الدرس 99

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

المانع الثاني _من جريان البراءة_: وهو ما ذكره صاحب الفصول «قده». ومحصّل كلامه مؤلف من مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن الواجب إذا دار بين الأقل والاكثر فقد دار بين كون الماهية على نحو اللا بشرط أو على نحو البشرط شيء، فلا ندري أن الصلاة المجعولة هل هي ماهية معرّاة عن الشك وهذا هو معنى الماهية اللا بشرط من حيث الجزء العاشر وعدمه، أو أن المجعول هو الماهية بشرط شيء؟ أي بشرط الجزء العاشر.

ومن الواضح ان جريان البراءة عن وجوب الأكثر لا يثبت لنا أن الواجب هو على نحو اللا بشرط، فإنه وإن كان لدينا علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الاكثر، ولكن وجوب الأكثر ليس مجرى للبراءة، لأن جريان البراءة لا ينقّح ما هو مورد الشك وهو هل أن الماهية معرّاة عن الشرط؟ ان الماهية مقرونة بالشرط، فالشك باقٍ على حاله.

المقدمة الثانية: مقتضى بقاء الشك على حاله عدم احراز سقوط فعلية الوجوب الا بإتيان بالأكثر، لأنه إذا لم ندر هل ان الاتيان بالأقل يسقط الوجوب الفعلي الذي علمنا به جزما؟ ام لا يسقط الوجوب الفعلي، فمقتضى قاعدة الاشتغال هو الاتيان بالأكثر لإحراز سقوط فعلية الوجوب.

هذا ما افاده في الفصول.

ويلاحظ على ما أفيد:

أولاً: على مبنى المحقق العراقي «قده» من أن اللا بشرطية أو البشرطية لم تؤخذ اصلا في متعلق الأمر ابداً، وإنما هي عنوانين انتزاعية نتزع في رتبة متأخرة عن الوجوب، فإن الوجوب إن تعلق بالعشرة انتزع من ذلك كون الواجب ماهية مشروطة، وإن تعلق بالتسعة انتزع من ذلك كون الواجب بالنسبة للعاشر ماهية لا بشرط، فاللا بشرطية والبشرطية ليسا قيدين مأخوذين في متعلق الأمر كي نحرص على إثباتهما، فنقول: بأن البراءة عن الأكثر لا تثبت لنا أن المأمور به على نحو اللا بشرطية، فلتكن لا تثبت لنا، إذ المفروض ان اللا بشرطية ليس قيدا مأخوذا في متعلق الأمر كي نتجشم اثباته.

ثانياً: مع غمض النظر عن مبنى العراقي «قده» يقال: الغرض من البراءة العقلية شيء والغرض من البراءة الشرعية شيء آخر، وكلامنا الآن في البراءة العقلية، والغرض من البراءة العقلية مجرد التأمين من العقوبة ليس الا، فاذا لم ندري ان الواجب هو الأقل أو الأكثر وقلنا بالانحلال كما يسلم به صاحب الفصول، اذن بالنتيجة لم نحتاج إلى شيء أي غرضنا هو التأمين من العقوبة، فنقول: نعلم تفصيلا أن ترك الأقل مستوجب للعقوبة ونشك بدواً في أن ترك الأكثر مستوجب للعقوبة ام لا؟ فتجري البراءة العقلية عنه، فمن يرى البراءة العقلية لا يرد عليه اشكال صاحب الفصول، إذ ليس الغرض من البراءة العقلية اثبات نحو الواجب وانه ماهية بشرط أو ماهية بلا بشرط، بل الغرض من البراءة العقلية مجرد التأمين من العقوبة وهذا حاصل في المقام.

ثالثاً: ذكر السيّد الشهيد «قده» بما يبتني على مقدمتين:

المقدمة الاولى: افاد قده أن ما اتفق عليه الاصوليون من ان اتيان المتعلق يسقط فعلية الامر، هذا الذي اتفق عليه كلام وليس حقيقة، فإن الفعلية لا تسقط بالامتثال، وإنما الذي يسقط بالامتثال الفاعلية لا الفعلية، بيان ذلك:

أن القوم _وهم الأصوليون_ أخذوا في الأمر قيد الامتثال، يعني إذا قال المولى: صلِّ فكأنه قال: صلِّ إن لم تمتثل الأمر وان امتثلت الأمر يسقط صلِّ، ففعلية الأمر بصلِّ منوطة بعدم الامتثال، فإذا امتثلت فلا أمر.

ولكن يلاحظ هذا التقريب المدعى لدى الاصوليين: أنه ممنوع عقلا ووجداناً.

أما أنه ممنوع عقلاً: فإن من الواضح أن القيود المأخوذة في الوجوب ما كانت دخيلة في الملاك، فلا يأخذ المولى قيداً في الأمر ما لم يكن ذلك القيد دخيلاً في الملاك، فاذا اخذ الزوال قيدا في وجوب صلاة الظهر، أو اخذ البلوغ قيدا في بلوغ التكاليف إلى المسلم، أو اخذ الاستطاعة قيدا في وجوب الحج، فإن معنى ذلك ان هذه القيود دخيلة في الملاك، فلولا دخلها في الملاك لما اخذها قيدا في الأمر، وبالتالي نسأل: هل أن عدم الامتثال دخيل في الملاك، حتى يقول المولى: أن لم تمتثل يجب عليك الصلاة، فأخذ في الوجوب قيدا وهو عدم الامتثال، فهل يعقل عدم الامتثال دخيلاً في ملاك الصلاة كي يكون قيداً في الوجوب؟ هذا غير معقول، لأن عدم الامتثال عدم فكيف يكون دخيلاً في ملاك ما هو امتثال؟! إذن بالنتيجة: بما أن عدم الامتثال مما لا يعقل دخله في الملاك فلا يعقل اخذه قيدا في الوجوب. هذا من ناحية عقلية.

وأما من ناحية وجدانية: فلكي نحصل الوجدان نقيس الارادة التشريعية بالإرادة التكوينية، فاذا رجعنا إلى الارادة التكوينية فهل نرى ان الارادة التكوينية تنتفي بحصول المراد حتى نقول الإرادة التشريعية ايضاً تنتفي بحصول المراد؟

الامر ليس كذلك، مثلا: إذا قال لك المولى: آتني بماء، فأتيت له بماء فشرب، هل ان حبه للماء يزول بعد شرب الماء، فيقو انا بعد ان شربت الماء وحصل المراد فإن حبي لشرب الماء يزول، الوجدان شاهد على بقاء الحب حتى بعد حصول المراد. فبما أن روح الإرادة المحبة والمحبة باقية حتى بعد حصول المراد، فهذا شاهد أن الإرادة لا تنتفي بحصول المراد، والنتيجة: نتيجة البرهان والوجدان أنّ الامتثال وعدمه لا دخل له فالأمر باقٍ على الفعلية امتثل العبد ام لم يمتثل، لم يؤخذ في فعلية الأمر عدم الامتثال.

إذن ما الذي يسقط إذا الانسان امتثل ولبّى أمر المولى وصلى؟ يقول: ان الذي يسقط بعد الصلاة الفاعلية لا الفعلية، يعني الداعوية، فالأمر بالصلاة لا داعوية له ولا محركية له بعد الأمر بالصلاة، لا ان الأمر لا فعلية له.

المقدمة الثانية: بعد تبيّن أن الفعلية لا تسقط، نرجع إلى كلام صاحب الفصول: حيث إن صاحب الفصول «ره» يقول: لا نحرز سقوط فعلية الأمر الا بالإتيان بالأكثر، حيث علمنا بأمر ولا ندري انه يتحقق بالأقل أو يتحقق بالأكثر فلا نحرز سقوط فعليته الا بالإتيان بالأكثر. فيجيبه السيد الشهيد:

ما هو مقصودك؟ هل مقصودك ان الاتيان بالأكثر يسقط فعلية الأمر أو يسقط فاعلية الأمر؟ فإن كان مقصودك انه يسقط فعليته فالفعلية باقية، الأمر فعلي حتى لو أتيت بالأمر عشرة مرات، فإن الأمر ما زال باقياً على الفعلية.

وان ادعي ان الساقط هو الفاعلية، فالفاعلية لا يحتاج إلى سقوطها بالإتيان بالاكثر، لأن الأمر بالمركب ينحل إلى أوامر ضمنية، وكل أمر ضمني تسقط فاعليته بحصول متعلقه، فإذا اتى الانسان بالركوع سقطت فاعلية الأمر الضمني بالركوع، لأن بقائها لغو بعد الإتيان بالركوع، وإذا اتى بالسجود فكذلك. فلا يتوقف سقوط فاعلية الأمر على الاتيان بالأكثر، فكلامك بالنتيجة لا وجه له قلت بسقوط الفعلية ام قلت بسقوط الفاعلية.

ويلاحظ على ما أفاده السيد الشهيد «قده»:

أولاً: بأن لا البرهان ولا الوجدان عائق أمام تقيد فعلية الأمر بعدم الامتثال. أما من ناحية البرهان، فإن هناك فرقاً بين التقييد المولوي والتقييد العقلي أو الارتكازي.

فبالنسبة للتقييد المولوي تأتي هذه الكبرى: ان المولى لا يصح ان يأخذ قيداً في متعلق أمره أو في امره حتى يكون دخيلا في الملاك، هذا بالنسبة للتقيد المولوي الشرعي، فالمولى إذا أخذ الزوال قيداً في الوجوب، فهذا تقييد مولوي والتقييد المولوي فرع كون الزوال دخيلا في الملاك.

ولكن الاصوليون متلفتون إلى ذلك، لا يدعون ان عدم الامتثال قيد مولوي في الأمر، وإنما هو قيد لبّيٌ ارتكازية، بمعنى انهم يقولون أن هذه قضية ارتكازية واضحة ان الأمر باقٍ ما دام لم تمتثل، فاذا امتثلت فبقاء الأمر باق تحصيل حاصل، لأن الغرض من الأمر سوق المكلف نحو تحصيل الملاك، هذا الغرض من بقاء الامر، فإذا انقاد المكلف وحصل الملاك فبقاء الأمر لغو، إذن تقيد الأمر لبّاً وارتكازاً بعدم الامتثال تقييد عقلائي صحيح وليس من باب التقييد المولوي كي يقال بأن هذا أمر لا دخل له في الملاك، فهذا كتقييد الأمر بالقدرة، فهل تقييد الأمر بالقدرة تقييد مولوي؟ بل قد تكون القدرة لا دخل لها في الملاك، ومع ذلك يقول المولى «انما يجب عليك دفن الميت» إذا كنت قادرا على نحو التقييد اللبي الارتكازي.

وأما من ناحية الوجدان: فإن السيد الشهيد «قده» ذهب إلى ان روح الأمر هو المحبّة، والحال بأن روح الأمر وقوامه هو الإرادة لا المحبة، والإرادة لا معنى لبقائها بعد حصول المراد، فإذا قال لك المولى آتني بماء بارد، فأتي له بالماء البارد فشربه، فإنه وجدانا لا تبقى إرادته لشرب الماء البارد بعد شربه وإن كانت المحبة العامة باقية، ألا ان قوام الحكم بهذه الإرادة لا ان قوام الحكم بالحب، فكما ان في التكوينيات قوام تحقيق المراد بالإرادة بمعنى الشوق المؤكد المحرك للعضلات لو كان المراد فعلاً مباشرياً فكذلك في الارادة التشريعية، وبالنتيجة: ما افاده السيد غير تام. هذا بلحاظ المقدمة الاولى.

وأما بلحاظ المقدمة الثانية: سلمنا أن الفعلية لا تسقط بالامتثال، باقية، فلو سلّمنا بذلك فدعوى أن الفاعلية تسقط بالإتيان بالجزء، هذا أول الكلام، فإن الفاعلية معناها حكم العقل ليس بالإتيان بالجزء، هذا أول الكلام، فإن الفاعلية معناها حكم العقل ليس إلا، إذ متى ما توجه تكليف للعبد حكم العقل بلابدية التحرك، وإلا فالأمر نفسه ليس فيه محركية أو داعوية، ففاعلية التكليف ليس شيئاً وراء حكم العقل بلزوم الجري والتحرك على طبق أمر المولى. وبالنتيجة: إذا أمر المولى بمركب حكم العقل بلزوم الجري وراء الامر، فاذا اتى ببعض اجزاءه فهل تسقط المحركية العقلية ام انها منوطة بشرط متأخرة وهو تمامية الامتثال. إذن بالنتيجة: لو اغمضنا النظر عن الفعلية فإن الفاعلية لا تسقط، ويرد اشكال صاحب الفصول «ره».

المانع الثالث: ما تعرّض له المحقق الخراساني «قده» وهو ما عُبّر عنه ب «شبهة الغرض» وبحث فيه الاعلام بحثا مسهبا لأن له ربطاً ببحث المقدمات المفوّتة. وقد أفاد صاحب الكفاية «قده» في بيان هذه الشبهة مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولى: إن الغرض في الواجبات الارتباطية ارتباط، بمعنى انه غرض واحد، إذ لو كان اغراض متعددة للزم من ذلك تعدد التكليف لا وحدة التكليف. فالغرض من الواجبات الارتباطية غرض بسيط وحداني.

المقدمة الثانية: إن الغرض علم، لأنه لما علمنا ان المولى اوجب علينا الصلاة فقط علمنا ان الغرض من وجوب الصلاة قد وصل الينا، وكما يجب امتثال تكاليف المولى يجب تحصيل اغراضه المعلومة، فإن حق المولى لا ينحصر في إطاعة تكاليفه بل مقتضى مولويته لزوم تحصيل اغراضه ايضاً، والمفروض أننا علمنا بوجود غرض لزومي في الصلاة فيجب علينا تحصيله عقلاً.

المقدمة الثالثة: دار الأمر بين ان يتحقق بالأقل أو يتحقق بالأكثر، فالشك شكّ في المحصّل، والشك في المحصّل مجرى لقاعدة الاشتغال لا للبراءة.

فإذا قال المولى: اكرم الهاشمي، ولم ندري أن اكرام الهاشمي يتحقق بضيافته؟ أو يتحقق بإعطائه مبلغا من المال؟ فإن هذا من قبيل الشك في المحصل، والشك في المحصل مجرى لقاعدة الاشتغال.

وقد أجاب الأعلام مفصلا عن كلام صاحب الكفاية:

الجواب الاول: ما ذكره المحقق النائيني من التفصيل بين نسبة المتعلق للغرض على نحو العليّة أو على نحو الإعداد. راجعوا كلام المحقق النائيني، ويأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.