الدرس 91

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: ان صاحب الكفاية «قده» اشكل على ان تنجز الاقل على كل حال فرع تنجز الوجوب الواقعي على كل حال، فلو لزم من تنجز الاقل عدم الاكثر لورد محذور الخلف، أو محذور استلزام وجود الشيء وعدمه.

وقد اجيب عن كلام صاحب الكفاية «قده» بوجوه:

الوجه الأول: ما ذهب اليه الاعلام: سيد المنتقى، والسيد الصدر، والسيد الاستاذ: من أنّ مطلب صاحب الكفاية يبتني على عدم التكثر في التنجيز. وبيان ذلك: بذكر صياغتين في هذه النكتة:

الصياغة الاولى: ما ذكره سيد المنتقى، والسيد الأستاذ: من التعبير ب «التبعض في التنجيز» وقد اشار الى ذلك سيد المنتقى في «ج5، ص301».

وبتقريب منا لهذه الصياغة يقال: هناك أمور ثلاثة:

الأمر الأول: إن الوجوبات المتعلقة بالأجزاء وان لم تكن قابلة للتبعيض ثوبتاً، لأنّ الوجوب الواحد ثبوتاً وفي عالم الجعل لا يقبل التبعيض، بأن يثبت في الاقل دون الاكثر مع كونه متعلقاً بالجميع، فالتبعيض في الوجوبات الضمنية ثوبتاً وواقعاً غير معقول، ولكن التبعيض في عالم الامتثال معقول، وفي عالم التنجز معقول، أما في عالم الامتثال: فلأن المفروض هو صحيحة «لا تعاد الصلاة الا من خمسة» فإن المكلف لو اخل بغير الخمسة عن عذر فإنه صلاته صحيحة، وهذا يعني ان الوجوبات الضمنية المتعلقة بالاجزاء قابلة للتبعيض في مقام الامتثال وان لم تكن قابلة للتبعيض في مرحلة الجعل لأنّها واجب واحد ارتباطي.

وكما أنها قابلة للتبعيض في مقام الامتثال فهي قابلة للتبعيض في مرحلة التنجز، بلحاظ العلم والجهل، فيقال: بأن وجوب تسعة منها معلوم ووجوب العاشر مجهول فالوجوب الواقعي متنجز من جهة التسعة وليس متنجزا من جهة الوجوب العاشر، اذن فالتبعيض في مقام التنجز أمرٌ معقول.

الأمر الثاني: بما أنّ المدار والمهم عقلا هو المنجزية وعدمها وليس المهم بنظر العقل أنّ هذه الوجوبات متبعضة ثوبتاً أم متحدة ثبوتاً، بل المهم بنظر العقل مقام التنجز لان هذه المقام هو موطن الاثر بالنسبة الى العقل. لذلك بما ان المهم بنظر العقل هو مقام التنجز، أي مقام الادانة ومقام استحقاق العقوبة لذلك العقل يقول: إذا كانت هذه الاجزاء قابلة للتبعيض في التنجز وبحسب الادانة واستحقاق العقوبة فهو كاف وان لم تقبل التبعيض ثوبتا وجعلاً، فإن المهم لدي هو أنني لا استحق العقوبة على مخالفة الاكثر، سواء كان في الواقع هذه الوجوبات قابلة للتبعيض أم لا.

الأمر الثالث: يصح أن نقول بأن الوجوب الواقعي الذي يتفرع عليه وجوب الاقل، هذا الوجوب الواقعي متنجز سواء كان الواجب هو الاقل أو كان الواجب اهو الاكثر، غاية ما في الباب ان هذا الوجوب الواقعي المعلوم بالاجمال منجز في الاكثر ضمن الاقل، لا انه منجز في الاكثر ضمن الاكثر لعدم العلم بالاكثر، فهو منجز في الاكثر ضمن الاقل، فيقال: هذا الوجوب الواقعي ان كان متعلقا بالاقل فقد تنجز به حيث ان الاقل معلوم، وان كان متعلقا بالاكثر فقد نجزه ايضاً، لكن نجزه ضمن الاقل، بمعنى ان ترك الاكثر بترك الاقل مستلزم للعقوبة، فالمكلف يعلم بأنه إن ترك الاقل فكان هو الواجب استحق العقوبة، وان ترك الاكثر بترك الاقل وكان هو الواجب استحق العقوبة. إذن بالنتيجة: الاكثر تنجز لكن لا في ضمن الجزء العاشر بل في ضمن الاجزاء التسعة وهذا ما يعبر عنه ب «التبعيض في التنجيز».

إذن بالنتيجة: بناءً على فكرة التبعيض في التنجيز لا يرد اشكال صاحب الكفاية، لان صاحب الكفاية افاد: ان تنجز الاقل فإن تنجز الاقل فرع تنجز الوجوب الواقعي على كل حال، فلا يمكن ان يتنجز الاقل على كل حال حتى يتنجز الوجوب الواقعي على كل حال، والا لو لزم من تنجز الاقل عدم تنجز الاكثر لكان ذلك خلف.

الجواب: تنجز الاقل على كل حال فرع تنجز الوجوب الواقعي على كل حال كما قال في الكفاية، الا ان تنجز الوجوب الواقعي على كل حال ليس متوقفا على تنجز الجزء العاشر، بل تنجز الوجوب الواقعي على كل حال يعني سواء كان الوجوب الواقعي متعلقا بالاقل فقد تنجز، وسواءً كان متعلقا بالأكثر فقد تنجز لكن لا ضمن الوجوب العاشر بل ضمن الاجزاء التسعة. فالوجوب الواقعي متنجز على كل حال فلا خلف، ولا يلزم من وجود الشيء عدمه.

الصياغة الثانية: بحسب تعبير السيد الشهيد «التوسط في التنجيز».

وبيان هذه الصياغة بتقريب منّا:

أنّ صاحب الكفاية «قده» قال بجريان البراءة الشرعية في متن الكافية، أي انه إذا دار الامر بين الاقل والاكثر في الاجزاء جرت البراءة عن وجوب الجزء المشكوك، براءة شرعية، وبناءً على ذلك نقول:

نحن ليس لدينا علم اجمالي لا بكون الوجوب الواقعي فعليا ولا بكون الوجوب الواقعي انشائياً، كما ردد صاحب الكفاية، _إذ سبق ان عرضنا امس مصطلحه في الفعلية_ فقلنا أن صاحب الكفاية يقول: إما أن تحرزوا أن الوجوب الواقعي فعلي فالحكم العقلي هو الاحتياط، واما انه تحرز ان الوجوب الواقعي انشائي فتجري البراءتان بلا كلام.

نقول: لا هذا ولا هذا، لاننا لا نحرز واجدنا هل الوجوب الواقعي فعلي أم انشائي، أما ظاهر الخطاب انه فعلي، إذ ظاهر الفعلية بمصطلح الكفاية: ما انقدحت عليه الإرادة اللزومية للمولى وليس معنى الفعلية بفعلية الموضوع، لان الفعلية بفعلية الموضوع لا تؤخذ من الخطاب وانما تعتمد على تشخيص الخارج، بينما الفعلية بمعنى انقداح الارادة اللزومية على طبق ما تعلق به الحكم تؤخذ من ظاهر الخطاب إذ ليس لنا وسيلة اخرى لإحراز هذه الفعلية غير ذلك، نقول: ظاهر الخطاب وهو قوله «اقم الصلاة» ان الخطاب فعلي ان الوجوب فعلي، بمعنى ان الارادة اللزومية منقدحة على طبقه، فإذا كان ظاهر الخطاب هو الفعلية، فكيف تأتي البراءة الشرعية، مع أن الفعلي ما انقدحت الارادة على طبقه، وما انقدحت الارادة اللزومية على طبقه لا يمكن ان يرخص فيه المولى، لأن ترخيصه نقض لغرضه اللزومي، فلا محالة كيف يجتمع أن تكون الارادةاللزومية واقعا منقدحا على الاكثر ومع ذلك يرخص في ترك الاكثر. لا يجتمعان.

صاحب الكفاية يجيب: دليل البراءة الشرعية حاكم على ظاهر الخطاب، فإن ظاهر الخطاب، فإن ظاهر الخطاب ان الوجوب الواقعي فعلي، جاء دليل البراءة الشرعية وهو ظهور ايضاً، فمقتضى ظهور دليل البراءة الشرعية الحكومة على ظهور الخطاب. فيقول: دليل البراءة الشرعية: المشكوك من هذا الخطاب لا فعلية له والمعلوم منه فعلي. فيتصرف دليل البراءة الشرعية في الخطاب الواقعي، فيستثني منه ما كان مجهولا ومشكوكا.

وبناء عليه، يقال: بأنه اما ان فكرة التوسط في التكليف غير معقولة أو معقولة، إذا كان التوسط في التنجيز امر غير معقول، بأن قلتم: الوجوبات الضمنية لا تتبعض، كما أنّها لا تتبعض ثبوتاً وجعلاً لا تتبعض تنجزاً، أو لا تتبعض فعليةً بحسب مصطلحه في الفعلية، فإذا كانت لا تتبعض فعلية ولا تنجزاً إذن لا تجري البراءة العقلية ولا الشرعية عن الاكثر، لأنّ معنى جريان البراءة الشرعية على الوجوب العاشر المشكوك هو التبعض في التنجيز أو التوسط في التنجيز، والحال بأنه غير معقول.

وإذا كان التوسط في التنجيز معقولاً، أن نقول: ان الوجوب الواقعي لو كان متعلقا بالاكثر واقعاً فهو متنجز للاكثر ايضاً لكن لا ضمن الجزء المشكوك بل ضمن الاجزاء المعلومة، إذا هذه الفكرة معقولة فتجري البراءتان، إذا هذه الفكرة غير معقولة فلا تجري البراءتان.

فالنتيجة: انه يرد على كلام صاحب الكفاية: بناء على التبعيض في التنجيز بتعبير «المنتقى» أو التوسط في التنجيز بتعبير «السيد الصدر» بناء على هذ الفكرة تجري البراءتان: الشرعية والعقلية عن الاكثر، والتفكيك بينهما في الجريان غير فني. الجواب الثاني ما ذكره المحقق الاصفهاني وقد التزم بالانحلال الحقيقي كما التزم به المحقق العراقي. _أيضاً ولم يخالف بذلك الا المحقق النائيني والا العلمان التزما بالانحلال الحقيقي كما قربناه فيما مضى. وقد تعرض لكلامه صاحب المنتقى «قده» في «ج5 فما بعده، ص302» _.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقق الاصفهاني «قده»، وبيان كلامه بمقدمات ثلاثة:

المقدمة الاولى: ان الوجوب المتعلق بالمركب وجوب واحد منبعث عن ارادة واحدة منبعثة عن غرض واحد، فالغرض اللزومي الواحد بعث أو قدح ارادة لزومية واحدة اسست لجعل وجوب نفسي واحد، وان كان المتعلق كثيراً بما هو كثير.

المقدمة الثانية: قال ان السنخ لا يختلف بأن يكون متعلق بالاكثر، هو سنخ واحد، أي لو كان الوجوب واقعاً منبسط على الاكثر، فالمقدار المنبسط منه على الاقل نفس السنخ، ولو كان واقعاً متعلقاً بالأقل فالسنخ هو السنخ، فليس هناك سنخان من الوجوب، بأن نقول: ان كان متعلقا بالأكثر فوجوب الاقل وجوب غيري مثلاً، أو فوجوب الاقل وجوب تبعيضي مثلا، هو هو، سواء كان هذا الوجوب الواحد منبسط على العشرة أو منبسطا على التسعة، على اية حال المقدار المنبسط منه على التسعة سنخه نفس السنخ المنبسط على العشرة وليس شيئاً آخر لا حقيقة ولا وجوداً، السنخ هو السنخ، غاية ما في الباب، انبسط الماء على العاشر أو لم ينبسط عليه، فاذا افترضنا ان الضوء سلطناه على عشرة كراسي، فهذا الضوء إذا تسلط على عشرة كراسي أو تسلط على تسعة لا فرق في التسلط في السنخ. فهو متسلط على التسعة بنفس السنخ، تسلط على العاشر أم لم يتسلط.

المقدمة الثالثة: حيث علمنا بنفس الوجوب، وعلمنا بانبساطه على التسعة وشككنا في انبساطه على العاشر، فحينئذٍ نعلم بانبساطه تفصيلا على التسعة ونشك بدواً في انبساطه على العاشر فهو مجرى للبراءة العقلية. والسر في ذلك: ما دام هذا الوجوب المنبسط على التسعة ذا ثواب واذ عقاب، فأيٌّ أثر نحتاجه بعد ذلك؟ إذا كان الوجوب المنبسط الذي علم انبساطه على التسعة كافياً في ترتب الثواب على طاعته، وكافياً في استحقاق العقاب على مخالفته، لأنه وجوب نفسي، والوجوب النفسي هو المثوبة والعقوبة فلا محالة حينئذٍ، حصل انحلال حقيقي بلحاظ ذات الوجوب وأثره جريان البراءة العقلية عن الأكثر.

وهذا الكلام منه _كما ذكرنا سابقاً_ يبتني على ان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل الوجودي والعدمي. سواء كان من السلب أو الايجاب أو من الملكة والعدم، ولا يتم بناءً تقابل الضدين.

كما ان الانحلال في مرحلة الجعل يتم على هذا المبنى من التقابل، واما الانحلال في مرحلة الفعلية فهو تام على جميع المباني كما ذكرنا سابقا. كما انه يتم _الانحلال الحقيقي_ بناء على ان حقيقة الواجب الارتباطي هو حقيقة الوجوب، أو بناء على ان الواجب الارتباطي هو تقيد كل جزء ببقية الاجزاء، واما بناء على ان حقيقة الواجب الارتباطي هو الاشتراك في روح الحكم ودعوى أنه لا يمكن تعلق الصفات النفسية بالكثير بما هو كثير الا بتوسط عنوان، فحيث يدور الامر بين العناوين لا يتصور انحلال في مرحلة الجعل، لكن يتصور انحلال في مرحلة الفعلية، الا إذا قلنا بأن العناوين مشيرية محضة لا عقلة للوجوب بها. هذا هو تعليقنا على كلام الاصفهاني.

لكن سيد المنتقى «قده» قال: كلام الاصفهاني مبني على ان الوجوب الضمني له داعوية مستقلة لان الاصفهاني يدعي ان وجوب الاقل متنجز على كل حال سواء كان استقلاليا أو ضمنيا، فبالنتيجة هو يدعي ان وجوب الاقل محط الثواب والعقاب على كل حال، _يعني وان كان وجوبا ضمنيا_ وهذا معناه ان الوجوب الضمني له اطاعة مستقلة، وإلا كيف نعلم ان الوجوب المتعلق بالاقل ذو ثواب وعقاب على كل حالٍ، ما لم ندعي أن الوجوب الضمني له داعوية مستقلة بحيث يكون محطّاً للثواب والعقاب، والا إذا لم ندعي ذلك ونحن لا ندري ان الوجوب المتعلق بالأقل هل هو استقلالي أو ضمني، فلا تتم الدعوى بأن هناك انحلال حقيقي، اذن الانحلال الحقيقي بعلم تفصيلي بوجوب للأقل ولذلك الوجوب محطاً للثواب والعقاب على كل حال يبتني على ان الوجوب الضمني له داعوية مستقلة وهذا لا يمكن القول به بل هو خلاف كلام المحقق الاصفهاني في التعبد والتوصل.

هل الكلام كذلك أم لا؟ يأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.