الدرس 102

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في الوجه الأخير من «شبهة الغرض» حيث إن صاحب الكفاية «قده» أفاد بأنه: إذا تردد الواجب بين الاقل والأكثر كما إذا ترددت الصلاة بين تسعة اجزاء وعشرة اجزاء فإن الغرض مردد أيضاً بين الاقل والاكثر، فيجب الاتيان بالأكثر وهو العشرة، تحصيلا للغرض.

وأجاب عن ذلك المحقق الاصفهاني «قده»: بأن وجوب تحصيل الغرض يحتمل على وجوه ثلاثة:

الوجه الاول: أنه يجب تحصيل الغرض وجوبا عقليا نفسياً، بمعنى أن العقل مع غمض النظر عن التكليف يحكم بوجوب تحصيل غرض المولى وإن لم يكلف به المولى، وهذا الوجوب أشكل عليه المحقق الاصفهاني بما اشكل به سيدنا الخوئي وتلامذته: بأنه لا يجب عقلا تحصيل اغراض المولى الا إذا قامت الحجة عليها، فما لم تقم حجة وجدانية أو تعبدية على غرض المولى بحيث يكون محرزا تفصيلا وإلا فلا يجب تحصيله. وهذا قلنا جواب متين بناء على التسليم بالبراءة العقلية.

الوجه الثاني: أن يدعى ان وجوب تحصيل الغرض وجوب مقدمي، بمعنى يجب تحصيل الغرض عقلا لا لذات الغرض بل لأن في تحصيل الغرض اسقاطا للأمر، فيجب على المكلف عقلا اسقاط الامر وبما ان اسقاط الامر متوقف على تحصيل الغرض اذن يجب تحصيل الغرض وجوبا مقدمياً لأجل اسقاط الامر، لعل المحقق الآخوند يدّعي هذا، لا يدعي الوجوب العقلي النفسي مثلاً.

هنا أشكل عليه المحقق الاصفهاني «قده» بأنه: عندما ندقق ان لا فعلية للأمر إذا بمقدار الاقل، حيث إن المحقق الآخوند يسلّم بالانحلال، أي انحلال العلم الاجمالي الى علم تفصيلي بوجوب الاقل وشك بدوي في وجوب الاكثر، فبناء على ذلك إذن لا فعلية للامر الا بمقدار الاقل، فإذا لم يكن الامر فعليا الا بمقدار الاقل اذن لا فعلية للغرض الا بمقدار الاقل، بمقتضى العلية والمعلولية، حيث ان الامر معلول للغرض، فبما ان الامر معلول للغرض والمعلول لا فعلية له الا بمقدار اقل فلا محالة العلة وهي الغرض لا فعلية لها الا بمقدار الاقل، فهذا هو مقتضى الملازمة بين العلة والمعلول.

وبالتالي لا يجب تحصيل الغرض في الاكثر لأنه لا فعلية له، ولو كان الغرض في الاكثر فعليا لأمر المولى بالاحتياط تحصيلا له، إذ عدم امره بالاحتياط مع كون الغرض في الاكثر فعلياً، نقض للغرض، ونقض الغرض قبيح. فمقتضى حفظ المولى لغرضه لو كان غرضه فعليا في الاكثر لأمر بالاحتياط، فعدم امره بالاحتياط كاشف عن عدم فعلية الغرض في الاكثر فلا يجب تحصيله إذا لم يكن فعلياً. هذا ما افاده في مناقشة المحقق الاصفهاني.

هذا الكلام الذي افاده مورد لإشكالين:

الإشكال الاول: ما نطرحه من أن تحصيل الغرض، بأن هذه مصادرة، لأنه لا يصح ان يقال: عدم الامر بالاحتياط نقض للغرض الا إذا سلمنا بالبراءة العقلية للغرض، إذا قلنا بأن البراءة العقلية تجري في الاغراض المعلومة فيصح للمحقق الاصفهاني أن يقول: بما أن البراءة العقلية جارياً إذن لو كان الغرض فعلياً للزم على المولى حفظه بالامر بالاحتياط، لأنه لو لم يأمر بالاحتياط لجرت البراءة العقلية وهذا نقض لغرضه، إذن افترض المحقق الاصفهاني في مناقشة شيخه أن شيخه يسلم بالبراءة العقلية في الغرض، لذلك اورد عليه. والحال بأن هذه مصادره لأن هذا اول الكلام عند صاحب الكفاية. فصاحب الكفاية «قده» يقول: إنما تجري البراءة في الغرض المشكوك، اما مع العلم بوجود غرض بسيط تردد بين الاقل والاكثر فالبراءة العقلية غير جارية، ومع عدم جريانها فلا معنى ان يطالب المولى الامر بالاحتياط، فعدم أمر المولى بالاحتياط اتكاء منه على الحكم العقلي أو لا اقل على عدم حكم العقل بالبراءة العقلية، فلا يلزم من عدم امره بالاحتياط نقض غرضه.

وأما الاشكال الثاني: فهو ما اشكل به على نفسه «المحقق الاصفهاني» حيث قال: قلتم قد يكون الغرض موجود واقعا في الاكثر ولكن لا فعلية له، وانما فعليته في ضمن الأقل، وهذا خلف كون الغرض بسيطا واحداً، فإنه إذا كان الغرض بسيطا واحدا فكيف يعقل ان يكون هذا الغرض فعلياً في الاقل وغير فعلي في الاكثر، لا يعقل التبعيض في الفعلية مع كون الغرض واحدا بسيطاً.

فأجاب هو عن هذا الاشكال: فقال: هذا مدفوع بالنقض والحل:

اما النقض: فبمورد قاعدة «لا تعاد الصلاة» فلا إشكال أن في الصلاة غرضاً واحداً بسيطاً ومع ذلك لو أن المكلف ترك جزءا من الصلاة غير الخمسة وكان تركه إياه عن نسيان أو جهل قصوري فإن الامر بالصلاة يسقط، مع ان الغرض واحد بسيط، فكيف تجيبون؟ كيف يسقط الامر بفعل اقل مع ان الغرض قائم بالأكثر وهو غرض واحد بسيط؟!

أمّا الحل: فمجرد وجود غرض واحد بسيط قائم بالصلاة لا يعني انه مرتبة واحدة، قد يكون هذا الغرض الواحد ذا مراتب، فيكون بلحاظ بعض مراتبه فعليا، وبلحاظ بعض مراتبه غير فعلياً. فهناك غرض واحد بسيط قائم بالصلاة، الا ان هذا الغرض الواحد البسيط له مراتب، المرتبة فيم علم من أجزاء الصلاة تكون فعلية، وفيما جُهل ليست فعلية، فأي مانع من ذلك، كما قلنا في قاعدة «لا تعاد» فلو أنّ المكلف علم بتمام اجزاء الصلاة ولم يأت ببعضها، هنا نقول: لا يسقط الامر، لأن الغرض فعلي بتمام مراتبه. اما إذا كان المكلف يجهل بعض اجزاء الصلاة جهلا قصورياً، وأتى بالصلاة بدونها، فالأمر يسقط، لأن المرتبة الفعلية من الغرض هي المرتبة القائمة بالاجزاء المعلومة، فاي مانع من ان يكون الغرض ذا مراتب من حيث الفعلية.

وما ذكره «قده» من جهة الحلّ صحيح. يمكن ان يكون الغرض الواحد ذا مراتب ويكون ببعض مراتبه فعليا دون بعض، هذا صحيح. اما النقض الذي استشهد به فهذا غير مسلم، يعني لا نسلم ان صحة الصلاة في موارد لا تعاد ناشئة عن كون الغرض متبعضا من حيث الفعلية، بل من المحتمل ما قاله شيخه صاحب الكفاية: بأن الغرض في الصلاة فعلي، وانما سقط الامر لقيام مانع عن تحصيله، أي لما أتى المكلف بالصلاة الناقصة نسيانا أو جهلا كان الاتيان بالصلاة الناقصة مانعاً من استيفاء الغرض في الصلاة التامة، فسقوط الامر لا لأجل استيفاء الغرض بل لأجل امتناع استيفائه بعد الاتيان بالصلاة الناقصة، فهو يسلم «الاخوند» بأن هناك غرضا فعليا واحدا قائما بالصلاة كلها لكن مع ذلك سقط الامر لوجود مانع من استيفائه وهو من وجود الصلاة الناقصة، لا لأن الغرض متبعض من جهة الفعلية بلحاظ مراتبه. أو لما ذهب اليه السيد الاستاذ «دام ظله»: من أن الأجزاء السننية في الصلاة هي ليست اجزاء، فهي واجبات في ظرف الصلاة، فإن علم وجب عليه الاتيان بها في ظرف الصلاة، ولو تركها متعمدا وجب عليه تكرار الصلاة لا لفساد الاركان، الاركان صحيحة، بل لأن هذه الواجبات يجب الاتيان بها في ظرف الصلاة فمتى ما علم بها وجب الاتيان بها ولو بتكرار الصلاة، وإذا لم يعلم لم تجب.

إذن بالنتيجة: على هذا المبنى هناك غرضان، غرض في الصلاة، ويتحقق بالإتيان بأركانها، وغرض مستقل في واجبات ظرفها الصلاة وهذا الامر بهذه الواجبات انما يسقط إذا اتى بها معلومة، وأما إذا جهل ببعضها فلا أمر بها حينئذٍ. اذن بالنتيجة: الاستشهاد بحديث لا تعاد على أن الغرض الواحد يمكن تبعضه بلحاظ مراتبه في غير محله، لأن المورد يحتمل اسباباً اخرى ومناشئ أخر.

الوجه الاخير: قال: لعل شيخنا صاحب الكفاية يرى انه يجب تحصيل الغرض وجوبا شرعيا لا وجوبا عقليا نفسيا ولا وجوبا عقليا مقدمياً، لعله يدعي الوجوب الشرعي. وبيان ذلك:

أن المولى اوجب الصلاة لأن في الصلاة انتهاء عن الفحشاء والمنكر، فإذا وجبت الصلاة لأجل هذا الغرض، فالواجب في الحقيقة الغرض، والصلاة إنما وجبت وجوباً مقدمياً، فما هو الواجب النفسي وبالاصالة هو الغرض وليس الصلاة، إذن الغرض واجب شرعي نفسي، والصلاة إنما وجبت مقدمة له، فإذا شككنا في ان هذا الواجب الشرعي يحصل بالاقل أو يحصل بالاكثر كان من الشك في المحصّل «الشرعي» لا في المحصل «العقلي» كما في الوجهين السابقين.

أجاب عنه المحقق الاصفهاني: اعلم بأن الواجبات الشرعية على نوعين: واجبات مستندة الى الحسن والقبح العقليين، وواجبات مستندة الى ملاكات مولوية لا علقة بها بالحسن والقبح العقليين:

أما النوع الاول: مثلاً: عندما يقول الشارع: يجب الانفاق على الوالدين حال حاجتهما، وانما يجب الانفاق على الوالدين عند احتياجهما لأن الانفاق عليهما في هذا الظرف عدل، فالوجوب الشرعي معلل بالحسن العقلي، إنما وجب الانفاق لأن الانفاق عدل.

ففي هذا النوع من القضايا والواجبات نرجع الى الحسن نفسه، فنقول: قرر في محله أن الحيثيات التعليلية في الاحكام العقلية حيثيات تقييدية، أي أن الحيثية العقلية واسطة في العروض وليس واسطة في الثبوت، مثلاً: إذا قال العقل: يقبح ضرب اليتيم لأن ضربه ظلم، ففي الواقع القبيح ما هو ظلم وهذا من صغرياته ليس الا، إذن الحيثية وهي حيثية قبح الظلم حيثية تقييدية لا تعليلية، صحيح العقل علل بذلك قال: يقبح ضرب اليتيم لأنه ظلم، لكن في الواقع هذه الحيثية تقييدية، يعني ان القبيح هو الظلم، فقبح الظلم واسطة في العروض، يعني هي المعروضة واقعا في القبح وليس ضرب اليتيم.

هذا الذي قلناه في الواجبات العقلية من أن الحيثيات فيها حيثيات تقييدية يأتي في الواجبات الشرعية المستندة إلى الحسن والقبح العقليين، فنقول: عندما يقال: يجب الانفاق على الوالدين حال فقرهما لأنه عدل، يعني في الواقع قال الشارع: يجب العدل. فالحيثية هنا في الواقع حيثية تقييدية، ففي الواقع يجب العدل، فإذا كان العدل واجبا شرعا إذن نسلم بما يقوله الآخوند من أن الوجوب الشرعي إذا تعلق بعمل فهو في الواقع متعلق بغرضه، وتعلقه بالعمل تعلق مقدمي، نسلم بهذا الكلام إذا كان الغرض من القضايا العقلية يعني من قضايا الحسن والقبح العقليين.

أما إذا افترضنا ان الغرض الذي على اساسه حكم به الشارع ليس من الحسن والقبح العقليين، ملاك مولوي، يقول المولى: ارم الجمرة بسبع حصيات لا لوجود أي حسن أو قبح عقليين، لا يوجد في البين أي قضية من قضايا الحسن والقبح العقليين، وانما أمر المولى المولى برمي جمرة العقبة بسبع حصيات لإظهار العبودية من العبد، لا لأجل قضية هي من قضايا الحسن والقبح العقليين. فهنا في هذا المورد ليست الحيثية التعليلية حيثية تقييدية، أي أنّ ما أوجبه المولى هو الرمي لا ان ما اوجبه المولى هو اظهار العبودية، فإظهار العبودية غرض أوجب ان يأمر المولى برمي الجمرة لا أن هذا الغرض هو المأمور به. ففي هذه القضايا لا نسلم بكلام الكفاية من ان الشارع إذا أمر بعلم فهو أمر شرعي بغرضه، غرضه ليس مأموراً به شرعاً، المأمور به شرعا هو العمل.

إذن لا نسلم في هذا القسم الثاني بأن الغرض واجب شرعاً. حتى إذا دار بين الأقل والاكثر كان من الشك في المحصل الشرعي.

والحمد لله رب العالمين.