الدرس 101

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في «شبهة الغرض»، حيث ذهب صاحب الكفاية «قده» إلى أن هناك غرضاً مردداً بين الأقل والاكثر، وبما أنه يجب تحصيل الغرض اللزومي للمولى، ولا يعلم حصوله الا بالأكثر، فيجب الإتيان بالأكثر.

فقد ذكرنا أن هناك وجوهاً للجواب عن هذه الشبهة المسماة بشبهة الغرض، وتعرّضنا لثلاثة وجوه: ووصل الكلام إلى:

الوجه الأخير _الرابع _ لشبهة الغرض: وهو ما ذكره المحقق الاصفهاني «قده» في «ج4، نهاية الدراية، ص299».

ومحصّل كلامه:

إن وجوب تحصيل الغرض تارة يكون وجوبا عقلياً، وأخرى وجوباً شرعياً، والوجوب العقلي تارة يكون وجوبا نفسياً، وأخرى وجوباً مقدمياً.

فهنا وجوبات ثلاثة، تدعى لتحصيل الغرض:

الأول: ان يدعى انه يجب وجوبا عقليا نفسياً تحصيل الغرض اللزومي، وهذا يتصور له صورتان:

الصورة الأولى: أن يكون الغرض لزومياً في نفسه.

الصورة الثانية: أن يكون الغرض لزومياً لكونه غرضا للمولى. فهنا صورتان:

أما الصوة الأولى: وهي ما إذا ادرك العقل أن هناك غرضا لزوميا في نفسه، فهو غرض للمولى شئنا وليس غرضا للمولى فعلاً، مثلاً: ما مثّل به الأصوليون في بحث المقدمات المفوّتة، من أنه لو وقع ولد المولى في الشط، وخيف غرقه وكان المولى غير قادر على الامر بإنقاذه لكونه نائما أو غافلا أو ما اشبه ذلك، فهنا انقاذ ولده من الغرق ليس غرضا للمولى بما هو مولى بالفعل لأن المولى لم يأمر ولكنه غرض لزومي، فبما انه غرض لزومي فيجب تحصيله وإن لم يأمر به المولى، لذلك يجب تحصيله ولا كلام في هذه الصورة بحسب ظاهر كلام المحقق الاصفهاني.

الصورة الثانية: أن الغرض غرض للمولى، أي ان المولى انكشف انه يريد هذا الغرض، فهل ما انكشف لنا أنه غرض للمولى يجب تحصيله؟ أم لا؟ فهنا تعرض المحقق الاصفهاني إلى كبرى وصغرى وتطبيق هذه الكبرى والصغرى على محل البحث.

أما الكبرى: فقط أفاد ما افاده الاعلام وذكرناه عن السادة الاعلام، وهو: لا يجب تحصيل الغرض المولوي الواقعي ما لم تقم حجة عليه، فإن الغرض لا يزيد على الأمر، فكما أن أمر المولى لا يجب امتثال بكونه امر المولى، وانما يجب امتثال إذا قامت عليه حجة، فإذا قامت الحجة على امر المولى، سواء كانت حجة عقلية كالعلم الاجمالي أو شرعية كخبر الثقة ونحو ذلك، فحينئذٍ يجب امتثال هذا الامر. وأما إذا لم تقم الحجة، فمقتضى قبح العقاب بلا بيان عدم وجوب امتثال الأمر الواقعي، كذلك الغرض لا يزيد عليه، فإن الغرض الواقعي وإن كان غرضا للمولى ولكن لا يجب تحصيله ما لم تقم عليه حجة بمقتضى البراءة العقلية. هذا من حيث الكبرى.

أما الصغرى: فإذا قامت حجة ووجد أمر من قبِل المولى، فهذا الامر يكشف عن ان الغرض بالمقدار الوافي بالمأمور به، لا اكثر من ذلك، أي إذا أمر المولى بالصلاة أو بالصوم فهذا يكشف ضمنا كشف المعلول عن علته، ان الغرض بمقدار يفي به المأمور به، لا اكثر من ذلك، يعني لا ان الغرض أوسع من المأمور به، غاية ما يكشف عنه الأمر ان الغرض بالمقدار الذي يفي به المأمور به لا اكثر من ذلك، والسر في ذلك: أنه لو كان الغرض أوسع من المأمور به بحيث لا يفي به لوجب على المولى الامر بالأوسع والا لكان نقضا لغرضه، ونقض الغرض قبيح، إذن فمن باب الدليل الإنيّ وهو كشف المعلول عن علّته، غاية ما يكشف عنه الامر _لأن الامر معلول والغرض علة_ وجود غرض يفي به المأمور به. وبالتالي إذا أتى بالمأمور به فقط أتى بالغرض الذي قامت عليه الحجة. هذا من حيث الكبرى ومن حيث الصغرى.

أما تطبيق ذلك على محل كلامنا:

وهو ما إذا دار الواجب بين الأقل والاكثر، فلا ندري ان الواجب الصلاة بتسعة اجزاء أو بعشرة اجزاء؟ فهنا ماذا تقولون؟ فإنه إذا ترددت الصلاة المأمور بها بين التسعة والعشرة فقد تردد الغرض بين أن يفي به التسعة أو لا يفي به إلا العشرة، فما هو العمل والحل؟

فقال المحقق الاصفهاني: لا يمكن جعل شبهة الغرض مانعا من جريان البراءة وراء مانعية العلم الاجمالي، كما صنع صاحب الكفاية، حيث ان صاحب الكفاية ذكر اولا: ان المانع من جريان البراءة عن وجوب الأكثر العلم الاجمالي ولذلك بحث الاعلام في انحلاله، ثم افاد بانه: لو سملنا ان العلم الاجمالي منحل وان هذا المانع ارتفع هناك مانع اخر وهو تردد الغرض. فهنا يفيد المحقق الاصفهاني ان هذا ليس مانعا آخر وراء مانعية العلم الإجمالي، والسر في ذلك: إن العلم الإجمالي إما لم ينحل؟ أو انحل. فإن كان العلم الاجمالي لا ينحل فصحيح، هناك علم اجمالي بواجب وهو اما التسعة أو عشرة فيجب تحصيل العشرة بمقتضى منجزية العلم الاجمالي، وهناك غرض قائم اما بالتسعة أو العشرة؟ فيجب تحصيل الغرض القائم بالعشرة بمقتضى منجزية العلم الاجمالي. فهذا الغرض مما قامت عليه حجة عقلية وهي العلم الإجمالي ولا كلام في ذلك وليس هذا محلاً للبحث.

وأما إذا افترضنا ان العلم الاجمالي انحل إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الاكثر، فلا معنى لوجوب تحصيل الغرض لو كان قائما بالأكثر. لأن المفروض ان الغرض لو كان واقعاً قائماً بالأكثر فهو مما لم تقم عليه حجة، فإن ما قامت عليه الحجة: الغرض ضمن الأقل للعلم التفصيلي بوجوب الأقل. وأما الغرض ضمن الأكثر فلم تقم عليه حجة فهو مجرى للبراءة، إذن اقحام شبهة الغرض في المقام تطويل بلا طائل، لأنه اما ان ترى العلم الاجمالي منحل فنفس انحلاله اقتضى جريان البراءة عن الأكثر قلتم بوجود غرض أم ما قلتم بوجوده. وإن قلتم ينحل، فنفس العلم الإجمالي يقتضي وجوب الاكثر، قلنا بوجود غرض أم ما قلنا، فجعل شبهة الغرض مانعا وراء مانعية العلم الإجمالي بلا وجه.

هذا ما افاده «قده» بناء على أنّ وجوب الغرض وجوب عقلي نفسي. ما ذكره في الصورة الاولى وهي قد يكون الغرض غرضا لزوميا كما لو وقع ولد المولى في البحر والمولى لم يأمر بانقاذه لنومه أو لعدم فطنته وما اشبه ذلك، في مثل هذا المورد هذا لا صورة له، لأنه لولا أنّ انقاذ النفس المحترمة غرض لزومي فعلي للمولى الشرعي بما هو مولى ما وجب الانقاذ. لأننا لا نتكلم في الوجوب العقلي نحن نتكلم في الوجوب الشرعي، لولا أنه غرض _انقاذ النفس المحترمة بغض النظر عن المولى_ لو لم يكن أنقاذ النفس المحترمة غرضا لزوميا فعليا للمولى لما وجب الانقاذ. فدعوى وجود غرض لزومي لكن ليس غرضا للمولى ومع ذلك يجب تحصيله مع ان المولى لم يأمر به، هذا مما لا صورة له، والسر في ذلك: ان المولى اما ملتفت للغرض المعين وقادر على الأمر به فعدم امره به كاشف عن عدم كونه غرضا لزوميا، واما ان الغرض لم يتلفت له المولى أو لم يأمر به، فلا دليل على كونه غرضاً لزوميا كي يجب تحصيله. إذن اما انه غرض التفت اليه المولى وقدر على تحصيله، فعدم أمره كاشف عن عدم لزومه. أو غرض لم يأمر به المولى ولو لأجل وجود مانع فلا نحرز انه غرض لزومي كي يجب تحصيله. فهذه الصورة وهي دعوى انكشاف غرض لزومي في نفسه مما لا صغرى لها.

وأما الصورة الثانية: وهي ان نحرز وجود غرض لزومي للمولى بما هو مولى، فيدور الامر بين وجود الحجة وعدم وجودها. فإن وجدت وجب التحصيل وإلا فلا يجب التحصيل. فقد ذكرنا امس ان هذا مبني على القول بالبراءة العقلية. بل كل البحث في السابق مبني على القول بالبراءة العقلية. واما من لم يقل بالبراءة كما هو مختار صاحب المنتقى «قده» والسيد الشهيد «قده» وهو المختار أيضاً: من ينكر البراءة العقلية، حينئذٍ مقتضى انكار البراءة العقلية هو تنجز احتمال وجوب الأكثر عقلاً، ولابد من المصير إلى البراءة الشرعية.

وأما ما ذكره السيد الامام «قده» في عدّة موارد من ابحاثه، بأنه هناك عقلائية، فلنفترض ان هناك براءة عقلية، لكن هناك براءة عقلائية، بمعنى انه قام ارتكاز العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال التكليف بعد الفحص، أو قامت سيرة العقلاء على عدم الاعتناء بوجوب الأكثر بعد الفحص، فهذه البراءة العقلائية مرجعها إلى البراءة الشرعية، لأن هذه السيرة العقلائية لو لم تكن ممضاة شرعاً لما صح التعويل عليها في تحصيل الامن من العقوبة، فمرجع البراءة العقلية إلى البراءة الشرعية، وبالتالي لا معنى لجعلها قسماً ثالثاً غير البراء العقلية وغير البراءة الشرعية، ولأجل ذلك نقول: أيضاً من ينكر البراءة العقلية لا يحتاج إلى أن يبحث عن شهبة الغرض، لأنه اساساً يرى أن احتمال التكليف منجز ولو بعد الفحص فضلا عن احتمال الآخر، فلا معنى لأن يبحث احتمال الغرض منجز أم لا؟ فهذا لا يحتاج إلى البحث عنه ما دام احتمال التكليف قائما واحتمال التكليف منجز في نفسه. هذا مما يرتبط بالوجوب العقلي النفسي.

الوجه الثاني: دعوى الوجوب العقلي المقدمي، أي أن العقل ادرك أن الغرض علّة للأمر، إذن فالمأمور به مقدمة لتحصيل الغرض، فحينئذٍ، يجب الإتيان بالمأمور به تحصيلا للغرض لكن وجوبا عقليا لا مقدمياً، فقد يدعى أنه يجب تحصيل الاغراض لا في نفسها يعني لا على الوجوب النفسي بل على نحو الوجوب العقلي المقدمي. وهنا أفاد المحقق الاصفهاني «قده»:

بأننا نقيس الإرادة التشريعية على الإرادة التكوينية، فنرجع إلى المقيس عليه وهو الإرادة التكوينية، فنقول: إنّ قيام الغرض بفعلٍ يقتضي تعلق الشوق بذلك الفعل لا بأمر آخر، سواء كان الامر الآخر مباين أو اقل أو اكثر، فقيام الغرض بفعل يقتضي تعلق الشوق بذلك الفعل لا بأقل ولا بأكثر منه، وتعلق الشوق بموطن الغرض يقتضي تعلق الإرادة بما تعلق به الشوق، فالغرض يقتضي تعلق الشوق بموطن الغرض لا اكثر، والشوق يقتضي تعلق الإرادة بموطن الشوق لا أكثر من ذلك، لهذا لا تزيد الارادة التكوينية عن موطن الغرض بحدوده.

هذا بالنسبة إلى الارادة التكوينية. فكذلك الأمر بالنسبة إلى الإرادة التشريعية. فإن المراد تشريعاً لا يكون اقل من موطن الغرض ولا يكون اكثر من موطن الغرض، بل المراد تشريعا بمقدار الغرض لا اكثر منه ولا اقل. لأجل ذلك، بعد بيان هذه المقدمة، يقول:

وحيث إن الأمر الواقعي لم يكن فعلياً يعني لم يصل _لأن الفعلية بنظره «قده» متقومة بالوصول وحيث إن الأمر الواقعي لم يكن فعليا الا بالنسبة لذات الأقل. لأن الأكثر مشكوك شكاً بدويا بمقتضى انحلال العلم الإجمالي فالأمر الواقعي ليس فعليا الا بمقدار الاقل. فيكشف بمقتضى العلية والمعلولية عن فعلية الغرض بهذا المقدار، أي ليس هناك غرض فعلي الا بمقدار الاقل، ولو كان الغرض الواقعي قائما بالأكثر وكان فعليا للزم على المولى جعل الاحتياط انقاذا لغرضه، بجعل احتمال الأكثر منجزاً وإلا لو لم يجعل المولى وجوب الاحتياط لهذا المورد لكان ناقضاً لغرضه ونقض الغرض قبيح.

ولكن يجاب عن ذلك:

بأنه تارة: يدعي المحقق «قده» بأن انحلال العلم الاجمالي اقتضى انه لم تقم حجة، على غرض فعلي في الأكثر، لذلك لا يجب تحصيله لأنه ما قامت عليه الحجة. واما دعوى ان قيام الحجة على الأقل حيث نعلم تفصيلا بالامر بالاقل يعني بمقتضى العلية والمعلولية ان لا غرض فعلي في الأكثر، فهذا أول الكلام. نعم، إذا كان يدعي ان الانحلال ادعى ان لا حجة لغرض فعلي في الاكثر، فلا يجب تحصيله لعدم قيام الحجة. هذا هو نفس كلامه الاول وهو صحيح، بناء على البراءة العقلية، وما ان يقول بأن انحلال العلم الاجمالي ادى ان نكتشف ان لا غرض فعلي إلا في الأقل فهذا ممنوع.

حيث قال: وحيث إن الامر الواقعي لم يكن فعليا إلا بذات الأقل فيكشف بمقتضى العلية والمعلولية عن فعلية الغرض بمقدار فعلية الامر بالاقل ولو كان الغرض الواقعي قائما بالأكثر وكان فعليا للزم على المولى جعل الاحتياط بجعل احتمال الأكثر منجزاً وإلا لكان ناقضاً لغرضه، لا يلزم على المولى ذلك.

والحمد لله رب العالمين.