الدرس 93

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنّ إشكال صاحب الكفاية «قده» أجيب عنه بوجوه، وذكرنا وجهين:

الوجه الثاني: كان جواب المحقق الاصفهاني «قده». وملخّص الكلام فيه:

إذا كان منظور المحقق الاصفهاني إلى ما فهمه سيد المنتقى «قده» من ان الكلام مبني على الوجوب الضمني على للأقل، فهناك وجوبات ضمنية بعدد الاجزاء فلا ندري أن هذه الوجوبات تسعة أم عشرة؟! فلا محالة على هذا المبنى بهذا الفهم سوف يكون الانحلال حقيقياً، لأنه إذا دار العدد بين تعسة وجوبات وعشرة وجوبات ولكل وجوب داعوية ومحركية فهو كسائر الاعداد التي تدور القلة والكثرة، فهناك علم تفصيلي بتسعة وجوبات وشك بدوي في وجوب العاشر فهو مجرى للبراءة، فالانحلال حقيقي بلحاظ عالم الوجوب فضلا عن عالم العهدة. وأمّا على ما هو الفهم الصحيح لعبارة المحقق الاصفهاني من ان نظره إلى الوجود الشخصي الواحد الذي شككنا في مقدار متعلقه، فهل ان متعلقه الاقل أو ان متعلقه الأكثر، فلا يتصور انحلال حقيقي إلا على ما قلناه سابقاً من ان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والوجوب، حيث أن ذلك الوجوب الشخصي الواحد الذي تعلق لا ندري هل تعلق بالأقل لا بشرط أم تعلق بالأقل بشرط لا؟ فإذا قلنا بأن التقابل بينهما تقابل الوجود والعدم، واما إذا قلنا بأن التقابل بينهما تقابل الضدين كان الانحلال حكميا.

الوجه الثالث: من الاجوبة على كلام صاحب الكفاية، ما ذكره سيدنا «قده» في «مصباح الاصول، ج47، ص500» ومحصّله يبتني على مقدمتين:

المقدمة الاولى: إنّ صاحب الكفاية بنى الانحلال على التنجز، فقال: انما ينحل العلم الاجمالي بوجوب الاقل أو الاكثر إلى علم تفصيلي بوجوب الاقل وشك بدوي في وجوب الاكثر _إنما يحصل هذا الانحلال_ إذا قلنا بتنجز الوجوب الواقعي على كل حال، فبنى الانحلال على التنجز، وحيث ان الوجوب الواقعي ليس متنجزا على كل حال اذن فلا انحلال.

فأفاد في رد ذلك: بأنه لا يعقل اصلا توقف الانحلال على التنجز لأنهما ضدان فكيف يعقل توقف احدهما على الاخر، فما ذكره صاحب الكفاية من ان انحلال العلم الاجمالي بعلم تفصيلي بوجوب الاقل وشك بدوي في وجوب الاكثر معلول لتنجز الوجوب الواقعي على كل حال، نفس هذا التفرع غير معقول، فما بنى عليه اشكاله من النكتة نكتة غير معقولة، لذلك اشكاله ينتهي من اصله.

المقدمة الثانية: بعد الفراغ عن ان الانحلال لا يبتني على التنجز لأنه امر غير معقول، فنقول: بما ان الوجوب المعلوم هو وجوب الاقل لكننا لا ندري هل وجب الاقل لا بشرط أو بشرط شيء، فلا بشرط حيث انه مساوق للترخيص والسعة واطلاق العنان لم يكن ذا كلفة حتى ينفى بالبراءة، واما التقييد فحيث انه ثقل كان منفيا بالبراءة فانحل العلم الاجمالي حكماً، لجريان الاصل في احد طرفيه بلا معارض.

ولكن ما أفاده في المقدمة الأولى غير تام، والسر في ذلك:

أنّ صاحب الكافية لم يبن الانحلال على التنجز، _هذه هي النكتة_ بل بنى التنجز على التنجز، لا أنه بنى الانحلال على التنجز، الانحلال اثر على ذلك لا انه هو المتفرع، فإن صاحب الكفاية يقول: انما يتنجز الاقل على كل حال إذا كان الوجوب الواقعي متنجزا على كل حال، فبنى التنجز على التنجز، قال: بما ان وجوب الاقل متفرع عن الوجوب الواقعي باحتمال ان الوجوب الواقعي هو نفس الاقل واحتمال ان الوجوب الواقعي هو الاكثر، على اية حال وجوب الاقل متفرع على الوجوب الواقعي. فبما ان وجوب الاقل متفرع على الوجوب الواقعي، اذن لا يمكن تنجز الاقل على كل تقدير الا إذا كان الوجوب الواقعي متنجز على كل تقدير لأنه متفرع عنه، فلو لزم من تنجز الاقل على كل حال عدم تنجز الاكثر للزم من وجوده عدمه، فبنى التنجز على التنجز، وليس من بناء احد الضدين على الآخر حتى يكون غير معقول، نعم، لازم تنجز الاقل على كل تقدير هو الانحلال، هذا اثر لا ان صاحب الكفاية يدعي ان الانحلال موقوف على التنجز كي يقال بأن هذا من بناء احد الضدين على الآخر. فلابد ان يجاب على نكتة صاحب الكفاية، وهي: انه إذا كان التنجز للأقل على كل تقدير مستلزما لعدم تنجز الاكثر لزم من وجوده عدمه، لابد ان يجاب على هذه النكتة، لا أنه يقال ما ذكرته من توقف الانحلال على التنجز غير معقول.

الجواب الرابع: ما اجاب به شيخنا الاستاذ «قده». ومحصّل كلامه: أن ما افاده في الكفاية نسلم به بناء على ان وجوب الاجزاء وجوب غيري، ولا نسلم به بناء على ان وجوب الاجزاء وجوب ضمني، فهنا دعويان:

الدعوى الاولى: لو بنينا على ان الاجزاء واجبة بالوجوب الغيري جاء اشكال صاحب الكفاية، لأن المفروض ان الواجب الغيري لا منجزية له، وانما منجزيته لتنجز الوجوب النفسي وهو وجوب ذي المقدمة، لأجل ذلك يقال: ان كان الواجب واقعا هو الاقل كان منتجزاً، إن كان الواجب واقعا هو الاكثر فالأكثر ذو المقدمة والاقل المقدمة، فلا يعقل تنجز الأقل دون تنجز الاكثر. لأجل ذلك لا معنى لأن يقال بأن الاقل متنجز على كل حال، إذ على احد الفرضين هو واجب غيري، والواجب الغيري لا يتنجز ما لم يتنجز الواجب النفسي، وعلى أحد الفرضين الواجب النفسي هو الاكثر وهو المفروض غير متنجز. فبناء على ان الاقل واجب غيري يرد اشكاله بأن يقال: ان تنجز الاقل على كل حال فرع تنجز الوجوب الواقعي على كل حال فلو لزم من تنجز الاقل عدم تنجز الوجوب الواقعي لو كان متعلقا بالأكثر لزم من وجوده عدمه. فحينئذٍ يتم اشكاله بناء على هذه النكتة، ولذلك يقول الاستاذ: ولذلك قلنا في محله بأنه إذا دار العلم الاجمالي بين واجب نفسي أو غيري لم ينحل، مثلاً: إذا علم انه نذر، اما الوضوء أو الصلاة مع الوضوء، اما الزيارة أو الصلاة مع الزيارة مثلا بحيث بتكون الزيارة واجبا غيرياً، فإما أن المنذور الوضوء على نحو الوجوب النفسي أو أن المنذور الصلاة مع الوضوء فيكون الوضوء واجباً غيرياً، فهل يصح الانحلال بأن يقال: نعلم بوجوب الوضوء على كل حال اما نفسيا أو غيريا ونشك في وجوب الصلاة فنجري البراءة عن الصلاة؟! قال: لا يمكن أن يقال بذلك؛ بلحاظ أنّ الواجب الغيري ليس محطاً للاطاعة، وليس محطاً للعصيان، وليس محطاً للتنجز، والذي يكون متنجزاً على كل حال إذا علم به تفصيلا هو ما كان محطاً للتنجز، قيل بوجوبه النفسي أو قيل بوجوبه الغيري وليس كذلك. إذن لو كان منظور صاحب الكفاية ان الأقل واجب غيري لكان اشكاله وارداً. أما يظهر من صاحب الكفاية انه ناظر للجواب الثاني للشيخ الاعظم، والجواب الثاني كان للشيخ الاعظم مبني على الدوران بين الاستقلالي والضمني. ولأجل ذلك لا معنى لورود الاشكال، والسر في ذلك: قد يقال بأنه إذا كان الواجب الواقعي هو الاقل فالأقل متنجز الآن، أما إذا كان الواجب الواقعي هو الاكثر اذن الاقل واجب ضمني، والواجب الضمني تبع للاستقلال حدوثا وسقوطاً، جعلاً وفعلية، فإذا كان الوجوب الضمني عين الوجوب الاستقلالي مع اختلاف اللحاظ، فهذا لحاظ للجزء وذاك لحاظ للكل، كان تعبا له في الحدوث والسقوط، فكيف يتصور أن يكون الاقل متنجزاً على كل حال، يعني ولو كان واجبا ضمنياً، مع انه لو كان واجبا ضمنيا لكان تابعا للوجوب الاستقلالي ولا يمكن التفكيك بينهما سقوطاً كما لا يمكن التفكيك بينهما ثبوتاً. فإن كان هذا منظور صاحب الكفاية؟ فيلاحظ عليه: بأن التبعية إنما هي في الواقع لا في الظاهر في الجعل لا في التنجز، إذ نحن لا ندعي انفكاك الواجب الضمني عن الوجب الاستقلالي جعلا أو فعليةً ولا ندعي انفكاكه عنه واقعا انما المدعى كل المدعى انفكاكه عنه ظاهراً، وفي مرحلة التنجز، لا في مرحلة الثبوت الواقعي، إذن فحيث لا موجب لتبعية الوجوب الضمني للوجوب الاستقلالي ظاهرا وفي مرحلة التنجز، صح ان يقال بالانحلال الحكمي، وهو انه: علمنا تفصيلا بوجوب الاقل استقلالا أو ضمنا، أي علمنا ان ترك الأقل ترك للواجب على كل حال، فتركه مخالفة قطعية حتماً فلا تجري فيه البراءة، فتجري البراءة في الاكثر المشكوك بلا مانع.

ويلاحظ عليه «قده»: ان ما افاده في الدعوى الثانية تام، أما ما أفاده في الدعوى فقد سبق المناقشة فيه، حيث ذكرنا عند التعرض للوجه الاول من وجهي كلام الشيخ الاعظم انه حتى لو دار أمر الاقل بين الواجب النفسي والغيري فهناك علم تفصيلي، علم تفصيلي بأن في ترك الاقل استحقاقا للعقوبة اما لأنه هو الواجب أو لأن تركه مستلزم لترك الواجب ففي تركه استحقاقا للعقوبة على كل حال، وقبح العقاب بلا بيان منتف جريانه في ظرف يعلم بترتب العقوبة فيه على كل حال، فتجري البراءة العقلية عن الاكثر فلا فرق بين الدعويين في النتيجة.

الجواب الخامس: ما ذكره السيد الاستاذ «دام ظله» على مبناه في منجزية العلم الاجمالي من ان العلم الاجمالي انكشاف للجامع عقلاً لا للواقع، فمنجزيته العقلية انما هي منجزية لحرمة المخالفة القطعية، حيث ان في المخالفة القطعية تفويتاً للجامع. واما منجزيته لوجوب الموافقة القطعية فهي ببناء عقلائي وهي ان العقلاء يرون ان احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل طرف من اطراف منجز، فإذا بنى العقلاء على احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل طرف من اطرافه منجز، فإذا جرى بناء العقلاء على منجزية احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل طرف كان هذا البناء العقلائي صارفاً لأدلة الأصول العلمية لاحتفافه به. ولكن، لا نحرز بناء العقلاء على منجزية هذا الاحتمال مع وجود علم تفصيلي بوجوب الاقل، فإذا دار الواجب بين الاقل والاكثر فهذا علم اجمالي، اما مع العلم التفصيلي بوجوب الاقل على كل حال استقلال أو ضمناً، لا نحرز أن احتمال انطباق الواجب الواقعي على الاكثر احتمال منجز عندهم كي يكون رافعاً للبراءة مانعاً من جريان البراءة الشرعية. نعم، على مبنى المشهور من أن العلم الاجمالي منجز عقلاً لوجوب الموافقة القطعية كمنجزية عقلاً لحرمة الموافقة فالأمر دائر بين متباينين، وجوب الاقل استقلالا أو وجوب الاكثر استقلالاً فيكون منجزاً حينئذٍ. ولكن نقول: حتى على مبنى المشهور قد صورنا الانحلال الحقيقي في مرحلة الجعل، فضلا عن الانحلال الحقيقي في مرحلة الفعلية، وعلى فرض عدم قبول الانحلال الحقيقي فهناك انحلال حكمي بلحاظ البراءة العقلية وهو ما عبرّنا عنه وعبّر الأعلام عنه ب «التوسط بالتنجيز».

وقف البحث على جواب المحقق العراقي لأنه مفصّل عن كلام صاحب الكفاية «قده» نتكلم فيه بعد العطلة.

والحمد لله رب العالمين.