة أو ترتب الاثر شرعاً إذا كان للاطلاق اثر شرعي يكفي عدم لحاظ القيد بلا حاجة إلى لحاظ السريان أو النفوذ. نعم ينتزع من عدم اللحاظ عنوان اللا بشرطية، فاللا بشرطية وصف للحاظ لا للملحوظ فإن اللحاظ مجرد طريق محظ، والمحلوظ ذات الرقبة لا شيء آخر، غاية ما في الباب إذا لاحظ ذات الرقبة ولم يلحظ معها شيء انتزع من عدم لحاظ شيء اخر معها حد عدمي يعبر عنه بلا شرطية، لا ان اللا بشرطية ملحوظة كما يراه السيد الخوئي «قده» بل اللا بشرطية منتزعة عن حاق اللحاظ ومتن اللحاظ لا انها شيء ملحوظ بحيث ينصب عليه اللحاظ، فهذا الذي نقول عنه بأنه: صالح لأن يكون موطن الاثر وهو عدم التقييد، عدم اخذ القيد، هذا مقابل للتقييد تقابل السلب والايجاب، سواء كان التقييد ممكنا أو كان التقييد غير ممكن كما في اخذ قصد الامر في متعلق الامر، فإن امكان التقييد وعدم امكان التقييد لا يغير واقع الاطلاق الذي هو عبارة عن عدم اخذ القيد، وسواء كان المنشأ ملتفت إلى الاقسام أو كان عاميا غير ملتفت إلى الاقسام، بالنتيجة: ما هو موطن الاثر «الصالح لأن يكون موطنا للاثر» هو واقع عدم اخذ القيد. فإذا اراد الأستاذ ان يقول: انا اريد ان اصنف واقع عدم اخذ القيد، فأقول: ان كان مع امكان التقييد فاسميه اطلاقا لحاظيا، وإن لم يكن مع امكانه اسميه اطلاقا ذاتيا، وان كان مع الالتفات سميته اطلاقا لحاظياً وان لم يكن مع الالتفات سميته اطلاقا ذاتيا، لا مشاحة في التصنيف والاصطلاح، لكن هذا لا يغير من الواقع شيئا، في ان الإطلاق الصالح لأن يكون موطنا للاثر هو واقع عدم اخذ القيد لا شيء آخر.

غاية ما في الباب: انه إذا كان عدم اخذ القيد حين الجعل مع الالتفات إلى الأقسام والتمكن من التقييد كان كاشفا عن سعة الملاك وسعة الغرض وان لم يكن كذلك لم يكن كاشفا يعني لم يترتب عليه بالفعل والا هو صالح لترتب الاثر ومقتضٍ لترتب الاثر، لكن لأن المنشأ لم يتلفت أو لم يتمكن من التقييد قلنا عدم اخذ القيد ليس كاشفا عن سعة الملاك وانما يكون كاشفا عن سعة الملاك إذا كان كاشفا عن سعة الملاك إذا التفت وكان يمكنه التقييد. فليكن كذلك. اما واقع عدم القيد واحد وليس متعددا، وهو مقابل للتقيد تقابل تقابل السلب والايجاب. واما ما افاده من التقييد الذاتي ومن التقييد اللحاظي. فالتقييد واحد، غاية ما في الامر تارة يكون تقييداً بالمباشرة وتارة تقييد بالواسطة. فالمولى إذا قيد الوجوب بالمباشرة فقد قيّد الواجب بالواسطة. فإنه يصدق عليه انه تقييد مولوي غاية ما في الامر انه بالواسطة لا بالمباشرة. كما ان التقييد المولوي سواء كان تقييدا تفصيلاً أو تقييدا ارتكازيا واجماليا واحد وان اختلف الوعاء فليس لدينا تقييدان ذاتي ولحاظي وإطلاقان ذاتي ولحاظي، واطلاقان ذاتي ولحاظي، بل ليس لدينا الا تقييد قد يكون بالمباشرة وقد يكون بالواسطة، ويقابله الاطلاق وهو عدم اخذ القيد، غاية ما في الباب ان هذا الاطلاق انما يكون كاشفا عن سعة الملاك إذا كان كاشفا عن سعة الملاك إذا كان مع التفات وامكان للتقيد، وإلا فلا يكون كاشفا عن سعة الملاك.

فظهر بذلك: ان الصحيح ما ذهب اليه السيد الشهيد «قده» وجمع من ان تقابلهما تقابل الايجاب والسلب.

والحمد لله رب العالمين.