الدرس 94

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في الجواب عن ايراد صاحب الكفاية «قده» على مدعى انحلال العلم الاجمالي عند دورانه بين الاقل والاكثر. وذكرنا ان الجواب الأخير عن اشكاله هو جواب المحقق العراقي «قده» وحيث إن كلام العراقي «قده» قد أجاب عنه عن عدة ايرادات اورد بها على القول بالانحلال، لذلك تعين التعرض لتمام كلامه وان كان مفصلا في «ص377 - 388، ج3، نهاية الافكار».

فقد افاد «قده» عدة مقدمات:

المقدمة الاولى: ان الارتباطية في التركب إنما ينشأ من وحدة الوجوب الناشئة عن وحدة الغرض، فإذا كان لهذه الافعال الكثيرة كالركوع والسجود والتشهد والتسبيح غرض واحد، وملاك واحد، تفرع عن الغرض الواحد وجوب واحد، فاذا تعلق الوجوب الواحد بهذه الافعال الكثيرة بما هي كثيرة اتصفت بكونها مركبا واتصفت بكونها واجبا ارتباطياً، فالارتباطية والتركب نشأ عن وحدة الوجوب الناشئ عن وحدة الغرض، لا ان منشأ الارتباطية هو ان متعلق الوجوب ذو هيئة ام ليس ذا هيئة فان هذا لا دخل له في الارتباطية، فقد يكون متعلق الوجوب ذا هيئة ومع ذلك لا يكون واجبا ارتباطيا، وقد لا يكون ذا هيئة ومع ذلك يكون واجبا ارتباطيا، فمثلا: اذا افطر في شهر رمضان متعمدا وجبت عليه الكفارة وهي اطعام ستين مسكينا، فانه وان كان اطعام ستين مسكينا ليس له هيئة جامعة الا انه مع ذلك واجب ارتباطي، لان الوجوب المتعلق بهذه الاطعامات وجوب واحد، ومثلاً: يجب صوم شهر رمضان لكن هذا الوجوب ليس ارتباطيا بل لكل يوم وجوب واطاعة وعصيان وان كان الشهر ذا هيئة زمنية فليس المدار في اتصاف الوجوب بكونه ارتباطيا ام لا ان المدخول ذو هيئة ام لا؟ بل المناط على ان الوجوب واحد ام متعدد.

فاذا كان الوجوب واحدا كان الواجب ارتباطيا واذا كان الوجوب متعددا أي لكل فرد امر واطاعة فهو واجب استقلالي وان كان ذا هيئة كما افترضنا ان يتعلق الوجوب بصوم شهر رمضان.

ثم افاد: وهذا هو الفرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي، فان الفرق بين العمومين هو في الوجوب، فان كان الوجوب المتعلق بالعام واحداً كان عموما مجموعيا، وان كان الوجوب المتعلق بالعام متعددا كان استغراقيا، فاذا قال: يجب على الولد الاحسان لوالديه، والمفروض ان لكل احسان وجوباً، اذن العموم استغراقي، اما اذا قال بانه: وكان على نحو الوجوب الواحد: يجب صوم ستين يوما كفارة للافطار، كان العموم مجموعيا، لا ان الفرق في المدخول كما في بعض عبارات الاصوليين حيث قالوا: ان كان المدخول كل، بان قال: صوم كل يوم، فالعموم استغراقي. وان كان المدخول الهيئة بان قال: يجب صوم الستين، كان عموما مجموعيا، لكن المحقق العراقي يقول: لا عبرة بالمدخول وانما المدار على نفس الوجوب هل هو واحد ام متعدد.

المقدمة الثانية: بما أن المناط في الارتباطية على وحدة الوجوب، إذن اتصاف الواجب بالكلية والجزئية في رتبة متأخرة، فاذا تعلق الوجوب الواحد بهذه الاجزاء الكثيرة اتصفت الاجزاء الكثيرة بكونها كلاً، واتصف كل واحدا منها بكونه جزءا، فالاتصاف بالكلية والجزئية اتصاف انتزاعي منتزع عن تعلق الوجوب الواحد بالاجزاء المتكثرة. فبما ان الكلية والجزئية متأخر رتبة عن تعلق الوجوب الواحد بالكثير فلا يعلق اخذه في متعلق الوجوب، بان يتعلق الوجوب بالكل، لأن الكلية وصف متأخر عن تعلق الوجوب بالاجزاء فكيف تأخذ الكلية في متعلق الوجوب اذ لازمه اخذ ما هو متأخر رتبة فيما هو متقدم وهو غير معقول، لذا اقحام الوجوب الغيري في محل بحثنا في غير محله، حيث إن البعض القائل بعدم الانحلال ركز على الوجوب الغيري، قال: اذا دار امر الواجب بين الاقل والاكثر فقد دار أمر الاقل بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري، فإنه ان كان الواجب في الواقع هو الاكثر كان الاقل هو الواجب الغيري، إن كان الواجب في الواقع هو الاقل كان الاقل واجبا نفسياً، فإذا دار امر الوجوب بين النفسي والغيري فقد دار بين متباينين فيكيف يعقل الانحلال، ومن انكر الانحلال قال: بالنتيجة نحن نعلم بوجوب الاقل على كل حال، أي بكون ترك الاقل مستحقا للعقوبة سواء كان واجبا نفسيا ام غيرياً، فالمحقق العراقي في قبال ذلك يقول: اقحام الوجوب الغيري غلط لان اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري فرع اتصافها بالمقدمية، واتصاف الاجزاء بالمقدمية فرع اتصاف الجميع بالكلية حتى يكون الجزء مقدمة للكل، واتصاف الجميع بالكلية وصف متأخر عن تعلق الوجوب لا أنه وصف اخذ في متعلق الوجوب، فاذا لم يؤخذ في متعلق الوجوب، اذن الواجب في رتبة سابقة لم يتصف لا بالكلية ولا بالجزئية، لا بالتركب ولا بالمقدمية كي يتصف بالوجوب النفسي والوجوب الغيري. فهذا الاقل الذي تتردد فيه، نفسي غيري، هذا لا معنى ان يقال مردد في مرحلة الجعل بين كونه واجبا نفسيا او غيرياً، فإنه في مرحلة الجعل لم يتصف بكلية ولا بجزئية ولا بتركب ولا بمقدمية كي يصح البحث في ان هذا في متعلق الجعل هل هو نفسي ام غيري؟ فاقحام الواجب الغيري في محل البحث غلط لا معنى لاقحام هذا المطلب في محل الكلام.

فإن قلت: بان المفروض ان مقتضى الطبع ان يلحظ المقنن أولاً ما هو المؤثر في الملاك، ثم يلحظ ثانياً ما هو معروض الوجوب والامر، فإذا لاحظ المقنن اولاً ما هو المؤثر في الملاك، وجد ان الملاك واحد لان المصلحة القائمة بالأجزاء واحدة، فإذا كانت المصلحة واحدة كان المحلوظ اولاً واحد أي ان المقنن لاحظ الاجزاء في ملحوظ واحد وهو عنوان المؤثر في المصلحة، المؤثر في الملاك، فلما لاحظ الاجزاء من جهة انها مؤثر في المصلحة مؤثر في الملاك كان المحلوظ واحداً، فهذه الوحدة في الملحوظ الناشئة عن المصلحة والملاك، هي المتعلق للوجوب، فصار المتعلق للوجوب متصفاً في رتبة سابقة بالوحدة والكلية وما اشبه ذلك.

قلت: هذا بمعنى تصور المؤثر في الملاك واحداً وان كان امرا ممكنا او انه مقتضى الطبع كما تقولون، ولكن نحن نسأل: أين معروض الوجوب؟

هل معروض الوجوب الأجزاء المؤثرة في المصلحة بما هي واحدة او بما هي هي لا بما هي واحدة، والمفروض ان معروض الوجوب عين ما هو المؤثر في المصلحة لان الوجوب ضل للملاك، فنرجع الى ما هو المؤثر في المصلحة، هل المؤثر في المصلحة، هل المؤثر في المصلحة الركوع والسجود والتشهد والتسليم بما هي واحد او بما هي هي؟ من الواضح ان المؤثر في الملاك الاجزاء الكثير بما هي لا بما واحد، فإذا لم تكن الوحدة دخيلة في المؤثر في الملاك لم يكن معروض الوجوب متصفاً بالوحدة في ظرف كونه معروضا للوجوب.

المقدمة الثالثة: قد يقال بان المؤثرية لكل جزء في الملاك مؤثرية ضمنية، اذ من الواضح ان كل جزء ليس مؤثرا في الملاك باستقلاله وانما هو مؤثر ضمنا، فمؤثرية كل جزء في حصول الملاك مؤثرية ضمنية ومقتضى هذه المؤثرية الضمنية عدم اتصاف الجزء بالوجوب الفعلي الا مع انضمام بقية الاجزاء اليه، لان مؤثرية ضمنية، اذن لا يؤثر الوجوب الضمني حتى تجتمع بقية الأجزاء. فبناء على ذلك _هذا مبنى السيد الخوئي الذي سبق وأن حررناه_ فالارتباطية بين الاجزاء هي في رتبة سابقة على الوجوب وهي الملاك في كون الواجب ارتباطيا لا ان الملاك ان الوجوب واحد.

قلت: صحيح أن مؤثرية كل جزء في الملاك ضمنية، إنما معنى الضمنية ان دور كل جزء سد باب العدم من جهته، حيث إن المطلوب من هذه الاجزاء ان ينسد باب العدم للمصلحة بحيث توجد، فكل جزء يسد باب العدم للمصلحة لكن من جهته ولا تعرض له لبقية الاجزاء، فالركوع يسد باب العدم من جهته سواء سدها السجود ام لا، والسجود يسد باب العدم من جهته، سواء سدها التشهد او التسليم او لا. فمعنى المؤثرية الضمنية: ان دور كل جزء منها سد باب العدم من جهته، وبالتالي لو تخلف بعض الاجزاء: فعدم اتصاف هذا الجزء بالوجوب الفعلي لا لقصور فيه ولا لقصور في مؤثريته بل لعدم بقية الاجزاء، لان تأثير كل جزء بمعنى سد باب العدم من جهته، فقد سد باب العدم من جهته بالتمام والكمال، وانما لم يتصف بالوجوب الفعلي لعدم انسداد باب العدم من بقية الجهات لتخلف بعض الاجزاء الاخرى، إذن فالنتيجة: فالانضمام «انضمام بقية الاجزاء» لا لقصور في المقتضي، فإنّ اقتضاء كل جزء للتأثير ليس مشروطا بالانضمام، بل كوجود المانع وهو ان العدم لم ينسد نتيجة تخلف بعض الاجزاء، والا فلا قصور في المقتضي أي لا قصور في تأثير كل جزء من حيثه.

والحمد لله رب العالمين.