الدرس 88

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: ان الشيخ الاعظم «قده» افاد: بأنه إذا دار الأمر بين الأقل والاكثر أي بين كون الواجب تسعة أو عشرة، فهو منحل الى علم تفصيلي بوجوب الأقل اما استقلالا أو ضمنا، وشك بدوي في وجوب الأكثر فهو مجرى للبراءة العقلية. وذكرنا ان في كلام الشيخ «قده» عدة إشكالات:

الاشكال الاول: ما ذكره المحقق النائيني من انه: لا يوجد انحلال بل العلم بوجوب الأقل إما استقلالا أو ضمنا هو عين العلم الاجمالي الاول.

وأجيب عن اشكال المحقق النائيني بجوابين: ما ذكره سيدنا الخوئي من ان المدعى هو الانحلال الحكمي، وما ذكرناه في جواب ثاني وهو دعوى الانحلال الحقيقي بلحاظ عالم الجعل وعالم اشتغال العهدة، وتصل النوبة الان للإشكال الثاني لكلام الشيخ الاعظم الذي ادعى الانحلال:

ومحصله: لا يتصور انحلال حقيقي بلحاظ عالم العهدة فضلا عن عالم الجعل. بيان ذلك بلحاظ مقدمتين:

المقدمة الاولى: ان معروض الوجود العنوان، لا الوجود الخارجي. فوجوب الصلاة لا يعرض على الصلاة الخارجية، وإنما يعرض على عنوان الصلاة الحاكي والفاني عن الصلاة الخارجية، لأن الخارج ظرف للسقوط لا ظرف للثبوت، فما في الخارج مسقط للحكم لا انه معروض الحكم، لذلك معروض الحكم ومتعلقه العنوان الفاني في الخارج.

المقدمة الثانية: انه إذا دار الأمر بين تسعة وعشرة، فالنسبة بينهما خارجاً اقل واكثر. إذ الخارج إما تسعة اما عشرة، فالنسبة بينهما بحسب الوجود الخارجي نسبة الأقل والاكثر لكن المفروض ان الوجود الخارجي ليس هو متعلق الحكم ومعروضه، واما إذا لاحظنا النسبة بين العناوين: يعني عنوان تسعة وعنوان عشرة. فإننا نرى النسبة بين العنوانين نسبة التغاير لا الأقل والاكثر. فإن العنوانين في الذهن متغايرة ومتباينة، فعنوان التسعة مغاير لعنوان العشرة، بالتالي بما ان العنواني هي متعلق الحكم والعنوانين متغايرة وليس بينها اقل واكثر اذن لا يوجد انحلال حقيقي بلحاظ عالم العهدة فضلا عن عالم الجعل، إذ لا ندري ان الذي اشتغلت به العهدة تسعة أم عشرة؟ هذا تردد بين عنوانين متغايرين. ومن اجل تنقيح هذا المطلب: ندخل في بحث فقهي اصول: وهو: «حقيقة الواجب الارتباطي» فعندما يقال: الصلاة واجب ارتباطي، ما هو المقصود بالارتباطية؟ وما هو منشأ الارتباطية؟ بحيث يتقيد كل جزء بالجزء الآخر؟ فهنا مباني ثلاثة في كلمات الاعلام لبيان حقيقة الارتباطية:

المبنى الاول: ما ذهب اليه المحقق العراقي «قده» وشرحه في «ج3، نهاية الافكار، ص377»، حيث افاد: بأن وحدة الوجوب تتعلق بها وحدتان: معلول لها، وعلة لها. بيان ذلك:

وجوب الصلاة مثلا لا ريب انه وجوب واحد، وهذه الوحدة «وحدة الوجوب» ترتبط بها وحدتان، وحدة معلول لها، ووحدة علة لها. فاذا نظرنا الى الأولى وهي الوحدة المعلولة أي إذا تعلق الوجوب بالصلاة المتكثرة من عدة اجزاء فنتيجة تعلق الوجوب الواحد بالأجزاء العديدة اتصاف هذه الاجزاء بالوحدة، فهذه الوحدة التي التضمت تحتها الاجزاء وحدة ناشئة عن وحدة الوجوب المتعلق بها. لكن هذه الوحدة لا يمكن اخذها في متعلق الوجوب، لانها ناشئة عن الوجوب فكيف تؤخذ في متعلقه؟ فبما ان هذه الوحدة ناشئة عن الوجوب فهي في طوله ومتأخرة عنه، فكيف يعقل ان تؤخذ في متعلقه. هذا بالنسبة الى الوحدة الأولى.

الوحدة الثانية: التي هي علة لهذه الوحدة. بيان ذلك:

ان الوجوب ظل للملاك، فلا يمكن ان يكون الوجوب واحداً الا إذا ان الملاك واحداً، اذن وحدة الوجوب ناشئة عن وحدة الملاك، فإذا رجعنا لوحدة الملاك تسائلنا: هل يمكن اخذ وحدة الملاك في متعلق الملاك؟ مثلا: الصلاة ذات ملاك واحد وهو الناهوية عن الفحشاء والمنكر، فهذا الملاك الواحد، هل يعقل ان يؤخذ في متعلقه؟ بمعنى ان الناهوية تقتضي ان يكون متعلقها وهو الصلاة واحداً، هذا غير معقول، إذ كما قلنا أن الوحدة الناشئة عن وحدة الوجوب لا تؤخذ في متعلق الوجوب فالوحدة الناشئة عن وحدة الملاك لا يمكن ان تؤخذ في متعلق الملاك. اذن لم يؤخذ في متعلق الملاك وحدة وان كان الملاك واحداً، فاذا لم يؤخذ في متعلق وحدة والوجوب ظل للملاك بالنتيجة ان الوجوب ايضا لم تؤخذ في متعلق وحدة.

اذن الوجوب تعلق الكثير بما كثير، أي تعلق بتسعة اجزاء بما هي تسعة، وبعشرة بما هي عشرة، لا انه تعلق بشيء واحد في رتبة سابقة. فالارتباطية من اين حصلت؟! إذا كان الوجوب الواحد متعلقاً بالكثير بما هو كثير فمن اين نشأت الارتباطية؟

فأجاب: بأن الارتباطية نشأت بعد تعلق الوجوب الواحد بالكثير لا في رتبة سابقة فبعد تعلق وجوب واحد بتسعة أو بعشرة اتصفت هذه العشرة بالوحدة، فاتصافها في الوحدة في رتبة متأخرة هو منشأ الارتباطية.

وفي كلمات تقريرات السيد الشهيد «قده» ايرادان على المحقق العراقي:

الايراد الاول: ما في «مباحث الاصول، ج4، ص313» قال: بعد فرض ان العرض واحد فكيف يعقل ان يكون المعروض كثير؟ فإن لازم ذلك اما تعدد العروض أو تعدد العرض، مثلا: إذا عندنا قيام وعندنا عدة اجسام، هل يمكن ان يعرض القيام الواحد على اجسام عديدة؟ هذا غير معقول، بل قيام الاجسام العديدة إما بتعدد العرض، يعني تعدد القيام أو تعدد العروض يعني هو القيام الواحد يتصف به الجسم اولا ثم يتصف به الجسم ثانيا وهكذا، فلا يعقل ان يكون العرض واحد، والعروض واحد مع ان المعروض كثير، هذا امر غير معقول، فكيف يصدر من العراقي هذا؟ بأن يقول: يعرض الوجوب على الكثير بما هو كثير؟

ولكن هذا الايراد اشباه واضح، لانه ليست علاقة الصفات النفسية والذهنية بمتعلقها علاقة العارض والمعروض عليه، لا من اهل الحكمة ولا من اهل الاصول حتى يشكل على العراقي ذلك، ليست الصفة النفسانية ولا الصفة الذهنية بالنسبة لمتعلقها نسبة العارض لمعروضه، ولذلك لم يذكر هذا في تقريره الثاني «بحوث في علم الاصول» بل ذكر ايراد اخر: مبني على ان نسبة الصفة النفسية أو الذهنية لمتعلقها نسبة الاضافة لا نسبة العارض والمعروض. إلا انه افاد «قده» بحسب ما في التقرير: انه لا يعقل ان يكون المضاف والمضاف اليه متغايرين في ظرف الاضافة، فهما واحد أو هما كثير.

وبيان ذلك بأمور ثلاثة تعرض لها:

الأمر الاول: لا إشكال أن الصفات النفسانية والذهنية لها اضافتان: اضافة لموضوعها وهو النفس، النفس علمت، فالعلم له اضافة الى النفس، وهذه الإضافة هي اضافة العارض والمعروض، ولها اضافة الى متعلقها، النفس علمت بوجود النهار، فنسبة العلم للنفس نسبة العارض لمعروضه، ونسبة العلم لوجود النهار نسبة الإضافة نسبة التعلق، وإذا حللنا النسبة الثانية، يعني نسبة العلم لمتعلقه: وجدنا انها نسبة الإضافة، بمعنى: أن الإضافة مقوّمة لحقيقتها لا انها امر زائد عليها، فالعلم من مقومات حقيقته هو الإضافة الى متعلقه فلا علم بلا معلوم.

وبناء على ذلك: فلا يعقل ان يتعلق العلم بالخارج، وانما لا محالة يتعلق العلم بالصورة الذهنية لان المفروض ان مقومات العلم الاضافة فلابد ان يكون المضاف اليه في ظرف وعاء المضاف والا لم يكن من مقولة الاضافة، ولذلك قد لا يكون ما في الخارج موجوداً ومع ذلك هناك علم به، كأن اعلم الان في يوم الاربعاء بوجود يوم الخميس، قطعا غدا الخميس مع انه لم يوجد بعد، إذن فيتبين بذلك: ان مقتضى كون العلم من مقولة الإضافة ان يكون المضاف اليه في ظرف العلم نفسه لا في ظرف الخارج إذ قد لا يكون ما في الخارج موجوداً.

الامر الثاني: قال بانه: لا تتوهم من كلامنا ان في الذهن وجودين: علم ومعلوم، احدهما مضاف والاخر مضاف اليه، بل هما وجود واحد، فالعلم عين المعلوم، والتصور عين الصورة، وليس شيئا آخر بل هما وجود واحد، والشاهد على ذلك انه لو كان الوجودين لامكن ان يتصور العلم وحدة من دون المتعلق، مع انه لا يمكن ذلك، مما يكشف عن وحدة العلم والمعلوم. فاذا تبين ذلك في العلم تبين في سائر الصفات النفسانية، فبين الحب والمحبوب الذات وحدة، وبين الارادة والمراد بالذات وحدة، وبين الوجوب والواجب بالذات وحدة. فبالتالي فكيف يعقل ان يكون الارادة واحدة كما يقول العراقي كثير بما هو كثير، أو الوجوب في ذهن المولى واحد والوجوب كثير بما هو كثير؟!

الامر الثالث: أن العراقي «قده» قال: يعرض الوجوب على الكثير بما هو كثير، فنسأل: هل المنظور في كلامه: الكثرة الخارجية، نعم الصلاة في الخارج كثير الا ان الخارج ليس معروضاً للوجوب، كما قلناه في الأمر الاول. وان كان منظوره ان المعروض في الذهن كثير فهذا غير معقول، لان المضاف والمضاف اليه في الذهن وجود واحد وان حللهما العقل الى عنوانين: قال هذا علم وهذا معلوم، وهذا حب وهذا محبوب، الا انهما في الواقع وجود واحد.

فتبين بذلك: اندفاع كلام العراقي «قده».

ولكن يلاحظ على هذا الايراد:

بانه هناك فرق بين العلم التصوري والعلم التصديقي،

الارتسامي من ادراك الحجى اما تصور يكون ساذجا

او هو تصديق هو الحكم فقط ومن يركبه فيركب الشطط

فاذا نظرنا الى العلم التصور، صحيح العلم هو عين المعلوم والتصور هو عين الوصرة وليس شيئاً آخر. فالتصديق بالنسبة غير النسبة، لان التصديق اذعان وهذا الاذعان النفسي لها متعلق وهو قيام زيد، قعود بكر، فاذا تصور الذهن هذه النسبة زيد قائم فالتصور والصورة واحد، إنما اذعان النفس بهذا الصورة أو تشكيك النفس في هذه الصورة أو ظن النفس بهذه الصورة أو وهمها، فإن هذه الحالات النفسية من جزم وظن وشك ووهم شيء والصورة شيء آخر. وهذا لو تم في العلم التصديق تم في الصفات النفسانية الاخرى من الحب والشوق والارادة واما اشبه ذلك. فإنه هناك ارادة متعلقة بنسبة معينة، مثلا مطلوبية الصلاة، هناك رغبة في نسبة معية وهي الذهاب الى الدرس. فهناك وجودان: ارادة ونسبة مرادة لا انه هناك وجود واحد. هذا ما يدعيه العراقي.

فان قلتم: كيف نتصور نسبة الاضافة مع مضاف ومضاف اليه مع العلم انهما وجودان لا وجود واحد؟

قلنا: فماذا تقولون بالنسبة الى النسبة وطرفيها؟ فهناك وجودان للطرفين، صورة زيد، صورة قيامه، النسبة بينهما، وهذه النسبة عبارة عن وجود رابط بينهما، فهذا الوجوب الرابط بين الطرفين المعبر عنه بالنسبة الذهنية نسبته الى الطرفين نسبة الإضافة والتعلق ومع ذلك هو وجود ثاني غير وجود الطرفين، فمجرد ان هنا وجود مضاف الى آخر لا يعني التوحد في الوجود، مثلا: تصور في ذهنك: جاء زيد بل عمر. هذه نسبة الإضراب، نسبة الاضراب هي نفس النسبة الاولى أو غيرها؟ بل غيرها «جاء زيد بل عمر» النسبة الثانية مضافة الى الأولى أم لا؟ طبعا مضافة والا لم تكن اضراباً، مع انها مضافة الى الاولى هل هي متحدة مع الأولى وجوداً؟ لا، بل هناك نسبتان احداهما متعلق بالأخرى مع ذلك جمعنا بين الاضافية وتعدد الوجود.

إذن بالنتيجة: بما انه بلحاظ النسب نرى وجودات لذلك الصفات النفسية المتعلقة بهذه النسبة كالإرادة كالوجوب كالرغبة وان كانت نسبتها الى النسب نسبة الإضافة الا ان هناك وجودين، وهذا ما يدعيه العراقي. فالإرادة تتعلق بالكثير بما هو كثير في ظرف الإرادة لا في ظرف الخارج. ونتيجة تعلق الإرادة بالكثير بما هو كثير ان ينتزع الذهن ارتباطيي هذا الكثير.

والحمد لله رب العالمين.