الدرس 96

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في المطلب الثاني الذي ذكره المحقق العراقي في هذه المقدمة. ومحصّله:

أنّ الاستقلالية والضمنية وصفان منتزعان من حد الوجوب، وحد الوجوب تابع للغرض لأن الوجوب ضداً للغرض، فلابد من رجوعه إلى الغرض، فإذا رجعنا إلى الغرض والملاك، فتارة: يكون الملاك واحدا وتارة يكون الملاك متعددا. فاذا كان الملاك واحداً بأن كان هناك ملاك واحد يتحقق بعشرة اجزاء، فحينئذٍ تتصف التسعة بالضمنية، فيقال: بأن وحدة الملاك المتحقق بعشرة يقتضي اتصاف التسعة بالضمنية، لكن ما هو المراد بالضمنية، فإن للضمنية صورتين أو مرحلتين، لأن الضمنية: تارة بمعنى التأثير الاقتضائي، وتارة: بمعنى التأثير الفعلي.

فإن لوحظ التأثير الاقتضائي فإن كل جزء من هذه الأجزاء يقتضي سد باب العدم من جهته، وهذا هو معنى التأثير الاقتضائي، وسد باب العدم من جهته لا يشترط فيه انضمام بقية الاجزاء، بل هو من حيث سد باب العدم من جهته مستقل عن بقية الاجزاء، فإن كل جزء يقتضي سد باب نافذة العدم من جهته من غمض النظر عن انضمام البقية ومع عدمها، لذلك حتى لو لم تنضم باقي الاجزاء فإن هذا التأثير الاقتضائي بمعنى سد باب العدم من جهته، وسد باب العدم من جهته لا يشترط فيه انضمام بقية الاجزاء. بل هو من حيث سد باب العدم من جهته مستقل عن بقية الاجزاء، فإن كل جزء يقتضي سد باب نافذة العدم من جهته مع غمض النظر عن انضمام البقية وعدمها. لذلك حتى لو لم تنضم باقي الاجزاء فإن هذا التأثير الاقتضائي بمعنى سد باب العدم من جهته قد تحقق. فكل جزء مستقل عن الآخر في التأثير الاقتضائي أي سد باب العدم.

وأما من جهة التأثير الفعلي: أي إيجاد الملاك بالفعل، لا سد باب العدم من جهته، بل ايجاد الملاك بالفعل. فإن وحدة الملاك لا إشكال انها تقتضي انضمام الاجزاء، إذ لا يمكن لكل جزء أن يوجد الملاك بالفعل من دون انضمام بقية الاجزاء، الا ان اقتضاء الانضمام هل هو على نحو القضية المشروطة؟ أو هو على نحو القضية الحينية؟ فيقول المحقق العراقي: لا دليل على الاشتراط، لأنه كلّ من الامرين وهما الاطلاق والتقييد يحتاج إلى ملاك، فلا يمكن ان يكون شيء مشروطا بشيء من دون ملاك يقتضي الشرطية، ولا يمكن ان يكون شيء مطلقا بلحاظ شيئا آخر من دون ملاك يقتضي الاطلاق، لأجل ذلك نقول: ان وحدة الملاك بمعنى ان هناك غرضا واحداً قائماً بعشرة اجزاء غاية ما يقتضي منع الاطلاق لا انه يقتضي التقييد لأن التقييد يحتاج إلى ملاك يقتضيه، ووحدة الغرض تمنع الاطلاق لا يقال بانها يقتضيه، فيقال بما ان هناك ملاكا واحدا يقتضي عشرة اذن ليس كل جزء مطلقا في تحقيق ذلك الملاك، نعم هو مطلق في التأثير الاقتضائي لكن في التأثير الفعلي ليس مطلقا فإن اطلاقه خلف وحدة الملاك، إذ ما دام الغرض القائم بالعشرة واحد إذن بالنتيجة لا يعقل ان يكون كل جزء مطلقا يعني مستقلا في تحقيق ذلك الغرض الواحد. فغاية ما تفيده وحدة الملاك ان لا إطلاق، ليس لكل جزء اطلاق في ايجاد ذلك الملاك، لا انه مقيد، فإن التقييد يحتاج إلى ملاك زائد يقتضيه ولا يوجد ذلك الملاك الزائد.

لذلك نقول: كل جزء بلحاظ التأثير الاقتضائي مستقل، وكل جزء بلحاظ التأثير الفعلي على نحو القضية الحينية، لا على نحو القضية المشروطة لأن وحدة الملاك لا تقتضي الاشتراك بل غاية ما تقتضي منع الإطلاق. هذا إذا كان الملاك واحدا.

أما إذا كان الملاك متعدداً: بمعنى انه في التسعة ملاك وفي العاشر ملاك آخر، فتعدد الملاك يقتضي الاستقلالية، كما اننا قلنا ان وحدة الملاك تقتضي الضمنية، فإن تعدد الملاك يقتضي الاستقلالية، بمعنى ان التسعة تتصف بالوجوب الاستقلالي، لأن المفروض ان الملاك في العاشر ملاك آخر، لكن ما معنى الاستقلالية؟

فذكر أموراً في هذا السطر:

الأمر الأول: هناك فرق بين اللا بشرطية من حيث الصدق، واللا بشرطية من حيث المانعية، مثلا: إذا قال المشرع لا تصح النافلة بدون قراءة قرآن، لابد ان تقرأ في كل ركعة قرآناً، فالقرآنية على نحو اللا بشرط على نحو اللا بشرط من حيث الصدق، وعلى نحو اللا بشرط من حيث المانعية.

اما على نحو اللا بشرط من حيث الصدق: فإنه يصدق أنك قرأت قرآن بقراءة آية أو بقراءة سورة أو بقراءة سور، فإن عنوان القرآن يصدق على القليل والكثير على حد واحد، هذا معنى اللا بشرطية من حيث الصدق.

وأما اللا بشرطية من حيث المانعية: فاذا افترضنا انه قرأ قراءنا ولكن بعد القرآن قرأ دعاء، أو بعد القرآن حكّ ثوبه، أو بعد القرآن صفق بيده، لا إشكال فإن المطلوب قراءة القرآن على نحو اللا بشرطية من حيث الصدق ومن حيث المانعية، فأي عمل يأتي به ليس بمانع من تحقق المأمور به.

بناء على ذلك: في المقام يوجد لا بشرطية من حيث المانعية، أي أنت مطلوب بتسعة اجزاء اما لو اتيت بالعاشر فهل يمنع من صحة الصلاة أو لا؟ لا يمنع من صحة الصلاة، والا لو كان يمنع من صحة الصلاة لكان من الدوران بين المتباينين لا بين الأقل والاكثر، لو كان الامر يدور بين تسعة بشرط عدم العاشر أو تسعة بشرط العاشر لكان من دوران الامر بين المتباينين، أي بشرط شيء وبشرط لا، ولكن المفروض بشرط لا مفروغة بعدمها في المقام، فإذن بالنتيجة وجب عليك التسعة لا بشرط العاشر، ومعنى لا بشرط العاشر يعني لا بشرط من حيث المانعية، فالإتيان فيه ليس مانعا ولا يوج بطلان الصلاة، اما هل هناك لا بشرطية من حيث الصدق؟ بمعنى انه وجب عليك تسعة مع العاشر أو بدونه بحيث لو أتيت بالعاشر لكان مصداقاً للإتيان بالتسعة، يعني هذا من مصاديق الاتيان بالتسعة انك اتيت بالعاشر، يقول: لا لا يوجد هنا لا بشرطية من حيث الصدق، بل الموجود هنا الإهمال، أي أن التسعة من ناحية العاشر مهملة لا مشروطة ولا لا مشروطة، لا مطلق ولا مقيّد، أي أنها خارجة عن المقسمية للإطلاق والتقييد.

وهذا ما يحتاج إلى البيان: ولذلك نذكر الامر الثاني كبيان: تكرر في السنة الاصوليين أن الإهمال محال فكيف يدعي المحقق العراقي ان التسعة مهملة من حيث العاشر، فما هو المقصود للمحقق العراقي؟ الإهمال تارة يكون في الوجود، وتارة يكون في الجعل، وتارة يكون في مقام النسبة. فالأولان محالان والثاني والثالث ممكن.

اما الاهمال في الوجود، بأن يقال: يوجد زيد في الخارج مهملاً، هذا غير معقول، لأن الوجود مساوق للتشخص، لا يعقل ان يوجد مهملاً، لابد ان يوجد ضمن مشخصات، يعني مقترنا بأعراض معينة من كم وكيف وفعل وانفعال وأين ومتى ونحو ذلك من الاعراض، لا يعقل ان يوجد مهملا من حيث الاعراض المقارنة بل لابد ان يوجد مشخصاً. هذا هو معنى الاهمال في الوجود محال.

والإهمال في الجعل محال، بمعنى انه الاهمال المساوق للتردد، لا يعقل ان يكون الجاعل مترددا لأن التردد خلف الحكم فإن الحكم يقتضي البت، والتردد ضد له، فلا يعقل ان يجتمع الحكم مع التردد، فاذا افترضنا ان الجاعل سواء كان الجاعل مولى حقيقي أو عرفي ما دام ملاكه مشخصا فهو غير متردد في مجعوله، وإذا كان مترددا في ملاكه لم يعقل صدور الجعل منه، فإما الملاك متشخص بنظره فلا تردد واما الملاك متردد فيه فلا يتحقق منه جعل، لذلك قالوا الإهمال في الجعل محال يعني الإهمال المساوق للتردد.

أما القسم الثالث من الإهمال، وهو الإهمال في النسبة: بمعنى ان المولى عندما لاحظ ملاكه رأى ان ملاكه بالنسبة إلى شيء آخر مهمل، يعني لا هو مشروط به ولا هو مطلق بالنسبة اليه، كما إذا افترضنا، استقبال القبلة واستقبال الجدي، بالنسبة إلى العراقي لا يمكن استقبال القبلة حتى يستدبر الجدي، فهناك ملازمة في الخارج بين استقبال القبلة واستدبار الجدي، لكن الملاك وهو ملاك الصلاة قائم باستقبال القبلة ما هي نسبة هذا الملاك لاستدبار الجدي، لا يوجد نسبة، لا هو مقيد به لا هو مطلق بالنسبة اليه، أي ان الملاك بالنسبة إلى استدبار الجدي خارج عن المقسمية لا يقتضيه ولا أنه صادق معه، لأننا نتكلم عن اللا بشرطية من حيث الصدق لا اللا بشرط من حيث المانعية، نعم اللا بشرطية من حيث المانعية موجودة، يعني لا يمنع منه، اما الملاك القائم باستقبال القبلة لا هو مشروط باستدبار الجدي ولا انه صادق باستدبار الجدي، يعني استدبار الجدي ليس من مصاديق محقق الملاك وان كان انضمامه ليس مانعاً، بالنتيجة نسبة استقبال القبلة لاستدبار الجدي لا مطلقة ولا مقيد، لا مقيد وهو واضح، ولا مطلق فإنه لا بشرط من حيث الصدق ليس قائما بينهما إذ ليس من مصاديقه.

فحينئذ يقال: ما هي النسبة بينهما؟ أي ما هي النسبة بين استقبال القبلة واستدبار الجدي؟

قال المحقق العراقي: النسبة بينهما هي الحصة التوأم، ومعنى الحصة التوأم: كلما كان شيئان متلازمين خارجاً لكن ليس متلازمين ملاكاً، فوجود كل منهما توأم مع وجود الآخر لكنه ليس مشروطا به ولا مطلقا بالنسبة اليه بلحاظ ملاكه، فاستقبال القبلة واستدبار الجدي لا هما مشروطان ولا هما مطلقان، يجب عليك استقبال القبلة.

إن قلت ما هي النسبة بينه وبين استدبار الجدي؟ يقول: انا بحسب جعلي التابع لملاكي أقول: لا هو مشروط به وهو مطلق بالنسبة اليه، وان كان بحسب عالم الخارج بينهما التوأمية أي الملازمة فبينهما حصة التوأم بحسب التعبير.

نطبّق هذا على محل الكلام، فنقول: بأنه على فرض أن الملاك قائم بالتسعة لا بالعشرة، إذن التسعة من حيث العشرة لا بشرط بمعنى لا بشرط من حيث المانعية لكنها من حيث العشرة لا بشرط ولا انها لا لا بشرط من حيث الصدق، يعني الملاك القائم بالتسعة لا هو مشروط بالعاشر ولا هو مطلق بالنسبة إلى العاشر، إذن ماهي النسبة بينهما، نسبة التوأمية. بمعنى: أن اتصاف التسعة بالاستقلالية اتصاف حتمي، إذ مادام الوجوب متعلقا بالتسعة فقط لأن الملاك قائم بالتسعة فقط فلا محالة تتصف التسعة بالاستقلالية، الا ان اتصاف التسعة بالاستقلالية على نحو التلازم الوجودي الخارجي كتلازم استقبال القبلة مع استدبار الجدي، فاتصاف الحصة بالاستقلالية بنحو الحصة التوأم، لا من باب الاشتراط ولا من باب الاطلاق بل من باب الحصة التوأم. هذا محصّل كلامه في هذا المطلب الثاني.

المطلب الثالث: قال: بعد أن بينا اتضح لك ان لا تردد لا في حقيقة الوجوب ولا في متعلق الوجوب، فإن حقيقة الوجوب هو وجوب شخصي واحد متعلق بالتسعة على كل تقدير، التسعة واجبة، عندنا تردد في حقيقة الوجوب، ولا تردد في متعلق الوجوب، لأن التسعة معروضة للوجوب على كل حال، ولا تتصف في هذا العالم، _يعني عالم معروضيتها للوجوب_ لا للضمنية ولا للاستقلالية إذ المفروض ان هذين الوصفين منتزعان بعد تعلق الوجوب لا في رتبة سابقة عليه، اذن التردد في حد الوجوب لا في حقيقة الوجوب ولا في متعلق الوجوب، وإنما التردد في حده، هل انبسط على العاشر أم لم ينبسط؟ كالماء الذي انبسط على تمام الكوز أو على بعضه، والا فهو ماء لا تردد فيه، فإذن اتصاف التسعة بالضمنية والاستقلالية بعد تعلق الوجوب لا في رتبة سابقة ولأجله لا تردد لا في حقيقة الوجوب ولا في معروض الوجود.

المطلب الرابع: إذن تبين ان الانحلال حقيقي، بل لا يوجد علم اجمالي، وتسمية العلم في المقام بالعلم الاجمالي مسامحة واضحة، اصلاً ليس فيه علم اجمالي بل علم تفصيلي في عالم الجعل فضلا عن عالم الفعلية والتنجز. يقول: لأن العلم الإجمالي متقوم بمجمع الوجودين والمقام من باب مجمع الحدين فكيف يقاس مجمع الحدين بمجمع الوجوبين. بيان ذلك:

قال ان العلم الاجمالي انما يتصور إذا دار بين متباينين، كالقصر والتمام، والظهر والجمعة، والدوران بين المتباينين ان المعلوم مجمع الوجودين، يعني علمنا بصلاة مرددة بين وجودين قصر أو تمام، فالمعلوم مجمع الوجودين، هنا إذا كان المعلوم مجمع الوجودين صار علم اجمالي بحصول قضية منفصلة حقيقية، فليس الواجب كلاهما ولا ان الواجب شيء منهما. اما في المقام فالمعلوم مجمع الحدين لا الوجودين يعني المعلوم وجود واحد وهو وجوب التسعة، هذا المعلوم، غاية ما في الامر التردد في حده هل انبسط على العاشر أم لم ينبسط؟ فالمعلوم مجمع الحدين لا مجمع الوجودين، ولذلك ليس ترددا بين المتباينين بل بين الاقل والاكثر. فعندنا علم تفصيلي قطعاً نعلم تفصيلا جزما بأن التسعة معروضة لوجوب شخصي لا محالة وشك بدوي في وجوب العاشر.

المطلب الخامس: فترتب على ذلك، بعد حصول علم تفصيلي بوجوب التسعة وانحلال حقيقي في عالم الجعل جريان البراءة العقلية عن الاكثر بلا مانع، لأن حكم العقل بوجوب الاطاعة تابع لمتن الوجوب لا لحد الوجوب، والمفروض ان متن الوجوب معلوم وإن كان حد الوجوب مشكوك، وحكم العقل بوجوب الاطاعة موضوعه نفس الوجوب وليس حد الوجوب، ونفس الوجوب معلوم إذ علمنا بوجوب شخصي متعلق بالتسعة لا ثمان ولا عشر، إذن بعد ان علمنا بتعلق وجوب شخصي بالتسعة لا ثمان ولا عشر حكم العقل بوجوب الاطاعة، واما التردد في وجوب العشرة انبسط على العاشر أم لم ينبسط على العاشر، يقول حد الوجوب حد انتزاعي ليس معروضاً لحكم العقل من جهة فلا ضائرية في التردد في حد الوجوب في حكم العقل بوجوب الاتيان بالتسعة واجراء البراءة.

والحمد لله رب العالمين.