الدرس 100

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن صاحب الكفاية «قده» افاد: بأنه بعد العلم بوجود غرض واحد مترتب على الواجب، ولا ندري هل أنه يتحقق بالأقل أو يتحقق بالأكثر؟ فالمقام في قبيل الشك في المحصّل، والشك في المحصّل مجرى لقاعدة الاشتغال.

وقد اجيب عن كلامه «قده» بعدة وجوه:

الوجه الاول: ما أفيد من كلمات المحقق الاصفهاني «قده»: من أنه لا نعلم بوجود غرض مترتب على الواجب، إذ لعل الغرض في نفس الواجب، فإنما يتم هذا الكلام الذي أفاده في الكفاية إذا علمنا بوجودين: وجود للواجب ووجود للغرض، وأن وجود الغرض مسبب عن وجود الواجب، فحينئذٍ يصح ان يقال: علمنا بسبب ومسبب ولا ندري هل المسبب يحصل بالأقل؟ أو يحصل بالأكثر، ولكننا نشك في ذلك، ونحتمل ان لا وجود آخر، وأن غرض المولى في نفس الصلاة وليس شيئاً آخر، أي ليس غرض المولى من الأمر بالصلاة إلا وجود الصلاة، بلحاظ أنّ في الصلاة قرباً منه، فما دامت الصلاة نفسها قرباً منه فهي غرضه وليس شيئاً آخر، فاذا كان الامر كذلك وهذا القرب حاصل كان المطلوب هو الاقل أو كان المطلوب هو الاكثر، فلا صغرى لكلام صاحب الكفاية، وبالتالي مع هذا الاحتمال نحن لم نعلم من الاساس وجود غرض مسبب عن الواجب كي يأتي كلام الكفاية. وبما أننا علم تفصيلاً بوجوب الأقل ونشك بدواً في وجوب الاكثر فتجري البراءة عن الأكثر. وهو كلام متين.

الوجه الثاني: بعد المفروغية عن وجود غرض مسبب عن الواجب مترتب عليه، فهنا أجاب السيد الخوئي «قده» وتلامذته السادة: سيد المنتقى والسيد الشهيد «قده» والسيد الاستاذ «دام ظله» بجواب واحد، وهو أنه لا يجب على العبد تحصيل اغراض المولى اصلا، بل الواجب على العبد تحصيل ما تعلقت به الارادة اللزومية من قبل المولى، فما تعلقت به الإرادة اللزومية للمولى، يجب تحصيله، وما لم نحرز أن الإرادة اللزومية تعلقت به لا يجب تحصيله، وليس من وظيفة العبد أن يدور الدنيا ليحصل اغراض المولى، بل وظيفة المولى إذا أراد تحصيل غرضه ان يطلبه أو يطلب الطريق الموصل إليه ببيان واضح واصل لدى العبد، وإلا لا يجب على العبد أن يحصّل غرض المولى. وبالتالي: بما أنه لا يجب على العبد الا ما تعلقت به الارادة اللزومية للمولى، فحينئذٍ نقول: من المحتمل أن المولى وإن كان له غرض يترتب على الواجب ترتب المعلول على علته التامة، وأن العبد قادر على تحصيل ذلك الغرض بأن يأتي بالأكثر حتى يحصّل الغرض، فرضنا كل ذلك، لكن نحتمل ان المولى ما اراد سد جميع أبواب عدم الغرض، فلعل المولى أراد سد بعض ابواب عدم الغرض، مثلا: لو افترضنا ان للمولى ضالة ضائعة، ضاع خاتم المولى أو ساعته مثلا، والمولى يعلم أن العبد يمكنه تحصيل هذه الضالة بأن يفحص عن جميع موارد مضانها الا انه لم يأمره بالبحث عنها الا في أماكن معينة، فإذا كان المولى نفسه لم يسد جميع ابواب عدم الغرض مع علمه ان العبد قادر على تحصيله لو فحص في جميع المضان، بل أمر بسد أبواب عدمه في بعض الموارد، فلا يجب على العبد أكثر من ذلك، وإن علم العبد علماً يقيناً جزمياً بأنني لو فحصت جميع المواطن لحققت غرض المولى، مع ذلك ما دام المولى لم يأمرني إلا بالفحص في أماكن معينه إذن فلم تتعلق إرادته اللزومية بسد جميع ابواب الغرض حتى يجب علي تحصيله. هذا من حيث الكبرى.

وأما تطبيقه على المقام وهو باب دوران الامر بين الأقل والاكثر الارتباطيين. فنقول: إذا دار امر الواجب بين عشرة اجزاء أو تسعة اجزاء ونحن نعلم ان للمولى غرضاً يترتب على هذا الواجب، نعلم بذلك الا اننا نحتمل ان المولى ما أراد سدّ جميع ابواب عدم ذلك الغرض، فلعل المولى لا يريد سدّ باب عدمه إلا بمقدار الاقل، فإذا احتلمنا أن المولى لا يريد سد باب عدمه الا بمقدار أقل إذن بالنتيجة نشك في تعلق الارادة اللزومية بتحصيل الغرض مطلقاً بحيث يجب تحصيله على كل حال، فإذا لم نحرز تعلق الارادة اللزومية قلنا بما أنك تعلم تفصيلا بوجوب الاقل وتشك بدواً في وجوب الاكثر فتجري البراءة عن الاكثر.

الوجه الثالث: ما تفضّل به المحقق النائيني «قده» هو أنه: هنا أمران: الأمر الاول: أن لدينا كبرى لا نرفع اليد عنها، كما رفع السادة يدهم عنها، وهي أنه يجب تحصيل اغراض المولى التي يقتدر العبد على تحصيلها إذا وصلته تلك الاغراض. هذا من حيث الكبرى نسلم بها لا ننكرها كما ينكرها السادة.

ولكن الكلام في الصغرى، حيث إن الغرض تارة يكون أدنى، تارة يكون أقصى. فالغرض الادنى: هو ما يترتب على الواجب ترتب المعلول على علته التامة فهو مقدور للعبد، وهناك غرض أقصى وهو: ما تكون نسبة الواجب اليه نسبة المعد، لأنه خارج عن قدرة العبد وانما يقدر العبد على بعض مقدماته، مثلاً: لو أمر المولى العبد بإنبات الزيتون، فيقول العبد انا لا قدرة لي على انبات الزيتون، وإنما أنا قادر على بعض المقدمات المعدّة لوجود الزيتون بأن أضع البذرة وأسقيها وأما وجودها فهو يتوقف على عوامل اخرى خارجة عن اختياري، فليس مع الا بعض المقدمات المعدة لهذا الغرض الذي يريده المولى.

فإن احرز العبد ان الغرض من القسم الأول وهو ما يترتب على الواجب ترتب المعلول على علته التامة، فهنا نعم يجب تحصيله، فاذا احرز انه من قبيل هذا الغرض ودار امر هذا الغرض الذي علم به العبد وهو يترتب على الواجب ترتب الواجب على علته التامة فهو مقدور، علم العبد بذلك لكن تردد هذا الغرض بين الاقل والاكثر وجب الاتيان بالأكثر تحصيلاً له، أداءً لحق المولوية، وإن علم العبد ان الغرض من قبيل الثاني، وانه أمر خارج عن اختياري وإنما يمكن لي بعض المقدمات الاعدادية له فلا يجب عليّ تحصيله من الأساس، وبالتالي ارجع الى الواجب الذي أمر به المولى، فاذا تردد الواجب بين الاقل والاكثر اقتصرت على الاقل. هذا كله من حيث الكبرى.

الامر الثاني _ما يتعلق بمقامنا_: حيث دار الواجب بين الاقل والاكثر ونحتمل ان الغرض المترتب على هذا الواجب من القسم الاول ونحتمل انه من القسم الثاني، فإن كان من القسم الاول وجب تحصيله، وإن كان من القسم الثاني لا يجب تحصيله، فماذا نصنع؟ فنرجع الى ما امر به المولى. فنقول: ان تعلق الامر المولوي بنفس الغرض بحيث قال: «وان كنتم جنبا فاطهروا» والطهارة غرض، فتلعق الامر بنفس الغرض لا بمقدماته، إذن هذا كاشف عن كون الغرض مقدوراً وانه من القسم الأول، إذ لولا كونه مقدوراً لم يتعلق به أمر المولى، فإذا دار امر هذا الغرض بين الاقل والاكثر فلا ندري ان الطهارة تتحقق بغسل مع ترتيب بين الجانب الايمن والايسر أم تتحقق ولو بدون الترتيب، وجب الإتيان بالترتيب إحرازاً لحصول الغرض، وأما لو وجدنا أن امر المولى لم يتعلق بنفس الغرض، تعلق بالواجب، بالعمل، فنقول: هذا شاهد على ان الغرض ليس واجبا تفصيلا ولو لأنه ليس مقدوراً، والدليل على انه لو كان مقدورا لأمر به المولى فأمره بالعمل المعدّ له والمقدمة له شاهد على عدم القدرة عليه وعدم وجوب تحصيله، فنقتصر على ما أمر به وهو العمل، وحيث ان العلم دائر بين الاقل والاكثر فهناك شك بدوي في الاكثر فيكون مجرى للبراءة.

وهنا علّق سيدنا «قده» قال: بعد أن تسلم الكبرى، وقلت لا يجب تحصيل اغراض المولى، لا يجب إلا ما تعلقت به الإرادة اللزومية سواء كانت اغراض أو اعمال.

أما إذا سلمت الكبرى وهي: وجوب غرض المولى مع غمض النظر عن احراز تعلق الارادة اللزومية أو عدم إحرازه، وأحرزت الصغرى: ان في البين غرضاً، ولا ندري هذا الغرض يحصل بالأقل أو يحصل بالاكثر، إذن يجب الاتيان بالاكثر، لأنه لا كلام ولا إشكال ان في الواجب المردد بين الاقل والاكثر غرضا ادنى لا اقل هو الاعداد للغرض الاقصى، فمثلاً الصلاة، لها غرض أقصى وهو النهي عن الفحشاء والمنكر، وغرض أدنى وهو الإعداد لكي تكون النفس منتهية عن الفحشاء والمنكر فلا إشكال في وجود غرض أدنى مترتب على كل واجب، هذا الا إشكال فيه وذلك الغرض الأدنى هو الإعداد، فبما أنك علمت بوجود غرض أدنى وهو الاعداد وهذا الغرض الأدنى مترتب على الواجب ترتب المعلول على علته التامة فهو امر مقدور، وقد سلمت بالكبرى، إذن يجب عليك الاتيان بالأكثر تحصيلاً لذلك الغرض. وكلامه متين.

ولكن السيد الشهيد «قده» دافع عن المحقق، وقال:

يمكن القول بأنه نفس هذا الغرض الأدنى المترتب على الواجب ترتب المعلول على علته التامّة نفس هذا الغرض الأدنى قد يكون مردد بين الأقل والاكثر، مثلاً: هناك غرض اقصى للصلاة وهي النهي عن الفحشاء والمنكر، وهناك غرض ادنى وهو الاعداد لذلك، لكن نحتمل ان في كل جزء من الصلاة إعداد مستقل عن الجزء الآخر، فإذا حصل المجموع، أي مجموع الإعدادات حصل ذلك الغرض الأقصى، وإنما كان الواجب ارتباطيا مع ان لكل جزء اعداداً مستقلاً لأنّ هذا الاجزاء تشترك في الاعداد لغرض واحد، فمن هذه الجهة صار الواجب ارتباطياً، لكن لكل جزء إعداد، فإذا لكل جزء إعداد إذن الغرض الاقصى لا يجب علينا تحصيله لأنه خارج عن قدرتنا، والغرض الذي يجب علينا تحصيله هو الاعداد والإعداد نفسه دائر بين الاقل والاكثر، لأن لكل جزء إعداداً مستقل، فلا ندري عندما يدور الواجب بين عشرة أو تسعة فنحن لا ندري اننا مطلوبون بعشرة اعدادات أو تسعة اعدادات، فكما أن الواجب دار بين الأقل والأكثر ايضاً الغرض الأدنى دار بين الأقل والأكثر، وما نعلم به تفصيلا هو الاقل من هذا الغرض الادنى والأكثر مشكوك فيه فتجري البراءة عنه.

ولكن، إذا احرزتم ذلك، يعني احرزتم ان الغرض الأدنى غرض مشكك دائم بين الاقل والاكثر، أما مع احتماله واحتمال أنه غرض واحد بسيط مترتب على الواجب المردد ترتب المعلول على علته التامة وقد سلمتم الكبرى وسلمتم الصغرى وهي انه وصل غرض لزومي للمولى ونحتمل ان هذا الغرض اللزومي أنه يترتب على الواجب ترتب المعلول على علته التامة، فحينئذ يكون المورد من الشك في المحصل، نعم إذا احرزتم ان نفس الغرض دائر بين الأقل والأكثر، نعم جرت البراءة عن الأقل والأكثر، اما مع احتمال انه غرض واحد بسيط مترتب على هذا الواجب المردد بين الاقل والاكثر ترتب المعلول على علته التامة وقد سلمتم الكبرى وقد وصل الغرض، فمقتضى تسليم الكبرى وجوب تحصيله.

وهل هذا الذي ذكره السيد الشهيد يتناسب مع من ينكر البراءة العقلية ويسلم بحق الطاعة للمولى الحقيقي؟ ويأتي الكلام عنه.

والحمد لله رب العالمين.