الدرس 89

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في حقيقة الواجب الارتباطي، وذكرنا فيما سبق المسلك الاول وهو مسلك المحقق العراقي، وقلنا: بأن نقاش السيد الشهيد له محل تأمل. ومسلكه وجيه.

المسلك الثاني: ما ذهب اليه السيد الخوئي «قده» كما في «مصباح الأصول»: بأن مرجع الارتباطية الى تقيد كل جزء بالجزء الآخر، فمتعلق الوجوب الضمني ليس هو الركوع على نحو اللا بشرط، وإنما متعلقه الركوع المتقيد بانضمام باقي الاجزاء اليه على نحو الشرط المتقدم والشرط المتأخر. فبلحاظ ما سبقه يكون الانضمام شرطاً متقدماً، وبلحاظ ما لحقه يكون الانضمام شرطاً متأخراً. وقد استدل على ذلك: بأن الوجوب إذا تعلق بالركوع فإما ان يتعلق به على نحو اللا بشرط، من حيث انضمام باقي الاجزاء وعدمه او يتعلق به بشرط لا او يتعلق به بشرط شيء. والاهمال غير معقول في عالم الجعل. فبما ان تعلق الوجوب بالركوع على نحو اللا بشرط خلف الضمنية، اذ مقتضى كون الركوع واجبا ضمنياً وبقية الاجزاء واجبات ضمنية ان لا يسقط الوجوب بمجرد الركوع، اذن لو كان الوجوب متعلقا بالركوع على نحو اللا بشرط لسقط بمجرد الركوع، وهذا خلف كون الواجبات ضمنية. ولا يعقل ان يكون بشرط لا، فهذا اشد محذورا من الاول فتعين ان يكون بشرط شيء، فالوجوب تعلق بكل جزء مشروطاً ببقية الاجزاء، فهذه هي الارتباطية.

وأشكل السيد الشهيد على كلامه بإشكالين:

الإشكال الاول: أن دعوى ان الاطلاق على نحو اللابشرط غير معقول في الواجب الضمني مبني على مسلكه، من رجوع الاطلاق الى لحاظ العدم او لحاظ السريان، فعلى مسلكه يقال: تعلق الوجوب الضمني بالركوع لو كان على نحو الاطلاق لكان معناه: ان المولى لاحظ الركوع ساريا مع بقية الاجزاء ومع عدمها، فهذا هو معنى الاطلاق أي معنى الاطلاق على مسلكه ان المولى حينما اوجب الركوع اوجبه مقترنا بباقي الاجزاء او مع عدمها وهذا خلف كون الاجزاء واجبات ضمنية. ولكن اذا قلنا ان الاطلاق لا يعني لحاظ السريان، وانما الاطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد، فأي مانع من ان يكون جميع الاجزاء واجبات ضمنية ومع ذلك عندما تعلق الوجوب بها تعلق بها مع عدم لحاظ الانضمام، هذا لا يتنافى مع كون الواجبات ضمنية. اذن ان الذي يتنافى مع كون الواجبات ضمنية لحاظ السريان أي ان يلحظ الركوع مع الاجزاء ومع عدمها، هذا خلف كون الواجبات ضمنية، اما ان يلحظ الركوع من دون ان يلحظ الانضمام فلا يتنافى مع كونها واجبات ضمنية.

الاشكال الثاني: سلّمنا بالتقيد وان كل جزء متقيد بباقي الاجزاء، لكن هذا لا يفيد الارتباطية، حتى لو حصلت، فان الاشتراط أي اشتراط شيء بشيء اعم من ان يكون واجبا ارتباطيا، مثلا: لا اشكال ان صحة العصر مشروطة بسبق الظهر لكن هذا لا يعني انهما واجب ارتباطي، حتى لو قلنا كما ذهب اليه البعض من ان صحة الظهر ايضا مشروطة بلحوق العصر، هذا لا يعني أنهما واجب ارتباطي، فلعل هناك غرضين: غرضا نفسيا مستقلا قائما بالظهر وغرضا نفسيا مستقلا قائما بالعصر، لكن هذين الغرضين لا يتحققان خارجا مع استقلاليتهما الا مع الانضمام او السبق او اللحوق، فمجرد التقيد لا يعني الارتباطية.

المسلك الثالث: وهو مسلك السيد الشهيد المبتني على مقدمتين:

المقدمة الاولى: هناك فرق بين العناوين المستوردة والعناوين المخترعة، فان الذهن تارة يستورد العنوان من الخارج، كعنوان الانسان والنبات، فان الذهن اذا حصل صور الخارج عنده جرّدها من الخصوصيات وانتزع منها العنوان الكلي كعنوان الانسان، فهذا العنوان عنوان مستورد وهو اصيل لوجود ما بازائه خارجاً.

وتارة يكون العنوان مخترعا من قبل الذهن وليس له ما بإزاء في الخارج، كعنوان «احدهما»، كعنوان الكل، كعنوان المجموع، فان الذهن اذا لاحظ ان الغرض في زيد او بكر قال: الغرض في احدهما، فيخترع عنوانا وهو عنوان «احدهما» ويحمله على ما في الخارج من دون ان يكون لهذا العنوان ما بإزاء إذ ليس في الخارج الا زيد وحده او عمر وحده، اما مفاد «او» الذي هو عبارة عن احدهما، فهو مخترع ذهني لا وجود له خارجاً. كذلك عنوان الكل، اذ ليس في الخارج الا الاجزاء، او عنوان المجموع، اذ ليس في الخارج الا الاشياء، فهذه عناوين مخترعة ذهنا.

المقدمة الثانية: إنّ وحدة الواجب الارتباطي لا بتقيد كل جزء في الجزء الآخر كما يقول سيدنا الخوئي ولا بوحدة الوجوب العارض كما يقول المحقق العراقي، بل بوحدة روح الوجوب بلحاظ ان هناك غرضا واحدا وملاكا واحدا قائما بهذه الاجزاء المتكثرة، كما اذا افترضنا ان الغرض في الصلاة هو عنوان النهي عن الفحشاء والمنكر فهو غرض واحد قائم بمتكثر خارجي، وحينئذ بما ان الغرض واحد فلا محالة المتولد عن وحدة الغرض وحدة الشوق والإرادة، فما في نفسه المولى شوق واحد، وإرادة واحدة تعلقت بهذه المتكثرات، وحيث لا يعقل تعلق الصفة النفسية الواحدة بالمتكثر بما هو متكثر فلا محالة تقوم النفس باصطناع عنوان لذلك المتكثر ليتعلق به الشوق والارادة فتخترع لهذه الاجزاء عنوان تسعة او عنوان عشرة ليتعلق بها الشوق والارادة.

فالنتيجة: بما انه بلحاظ روح الحكم الروح واحدة، وبلحاظ ان وحدة الروح تستدعي وحدة عنوان مخترع يحمل على الاجزاء الخارجية، يتحقق بذلك الارتباطية بين الاجزاء.

وحيث ان السيد «قده» تعكز على هذه النقطة الاخيرة وقد سبق المناقشة فيها وهي:

لا مانع في الصفات التصديقية من متعلقها بالمتكثر بما هو متكثر، اذن بالنتيجة مجرد وحدة الروح لا يعني تحقيق الارتباطية بين الاجزاء في مرحلة الجعل ما لم يكن في مرحلة الجعل وجوب واحد، وهو راجع الى مسلك المحقق العراقي.

فبعد ان تبين لنا المسالك في حقيقة الواجب الارتباطي فعلى أي مسلك يتم الانحلال الحقيقي دون غيره يأتي الكلام عنه غداً إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.