الدرس 90

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: ان حقيقة الواجب الارتباطي هل هي باشتراك الاجزاء الكثيرة في وجوب واحد كما هو مسلك العراقي؟ ام بتقيد كل جزء بباقي الاجزاء في رتبة سابقة كما هو مسلك سيدنا «قده» ام باشتراك الاجزاء المتكثرة في روح الوجوب وهو الغرض والإرادة؟

فعلى كل مبنى من المباني هل يمكن تصور الانحلال الحقيقي ام لا؟

فنقول: أما على المبنى المختار لدى العراقي: من أن الواجب الارتباطي ما اشتركت الاجزاء في وجوب واحد، فيقال: على هذا المبنى: يتصور الانحلال الحقيقي، بلحاظ أن هناك وجوبا واحداً سواء تعلق بالاقل او بالاكثر لا يتنوع، وهذا الوجوب الواحد لا ندري هل انبسط على الاقل ولم ينبسط على الاكثر؟ او انبسط على الاكثر؟ ومن الواضح ان انبساطه على الاقل او انبساطه على الاكثر دوران بين الاقل والاكثر لا بين المتباينين، فإن معنى انبساطه على الاقل انه: انبسط على التسعة ولم ينبسط على العاشر لا ان هناك قيدا وجوديا كقيد الفقط او قيد الاطلاق او أي قيد آخر، بل إما انه انبسط على العشرة او انبسط على التسعة ولم ينبسط على العاشر، نظير تردد الخط بين القصير والطويل، لا ندري هل ان الذي رسمه زيد دفعة واحدة خط قصير ام طويل؟

فالخط القصير مرسوم على كل حال، اذن فعلى هذا المبنى يوجد انحلال حقيقي في عالم الجعل، وبناء على ذلك فجريان البراءة عن الاكثر «البراءة العقلية» واضح.

وأما على المبنى الثاني: وهو مبنى سيدنا الخوئي «قده» من أن معنى الواجب الارتباطي هو تقيد كل جزء بباقي الاجزاء، فإذا شككنا هل ان الواجب تسعة او ان الواجب عشرة، فقد شككنا هل ان الجزء التاسع بشرط شيء يعني بشرط الجزء العاشر؟ ام ان الجزء التاسع بالنسبة للعاشر لا بشرط، فالدوران حينئذ بين البشرط واللا بشرط. لذلك نرجع الى لاصل المبحث، في التقابل بين الاطلاق والتقييد. فإن قلنا بأن التقابل بين البشرط واللا بشرط تقابل الضدين كما هو مسلك سيدنا «قده» فعلى مبانيه ألامر واضح، لا انحلال، اذ ما دام الامر مردد بين البشرط واللا بشرط فهو مردد بين وجوديين متباينين ولا يتصور حينئذ انحلال حقيقي.

وأما اذا قلنا بان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل الوجود والعدم، إذن بالنتيجة ليس اللا بشرط الا عدم لحاظ الجزء العاشر لا لحاظ عدمه، الاقل ملحوظ على كل حال لكن لاندري هل لحظ معه الجزء العاشر ام لم يلحظ؟ فيدور الامر بين لحاظ التسعة ولحاظ العاشر او لحاظ التسعة وعدم لحاظ العاشر، فهناك انحلال حقيقي بحسب اللحاظ ايضاً.

وأما على المبنى الاخير وهو مبنى السيد الشهيد «قده»: من ان حقيقة الواجب الارتباطي هو عبارة عن اشتراك الاجزاء المتكثرة في الغرض، ومقتضى اشتراك الاجزاء المتكثرة في الغرض اشتراكها في روح الوجوب وهو الارادة. غاية ما في الباب أن الارادة لا تتعلق بالكثير بما هو كثير، بل لابد من توسط عنوان تتعلق به الارادة فيقوم الذهن باختراع عنوان تتعلق به الارادة ويكون ذلك العنوان عنوانا للكثير، فيقال: بناء على هذا الخيال البديع الذي طرحه سيدن «قده» لا ندري هل ان الارادة تعلقت بعنوان التسعة او تعلقت بعنوان العشرة، لان الارادة لا يمكن ان تتعلق بالكثير بما هو كثير، فلا بد من توسيط عنوان تتعلق به، فاما ان تعلقت بعنوان التسعة او تعلقت بعنوان العشرة، ومن الواضح ان بين العنوانين تغاير مفهومي وان كان في الواقع الخارجي اقل واكثر، لكن بين عنوان التسعة وعنوان العشرة، فهل لا يمكن الانحلال الحقيقي بلحاظ العناوين؟ اذ نقول الواجب مردد بين عنوان تسعة وعنوان عشرة وهذان متغايران فلا انحلال حقيقي، أو يقال: كما هو افاد «قده»: ان هذه العناوين ما دامت مخترعة وليست مستوردة من الخارج أي انها ليست عناوين اصيلة لها ما بإزاء بل مجرد عنوانين مخترعة، اذن فهي مجرد مشير لا موضوعية لها، فما يدخل في عهدة المكلف هو المشار اليه هو ليس العنوان اذ العنوان مجرد اختراع ذهني وهذا الاختراع لا معنى لان يدخل في عهدة المكلف، فيما يدخل في عهدته العنوان المشار اليه لا العنوان المشير، لذلك نستطيع ان نقول: لا ندري هل دخل في عهدة المكلف عشرة؟ ام دخل في عهدة المكلف تسعة مع عدم دخول العاشر، فمن الواضح حينئذٍ يدور الامر بين الاقل والاكثر، ان الذمة اشتغلت بتسعة او اشتغلت بعشرة، فاشتغالها بالتسعة متيقن تفصيلا وتجري البراءة العقلية عن الاكثر.

هذا تمام الكلام في جواب الإشكال الثاني.

ذكرنا أن الشيخ الاعظم، في فرائده «قده» افاد: بأنه اذا تردد الواجب بين الاقل والاكثر فهناك علم تفصيلي بوجوب الأقل، اما استقلالاً او ضمناً، فتجري البراءة العقلية عن الاكثر.

قلنا هذا الكلام من الشيخ وجه عليه اشكالات:

الاشكال الاول: اشكال المحقق النائيني، ان العلم بوجوب الاقل اما استقلالا او ضمنا هو عين العلم الاجمالي بوجوب الاقل او الاكثر، فكيف ينحل به؟ وذكرنا ان السيد الخوئي اشكل عليه وتم الجواب.

الاشكال الثاني: انه لو تصور الانحلال الحكمي لم يتصور الانحلال الحقيقي، يعني انما يتصور في المقام في تحليل كلام الشيخ هو الانحلال الحكمي، اما الانحلال الحقيقي فلا يتصور، فدخلنا بناء على هذا الاشكال في تصوير الانحلال الحقيقي واقتضى ذلك ان ندخل في بحث حقيقة الواجب الارتباطي حتى نعرف انه على أي مبنى من الواجب الارتباطي يتصور الانحلال الحقيقي.

فتم بذلك الاشكال الثاني وان الانحلال الحقيقي متصور.

الاشكال الثالث: وهو ما ذكره صاحب الكفاية «قده» من انه لا يتصور انحلال في المقام، لا حقيقي ولا حكمي. والوجه في ذلك:

ان مدعى الشيخ الاعظم، انه اذا دار الامر في ان المتنجز في حقنا هل هو وجوب الاقل ام وجوب الاكثر؟ لا ندري، فالشيخ الاعظم يقول: فالاقل متنجز بعلم تفصيلي، نعلم تفصيلا بوجوب الاقل فيتنجز بهذا العلم التفصيلي فتجري البراءة العقلية عن الاكثر. وصاحب الكفاية «قده» في «ص364، الكفاية» قال: هذه الدعوى خلف، ومما يلزم من وجوده عدمه. وبيان ذلك ضمن مقدمتين:

المقدمة الاولى: لا ريب ان تنجز الأقل تفصيلاً فرع تنجز الوجوب الواقعي على كل حال، بلحاظ ان وجوب الاقل مصداق للواجب الواقعي، اذن بالنتيجة هل يعقل ان يتنجز وجوب الاقل من دون ان يتنجز الوجوب الواقعي وهو فرعه ومصداقه هذا غير معقول. إذن بالنتيجة لا يحصل لنا علم تفصيلي منجز للأقل الا اذا تنجز الوجوب الواقعي على كل حال بأن قلنا: ان كان الواجب واقعا هو الاقل فقد تنجز بالعلم التفصيلي بالأقل، أن كان الواجب واقعا هو الاكثر ايضا الاقل تنجز، فتنجز الاقل بالعلم التفصيلي فرع تنجز الوجوب الواقعي على كل حال، يعني سواء كان الواجب هو الاقل او كان الواجب الواقعي هو الاكثر على أية حال العلم التفصيلي بالاقل منجز.

المقدمة الثانية: بما أن الاقل لا يتنجز بالعلم التفصيلي الا بعد المفروغية ان الوجوب الواقعي متنجز على كل حال، فهذا يلزم من وجوده عدمه ويلزم منه الخلف، والسر في ذلك:

انه اذا تنجز الاقل بالعلم التفصيلي لم يتنجز الاكثر لجريان البراءة العقلية عنه، لأنه يصبح شكا بدويا، فمتى تنجز الاقل بالعلم التفصيلي لم يتنجز الاكثر، وإذا لم يتنجز الاكثر إذن لم يتنجز الوجوب الواقعي على كل حال، اذ على تقدير انه متعلق بالاكثر لم يتنجز لانكم قلتم: تنجز الاقل بعلم تفصيلي وجرت البراءة عن الاكثر فالوجوب الواقعي لم يتنجز على كل حال، اذ على تقدير ان الواجب الواقعي هو الاكثر فلم يتنجز، إذن لزم من تنجز الاقل بالعلم التفصيلي عدم تنجز الاكثر، ويلزم من عدم تنجز الاكثر عدم تنجز الوجوب الواقعي على كل حال، بينما لا يتنجز الاقل بعلم تفصيلي حتى ينجز الوجوب الواقعي على كل حال، فيلزم من تنجز الاقل بعلم تفصيلي عدم تنجزه، اذ يلزم من تنجزه عدم تنجز الاكثر، ويلزم من عدم تنجز الاكثر عدم تنجز الوجوب الواقعي على كل حال، والحال بان الاقل يتنجز على حال حتى يتنجز الوجوب الواقعي على كل حال، فيلزم من وجوده عدمه.

وفي الجواب عن مطلب الكفاية: لابد من تقديم مقدمة، وهي: ان مصطلح الفعلية عن صاحب الكفاية يختلف عن مصطلح الفعلية عند المحقق النائيني فلا يخلط بينهما. فإن المحقق النائيني «قده» يقول: للحكم مراحل ثلاث: مرحلة الجعل، «ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا» ومرحلة الفعلية: وهي مرحلة فعلية الوجوب بفعلية الموضوع وهو الاستطاعة، متى صارت الاستطاعة فعلية صار الوجوب فعلياً، علم المكلف ام لم يعلم به. ومرحلة التنجز وهي مرحلة العلم، فلو فرضنا ان المكلف استطاع ولم يعلم بكونه مستطيع حتى مضى زمان الحج ثم التفت، فالوجوب فعلي في حقه في زمان الحج وثمرة ذلك انه يجب عليه الحج في العام القادم ولو متسكعاً، لان الوجوب صار فعليا في حقه وان لم يتنجز، لعدم علمه به. ولكن صاحب الكفاية قال: الفعلية ما تعلقت الارادة اللزومية به. فعندما نقول: هذا الامر فعلي يعني تعلقت به الارادة اللزومية من قبل المولى، هذا معنى الفعلي، لاجل ذلك صاحب الكفاية يقول: الخطاب اما انشائي واما فعلي، ان كان انشائيا يعني لم يتعلق على طبقه الارادة اللزومية نظير حرمة الحديد، فان الحديد يقولون سيحرم عند ظهور القائم «عج» إذن حرمة الحديد الآن انشائية يعني لم تتعلق على طبقها الارادة اللزومية، واما بالنسبة الى وجوب الحج، فالمولى يقول: الحج من المستطيع متعلق عند لإرادة لزومية من أول الامر، انا عندي ارادة لزومية من صدور الحج من المستطيع من أول الامر، هذا معنى الفعلية عند صاحب الكفاية. لذلك في حاشيته على الكفاية: لم يفرّق بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية، قال هما سيّان، قال هذا الخطاب «اقم الصلاة» المردد بين الاقل والاكثر، هذا الخطاب اما احرزنا انه حكم انشائي فإذن ليس على طبقه ارادة لزومية وبالتالي لا يجب الاحتياط، بل لا نحتاج الى البحث تجري البراءة او لا تجري البراءة، لانه مجرد صورة الحكم «انشاء». واما ان تحرز الارادة الفعلية أي نقطع أن الوجوب في المقام وهو قوله: «اقم الصلاة» متعلق لإرادة لزومية، فإذن قطعنا بان قوله: «اقم الصلاة» متعلق لإرادة لزومية، لكن لا ندري ان الارادة اللزومية الاقل ام الاكثر وجب الاحتياط عقلاً. فلا براءة عقلية ولا براءة شرعية، فإما ان تقولوا حكم انشائي فتجري البراءتان، او تقولوا حكم فعلي فلا تجري البراءتان. إذ بعد علمكم بإرادة لزومية لا يرخص المولى في ترك متعلقها وشككتم بين الاقل والاكثر فلا تحرزون الفرغ من المراد اللزومي بجريان البراءة.

اذن بالنتيجة مقتضاها الاحتياط. فنحن لا نتكلم على ضوء كلامه في الكفاية، بل نتكلم على ضوء كلامه في متن الكفاية، حيث في متن الكفاية فصل بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية، فقال: اذا دار الامر بين الاقل والاكثر لا تجري البراءة العقلية لكن تجري البراءة الشرعية على الاكثر. على مبناه نتكلم غدا في متن الكفاية.

والحمد لله رب العالمين.