الدرس 97

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن المحقق العراقي «قده» أفاد في «نهاية الافكار، ج3، ص377»: بأنّ المناط في اتصاف الواجب بالارتباطية أو الاستقلالية هو تعدد الغرض أو وحدة الغرض؟ فإن كان الغرض المتعلق بالأفراد الكثيرة غرضاً واحداً انتزع عنوان الضمنية لكل فرد منها، وإن كان الغرض المتعلق بالأفراد الكثيرة متعدداً انتزع عنوان الاستقلالية، أي أن لكل فرد من هذه الافراد وجوباً مستقلاً بلحاظ أن له غرضاً مستقلاً. وترتّب على هذا المبنى الذي اختاره: أن معروض الوجوب واقعا لا يختلف سواء كان الواجب ضمنيا أو كان استقلاليا فإن معروض الوجوب واحد وهو ذات الأجزاء مع غمض النظر عن وصف الضمنية ووصف الاستقلالية. وقد رتّب على كلامه «قده» مناقشة العلمين: النائيني وصاحب الكفاية «قدس سرهما». وتعرض لمطلب المحقق النائيني «قده» في «ص383» فقال بما محصله:

أنه على مبنانا من أن معروض الوجوب هو معروض الغرض، ومعروض الغرض ذات الأجزاء لا الاجزاء بوصف الضمنية أو الاستقلالية، فإن وصف الضمنية أو الاستقلالية عنوان انتزاعي متأخر رتبة عن تعلق الغرض أو تعلق الوجوب. فإذا كان متأخرا رتبة فلا يعقل اخذه في معروض الوجوب أو معروض الغرض في رتبة سابقة، إذن بناء على مبنانا الأجزاء هي الاجزاء كانت واجبة ضمناً أو كانت واجبة استقلالاً، لا يتغير حقيقتها وسنخها بكونها ضمنية أو استقلالية، فاذا دار الامر بين وجوب تسعة أو وجوب عشرة فوجوب التسعة معلوم تفصيلاً.

ولكن لو سلمنا بما يظهر من بعضهم كما هو مبنى السيد الخوئي «قده» من ان متعلق الوجوب في رتبة سابقة اخذ فيه وصف الضمنية، فحينئذ سوف يكون الامر في رتبة سابقة بين كون الواجب التسعة بشرط العاشر أو التسعة لا بشرط، فالبشرطية واللا بشرطية ثابتتان لرتبة سابقة على الوجوب، لأنهما ثابتتان في رتبة الغرض نفسه، أي أنّه بنظر السيد الخوئي «قده» أن الغرض إمّا الدخيل فيه التسعة بشرط أو التسعة لا بشرط، فبالشرطية أو اللا بشرطية لانهما دخيلان في الغرض صارا دخلين في الواجب في رتبة سابقة، فإذا دار الأمر في رتبة سابقة بين كون ذي الغرض أو الواجب تسعة بشرط، أو تسعة لا بشرط، فقد دار الامر بين المتباينين، ولا يوجد انحلال حقيقي.

يقول: لكن الغريب من بعض الاعاظم «النائيني» أنه مع تسليمه بأن اللا بشرطية والبشرطية ملحوظتان في رتبة سابقة مع ذلك ادعى الانحلال، وأجاب عمن ينكر الانحلال «النائيني» بوجهين:

الوجه الاول: قال النائيني «قده» كما في تقريريه: بأن لو كان التقابل بين البشرطية واللا بشرطية تقابل التضاد بأن كانا وجوديين لقلنا بأن الدوران بينهما دوران بين المتباينين فلا انحلال، لأن البشرطية لحاظ، واللا بشرطية لحاظ آخر والتقابل بين اللحاظين تقابل المتباينين.

لكن الصحيح _يقول النائيني_: أن التقابل بين التقييد والاطلاق تقابل الملكة والعدم، فهما وجودي وعدمي لا وجوديان، وبناء على ذلك فلا يوجد تباين حقيقي، وإنما تباين اعتباري، لأن التباين إنما يتصور مع عدم وجود جامع، فاذا لم يوجد بين المتقابلين جامع كان تقابلهما بنحو التباين، نظير البشرطية واللا بشرطية لو كانا لحاظين فإنه لا يوجد جامع بين اللحاظين، واما إذا وجد جامع بينهما إذن فالتباين مجرد اعتبار وليس تباينا اعتباريا، فاذا قلنا بأن البشرطية واللا بشرطية مجرد لحاظ وعدم لحاظ، فالجام بينهما موجود وهو ذات الماهية أي الماهية الملحوظة، فإن هذه الماهية الملحوظة اما ان يلحظ معها القيد فيعبر عنها بشرط شيء، أو لا يلحظ معها القيد فيعبر عنها لا بشرط، فيوجد جامع بينهما وهو الماهية الملحوظة، فمع وجود الجامع لا تقابل بينهما بنحو التباين، بل التقابل اعتباري، وبناء على ذلك: فهذا النوع من التقابل لا يمنع الانحلال. بأن نقول إذا دار الامر بين ماهية لحظ معها القيد وماهية لم يلحظ معها القيد، فنحن نعلم تفصيلا بطلب اصل الماهية، لحظ معها القيد أم لا هذا مشكوك، لكن اصل الماهية الملحوظة مطلوب. هذا الجواب الاول للمحقق النائيني.

وأشكل عليه العراقي «384»، قال: نمنع كون مرجع الماهية لا بشرط إلى مجرد عدم لحاظ، _يقول بأن اللا بشرطية ليس معناها العدم_ بل مرجعها _لا بشرطية_ ثبوتاً إلى سعة وجودها، في مقابل ضيقه، _يعني مرجع اللا بشرطية إلى اللحاظ لا إلى عدم اللحاظ_ إلى لحاظ السعة والسريان لا إلى عدم اللحاظ، ومن الواضح انه ليس التقابل بينها _ يعني بين الماهية الواسعة_ وبين الماهية بشرط شيء إلا بالهوية والحقيقة، _يعني تقابل حقيقي_ لا انه يكون اعتباريا محضاً، نعم في مقام الاثبات والدلالة، _ يعني هناك فرق بين تقابل الإطلاق والتقييد في عالم الثبوت وتقابلهما في عالم الإثبات، في عالم الثبوت كما قلنا ضدان اما في عالم الاثبات والدلالة نعم كما قال هو تقابل الملكة والعدم_ لأنه يكفي في إرادة المهية لا بشرط _يعني في عالم الإثبات_ مجرد إرسالها، يعني مجرد ذكرها من دون ذكر قيد فيتحقق الاطلاق في عالم الاثبات بعدم ذكر القيد مقابل التقييد بذكر القيد، فهما في عالم الإثبات، نعم تقابلهما تقابل الملكة والعدم، اما في عالم الثبوت تقابلهما تقابل اللحاظين الضدين.

الجواب الثاني: قال النائيني: سلمنا أن التقابل بين البشرط واللا بشرط تقابل اللحاظين، فعندما يدور الامر بين لحاظ الواجب بشرط ولحاظ الواجب لا بشرط ولا ندري ان الملحوظ هذا أم هذا؟! يقول المحقق النائيني: هذا لا يمنع الانحلال الحقيقي.

وهذه العبارة التي نقلها عنه المحقق العراقي قال: لو أغمض عما ذكرنا فيقال بانحلال الإجمالي حينئذٍ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل على كل حال لكونه هو المتيقن في تعلق الطلب به، _بالنتيجة الأقل مطلوب سواء كان مطلوبا بلحاظ شرط شيء أو مطلوب بلحاظ لا بشرط، بالنتيجة هو مطلوب_، ولا يضر به اختلاف سنخي الطلب، _لأنه لو كان الطلب متعلقاً به بشرط شيء فهذا شخص من الطلب، ولو كان الطلب المتعلق به لا بشرط فهذا شخص آخر من الطلب فالوجوب مردد بين شخصين من الطلب وسنخين_ ولا يضر به اختلاف سنخي الطلب من كونه طورا متعلق بالماهية لا بشرط وطورا متعلق بالماهية بشرط شيء. هذا الجواب الثاني للنائيني.

أجاب عنه العراقي: إنه مع تسليم اختلاف سنخي الطلب، _إذا تقول ان اسلم ان هناك سنخين وأنا متردد بين هذين السنخين_ وتردد الواجب بين المتباينين من حيث كونه لا بشرط وبشرط، فلا مجال لدعوى انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي، فإن هذا العلم التفصيلي بأقل مردد بين بشرط واللا بشرط، هو عين العلم الاجمالي، فأي فرق بين ان يقال: ان الواجب اما الأقل أو الأكثر ثم نحوله، ونعلم بأقل لكن لا ندري أما بشرط أو لا بشرط، _هذا علم اجمالي وذاك علم اجمالي، هذا هو عين العلم الاجمالي الاول وليس شيئا آخر_ لكونه عين العلم الاجمالي المزبور ومتولدا من قبله فكيف يكون صالحا بحله وهو عينه ومتولد منه؟

ولعل المحقق النائيني _كما سيأتي بيانه_ يشير إلى الانحلال في عالم العهدة، لأننا ذكرنا فيما سبق: ان الانحلال على ثلاثة أقسام: 1 - انحلال في عالم الجعل، 2 - وانحلال في عالم الفعلية، 3 - وانحلال في عالم التنجز.

فلو أنكر مثل المحقق النائيني الانحلال في علام الجعل فقال لا يوجد انحلال في عالم الجعل، لأن التردد بين لحاظين وجوديين فهو تردد بين سنخين من الطلب، لكن فيما تشتغل به العهدة يوجد انحلال حقيقي. والسر في ذلك: أنه صحيح تردد الأقل بين كونه بشرط وكونه لا بشرط، لكن هل تشتغل العهدة عن اللا بشرط؟ اللا بشرط وصف لا يدخل في العهدة لأنه لا يستلزم ضيقا وكلفة، فالأوصاف التي لا تستلزم ضيقا وكلفة لا تدخل في العهدة، إذن صحيح نحن مرددون بين شخصين وسنخين من الطلب، لأننا مترددون في متعلق الطلب هل هو بشرط شيء أو لا بشرط، لكن حيث ندري أن اللا بشرطية وان كان لحاظ وجودي الا ان هذا اللحاظ لا يدخل في العهدة لعدم استلزامه الضيق، إذن بلحاظ ما يدخل في العهدة نقول: نعلم تفصيلا بوجوب الاقل، القدر المتيقن مما دخل في العهدة ذات الأقل، أما كون الأقل بشرط شيء هذا لا نعلم في دخوله في العهدة، إذن فنجري البراءة عنه، أنتم لا تدرون ان اللا بشرطية دخلت أم لا؟ قلنا اللا بشرطية لا تدخل وان كانت لحاظا وجودياً، فيحصل انحلال حقيقي بلحاظ عالم الفعلية، يعني عالم ما يدخل في العهدة. وأما اشكاله السابق على المحقق النائيني فهو في محله كما سيأتي بيانه إن شاء الله. هذا بالنسبة إلى كلام النائيني وهو اشكاله على العلم الاول.

اشكل على العلم الثاني وهو استاذه صاحب الكفاية: حيث إنّ صاحب الكفاية افاد: بأن ن يقول بالانحلال يقول بأن الأقل متنجز على كل حال، أي سواء كان الواجب الواقعي هو الأقل أو كان الواجب الواقعي هو الأكثر متنجز على كل حال. وتنجزه مساوق لعدم تنجز الأكثر لأن تنجزه بالعلم بينما الأكثر مشكوك، إذن بالنتيجة هناك انحلال بمعنى اننا نعلم بتنجز الأقل على كل حال وشك في الأكثر فتجري البراءة. فقال صاحب الكفاية: ان تنجز الأقل على حال غير معقول، لأن الأقل تابع للوجوب الواقعي، هذا الأقل تابع له. فإن كان الوجوب الواقعي متعلق بالاكثر لا بالأقل، فكيف يكون الأقل متنجزاً؟ لأن تنجزه مستلزم لعدم تنجز الأكثر، فاذا استلزم عدم تنجز الأكثر صار من باب ما يستلزم وجوده عدمه، فإن وجود الأقل فرع وجود الأكثر لأن الواجب الواقعي هو الأكثر في هذا الفرض، فوجوب الأقل فرع وجوب الاكثر، فلو استلزم تنجز الأقل عدم تنجز الأكثر للزم من وجود الأقل عدمه وهو محال. فإن قلتم: يتنجز على فرض ان الواقع هو الاقل. قلنا: لكن هذا امر مشكوك لا علم لنا به. إذن دار الامر بين تنجز غير معقول، كما لو كان الواقع هو الاكثر، وتنجز مشكوك كما لو كان الواقع هو الاقل. فكيف تقولون بأن الأقل متنجز على كل حال، مع دورانه بين غير معقول أو مشكوك. هذا اشكال الآخوند الخراساني.

يقول العراقي: ولكن فيه، إن ما أُفيد من ملازمة تنجز التكليف بالأقل على كل تقدير لتنجز التكليف بالأكثر على تقدير وجوبه، _هذه الملازمة التي يدعيها، لذلك نجّز الأقل ونجز الاكثر، إذا الأقل يستلزم عدم تنجز الأكثر إذن الأقل غير متنجز_ يقول هذه الملازمة مبنية على اخذ حيثية الانضمام في متعلق التكليف، أنّ متعلق التكليف في رتبة سابقة هو الأقل بشرط أو الأقل لا بشرط، وقد انكرنا ذلك، وقلنا متعلق التكليف واحد وهو ذات الاجزاء، وأما البشرطية واللا بشرطية فلم تؤخذ في متعلق التكليف في رتبة سابقة.

اذن فبالنتيجة: بناء على مختاره من ان الأقل في مرحلة كونه معروضاً معروض بما هو واجب ضمني _يعني أخذ فيه الضمنية والاستقلالية في رتبة سابقة_ فإنه حينئذٍ يستحيل مجي الأقل في العهدة مستقلاً، وانفكاكه عن تنجز الأكثر ضرورة منافاة ذلك _منافاة الاستقلال في المنجزية_ مع أخذ حيث الارتباط والانضمام في متعلق الوجوب في رتبة سابقة. لكن هذا المبنى فاسد جدا. بمقتضى ما سبق شرحه.

ولكن الاشكال على المحقق العراقي هو الإشكال الذي ذكرناه في جوابه عن كلام المحقق النائيني. من انه حتى على هذا المبنى من اخذ البشرطية في رتبة سابقة يمكن دعوى الانحلال الحقيقي بلحاظ عالم العهدة، وان لم يسلم الانحلال الحقيقي بلحاظ عالم العهدة فلا اقل في عالم التنجز، بأن يقال: التبعية بين الوجوبين في الوجود لا تعني التبعية بينهما في التنجز، افترض الأقل تابع للأكثر وجوداً، لولا وجود الأكثر واقعاً لما وجد الاقل، اما هذا لا يعني تبعيتهما في التنجز، لأن التنجز تابع للعلم، فاذا كان احدهما معلوما دون الآخر تنجز دون الآخر. لذلك قلنا سابقا ب «التوسط في التنجيز»، معنى التوسط في التنجيز أن الأكثر لو كان واجبا واقعاً فقد تنجز ذلك الأكثر لكن في ضمن الأقل وإن لم يتنجز في ضمن الاكثر، يعني العشرة الواقعية تنجزت ضمن التسعة المعلومة وإن لم تتنجز ضمن العشرة المشكوكة. فافهم واغتنم.

والحمد لله رب العالمين.