الدرس 98

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

المطلب الأخير في كلام المحقق العراقي «قده» : ما ذكرناه أمس وقلنا بأنه سيأتي بيانه، وهو:

أن المحقق العراقي أفاد في «ص383»: بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد اللحاظيين تقابل التضاد ردّاً على المحقق النائيني «قده». وهو قد أفاد في «ص17، ج3» أن تقابل الاطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب، وكيف يتجه كلامه ردّاً على المحقق النائيني «قده»؟ وقد ذكرنا أمس أنه سيأتي بيان أنّ ما ذكره صحيح في هذه المناقشة للمحقق النائيني.

وبيان ذلك: إنّ ظاهر كلام العراقي في بحث أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر، وظاهر كلامه أيضاً هنا في «ج3، ص16 و17»: أن مبنى العراقي «قده» أنه لا وجه لتحديد التقابل بين الاطلاق والتقييد بصورة من صور الاطلاق، بل لابد في تحديد التقابل بين الإطلاق والتقييد للتفريق بين صور الاطلاق، بيان ذلك:

أنّ البحث في التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس بحثا منطقيا أو فلسفيا وإنما البحث اصولي، فبما ان البحث اصولي والبحث الاصولي يلاحظ فيه الأثر المترتب عليه، لذلك في تحديد التقابل بين الاطلاق والتقييد لابد من النظر إلى الاثر، ما هو الأثر المترتب على هذا التقابل؟

فإذا كان المنظور هو الأثر وليس بحثاً ثبوتياً مع غمض النظر عن الاثر، فبما أنّ البحث ملحوظ فيه الأثر لذلك اختلاف الآثار باختلاف المواطن تؤدي إلى أن يختلف تحديد التقابل باختلاف صور الإطلاق والتقييد. لذلك قال: تارة: يكون الأثر مترتباً على نفس عدم التقييد. وتارة: يكون الأثر مترتباً على لحاظ السريان واللا بشرطية. وتارة: يكون الأثر مترتباً على لحاظ الرفض. يعني الرفض للقيد.

فبلحاظ اختلاف موطن الأثر: تختلف صور الاطلاق، إذ تارة يكون الاطلاق هو عبارة عن عدم التقييد، لأن الاثر في ذلك، وتارة يكون الإطلاق عبارة عن لحاظ السريان واللا بشرطية، لأنّ الأثر في ذلك، فحيث ان اختلاف الأثر يقتضي اختلاف صور الاطلاق لذلك يختلف تحديد التقابل بحسب اختلاف مواطن الاثر، مثلا: في بحث اخذ العلم في الحكم في الحكم نفسه الذي بحثه في «ج3، ص16و17» نقاشا منه للمحقق النائيني «قده» حيث ان المحقق النائيني افاد: بأنه إذا امتنع تقييد الحكم بالعلم به امتنع الاطلاق أيضاً، فلابد من التوصل إلى متمم الجعل، اما المفيد فائدة التقييد أو المفيد فائدة الاطلاق، فهنا في هذا المورد يقول له المحقق العراقي: الأثر على خلو الموضوع من القيد، يعني الأثر كامن في عدم القيد لا في شيء آخر، فالمولى مثلا: عندما يقول يجب على المستطيع الحج، فالموضوع هو المستطيع، فهل لاحظ المولى المستطيع مقيدا بالعلم، أو المستطيع مع عدم لحاظ العلم؟

هنا الأثر يترتب على عدم اللحاظ بمعنى ان شمول الحكم للعالم والجاهل يكفي فيه عدم لحاظ العلم بلا حاجة إلى لحاظ السريان، حيث إن الأثر هنا يكفي فيه عدم لحاظ القيد في الموضوع في رتبة سابقة على الحكم لأجل ذلك قلنا الإطلاق هنا هو عدم التقييد، وكان التقابل بين الاطلاق هنا والتقييد تقابل السلب والايجاب فهما وجودي وعدمي.

أما إذا افترضنا ان الأثر مترتب على لحاظ السريان، لحاظ اللا بشرطية، لا أنّ الأثر مترتب على لحاظ القيد، إذن حينئذ لا حاجة إلى ان نبحث ما هو نوع التقابل بين التقييد وعدمه، لأن هذا ليس موطنا للأثر، بل لابد أن نحدد التقابل بين لحاظ القيد ولحاظ السريان، أو بين لحاظ القيد ولحاظ الرفض، لأن هذا هو موطن الاثر. فمثلا نقول: أنه إذا بحثنا هل يعقل أخذ قصد الامر في متعلق الامر أم لا؟

فنقول: بأن الأثر هنا مترتب على أنه هل لوحظ المتعلق مشروطا بقصد الامر؟ أم لوحظ المتعلق مع رفض قصد الامر؟ حيث إنّ الأثر يترتب على لحاظ الرفض فهنا تقييد واطلاق لحاظيان، لا اطلاق وتقييد، بل اطلاق وتقييد لحاظيان، لذلك نقول: تقابلهما هنا تقابل التضاد. في محل كلامنا مثلا: ما هو الأثر الذي نريد ان نصل اليه في تحديد معنى التقابل. فإن الأثر الذي نريد ان نصل اليه هل أن الارتباطية والاستقلالية في الواجب سابقة على الوجوب أم لاحقة على الوجوب؟ هذا الذي نريد ان نصل اليه، فإن كانت الارتباطية والاستقلالية سابقة على الوجوب كان الانحلال انحلالاً حقيقاً، إذا دار الامر بين الأقل والأكثر فانحلال هذا العلم لعلم تفصيلي بالأقل وشك بدوي في الأكثر انحلال حقيقي، لأنه في رتبة سابقة على الوجوب لا توجد ارتباطية واستقلالية، بخلاف ما إذا قلنا بأن الارتباطية والاستقلالية هي في رتبة سابقة إذن في رتبة سابقة يوجد اما بشرط أو لا بشرط فالانحلال ليس انحلالا حقيقيا، فبما ان الأثر الذي نريد نصل اليه، هل انه إذا دار الامر بين الأقل والاكثر هناك انحلال حقيقي أم لا؟ وافترضنا ان الانحلال الحقيقي يترتب على ان لا ارتباطية ولا استقلالية في رتبة سابقة، إذن بالنتيجة لابد ان نقول: بأن معروض الحكم في رتبة سابقة هو معروض الملاك، فنرجع إلى معروض الملاك، فنقول: هل أنّ معروض الملاك هو كلُّ جزء مشروط بجزء آخر؟ أم أن معروض الملاك هو كل جزء على نحو اللا بشرطية بالنسبة إلى الجزء الآخر؟ أم ان الملاك لا يقتضي هذا ولا هذا؟

إذن احتجنا إلى الاطلاق اللحاظي لأننا احتاجنا إلى موطن الملاك. فيقول المحقق العراقي: نحن إذا دققنا في الملاك، مثلاً ملاك الصلاة نجد ان ملاك الصلاة قائم بالعشرة، لا قائم بكل جزء من العشرة مقيدا بالآخر، ولا قائم بكل جزء من العشرة على نحو اللا بشرطية بالنسبة للآخر، بل الملاك قائم بذات العشرة، بمعنى أنّ كل جزء من العشرة يسد باب العدم من جهته، من دون أن يكون مشروطا بالآخر ولا على نحو اللا بشرطية من جهة الآخر. إذن ما دام الملاك له ثلاثة انحاء:

نحو: أن يقوم بذات العشرة، ونحو: أن يقوم بكل جزء مشروطا بالآخر، ونحو: ان يقوم بكل جزء على نحو اللا بشرطية بالنسبة إلى الجزء الآخر. صح لنا أن نقول: ليس الملاك في التقييد ولا في الإطلاق اللحاظي، ليس الملاك لا في التقييد ولا في الاطلاق اللحاظيين، فإذا لم يكن الملاك لا في هذا ولا في هذا إذن نسبة كل جزء إلى الجزء الاخر نسبة القضية الحينية، لا القضية المشروطة ولا القضية المطلقة بمعنى الإطلاق اللحاظي، أو فقل نسبة كل جزء للجزء الآخر على نحو القضية المهملة، ومرادنا بالمهملة: الخالية عن التقييد والاطلاق اللحاظيين.

فهذا الاهمال وان كان هو اطلاق بمعنى عدم التقييد، الإطلاق بمعنى عدم التقييد، هذا الاهمال نوع من الاطلاق بمعنى الإطلاق بعدم التقييد، لا بمعنى الإطلاق اللحاظي. لكن حيث إن الاطلاق هنا بمعنى عدم التقييد ليس موطن أثر لذلك قلنا هنا في مناقشة المحقق النائيني:

بأن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل الضدين، لأنهما لحاظيان والنسبة بين كل جزء والآخر في المركب الارتباطي نسبة الإهمال، أي القضية الحينية، إنما ركزنا هنا على الإطلاق والتقييد اللحاظيين لأنهما موطن الأثر. لذلك لاحظوا كلامه في «ص17»:

ومن هذه الجهة نقول: إنّ جعل التقابل بين الاطلاق والتقييد مطلقاً _كأنكم تبحثوا بحث منطقي أو فلسفي تقولون هناك تقابل مطلق لا يختلف باختلاف الصور_ من باب التضاد أو العدم والملكة منظور فيه _يعني محلُّ تأمل_ لأنّ ما به قوام هذا الإطلاق هو عدم لحاظ التقييد ولو من جهة استحالته _استحالة التقييد_ فيكون التقابل بينهما من باب الإيجاب والسلب قبال الإطلاق والتقييد اللحاظيين الراجع فيه التقابل إلى تقابل التضاد.

إذن هو متلفت إلى نوعين من التقابل، إنما يقول: لا يصح تحديد التقابل بصورة مطلقة، لان البحث اصولي يلاحظ فيه الأثر فيختلف تحديد التقابل من موطن لآخر بحسب اختلاف الأثر، لذلك قلنا ان مناقشته للمحقق النائيني في محلها.

نعم، على مختارنا الذي ذكرنا فيما سبق مقابل ما أفاده السيد الأستاذ «دام ظله»: من أن الاطلاق بمعنى عدم التقييد هو قابل للأثر وإن لم يترتب عليه أثر في بعض الموارد لاستحالة التقييد، كما إذا افترضنا مسألة اخذ قصد الأمر في متعلق الأمر، قلنا: استحالة التقييد جعلت الإطلاق بمعنى عدم التقييد مما يفرض نفسه، يعني جعلت الاطلاق امرا قهريا، لأنه إذا استحال التقييد فالإطلاق بمعنى عدم التقييد أمر قهري، وإذا لم يكن الإطلاق قهرياً لم يكشف عن سعة الملاك لأنه إطلاق فرض نفسه على المولى بحسب تعبير السيد الصدر والإطلاق الذي فرض نفسه على المولى كيف يكون كاشفاً لسعة الملاك؟ لكن عدم ترتب الأثر عليه في هذا الفرض لمانع والا فهو في نفسه قابل لترتب الأثر عليه. وهو في نفسه متقض لترتب الأثر اليه، وان لم يترتب عليه هنا لمانع.

لذلك ذكرنا في ذلك المقام: ان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب لكفاية قابلية الاطلاق بمعنى عدم التقييد للأثر وإن لم يترتب الأثر عليه في بعض المواضع لمانع. فعلى هذا المختار نقول: نعم، ما أفاده العراقي من ان التقابل بين التقييد والإطلاق اللحاظيين تقابل التضاد صحيح وتصح مناقشته هنا للمحقق النائيني، ولكن في تحديد التقابل بين الاطلاق والتقييد بصورة عامة لا نحتاج لفعلية الاثر، بل يكفي عندنا قابلية ترتب الأثر. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى: فإن العراقي افاد: الفرق بين اللا بشرطية من حيث الصدق واللا بشرطية من حيث المانعية.

وقد ذكره العراقي «ص437، عند بحثه في المقام الثاني في تصوير الزيادة الحقيقية في الاجزاء» قال: الثالث: إن أخذ الجزء أو الشرط في المركّب في مقام اعتباره واختراعه يتصور على وجوه ثلاثة:

أحدها: اعتبار كونه جزءا أو شرطاً على نحو البشرط لا من جهة الزيادة.

ثانيها: اعتبار كونه جزءا على نحو اللا بشرط في طرف الزيادة على معنى أنّه لو زيد عليه لكان الزائد خارجاً عن ماهيّة المركّب.

ثالثها: اعتبار كونه على نحو اللا بشرط، لكن على معنى بنحو لو زيد عليه لكان الزائد من المركّب وداخل فيه لا خارجاً عنه. فيقول المحقق العراقي هنا: المولى إذا أمر بالركوع في الصلاة فقال: انت مأمور بالركوع في الصلاة، فنسأل ما نسبة الركوع للركوع المكرر، يعني فيما إذا اتى بركوعين؟

فهو يقول هنا يتصور ثلاثة وجوه:

تارة: يقول نسبة الركوع للتكرار نسبة البشرط لا، يعني يجب عليك الركوع بشرط عدم التكرار. إذن سوف يكو التكرار زيادة.

وتارة يقول: المطلوب منك ركوع لا بشرط من حيث التكرار، والمقصود باللا بشرط هنا من حيث المانعية، يعني لو زدت ركوعا لم يكن مانعاً، الركوع حصل بالركوع الأول، بمعنى ان الواجب صرف الوجود، وقد حصل بالركوع الأول، لكن لو أتى بركوع ثاني لا بأس ليس بمانع.

وتارة: يقول الركوع المطلوب هو الركوع لا بشرط من حيث الصدق، يعني المأمور به انت طبيعي الركوع، بحيث لو أتيت بالعشرة لكانت العشرة كلها امتثال واحد، لا أن الركوع الثاني اجنبي، بل الركوع الثاني والعاشر كلها امتثال للامر بالركوع.

فاللا بشرطية لها معنيان ونحوان: اللا بشرطية من حيث الصدق، فيصدق على القليل والكثير، واللا بشرطية من حيث المانعية فيصدق على صرف الوجود ولكن يعتبر التكرار غير مانع. كذلك الأمر بالنسبة الى الجزء التاسع والعاشر، بأن نقول: بأن نقول: إذا قال المولى: انت مأمور في الركعة الثالثة بالتسبيحات الثلاث، فنسأله: بالنسبة للفاتحة في الركعة الثالثة ما هي النسبة؟

تارة يقول المولى: النسبة بينهما البشرط لا. تارة يقول المولى: النسبة بينهما اللا بشرط بالمعنى الأول، يعني الفاتحة اجنبية لا تضر. تارة يقول المولى: إذا اتيت بالتسبيح والفاتحة كان كلاهما امتثالا للذكر في الركعة الثالثة. إذن نسبة كل جزء إلى الجزء المشكوك تتصور على عدة انحاء. هذا هو توضيح كلمات العراقي.

كان بحثنا إلى اليوم في أنه: «هل العلم الإجمالي بأن الواجب هو الأقل أو الأكثر من حيث الاجزاء منحل أم ليس منحلا»؟ قلنا انحل.

الآن نحن نقول: على فرض أنه منحل: هل هناك موانع أخرى من جريان البراءة عن الأكثر أم لا؟ وقد ذكر صاحب الفصول مانعا وذكر صاحب الكفاية مانعا، ونبحث في القادم كلا المانعين في الأيام الآتية إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين.