الدرس 103

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن المحقق الاصفهاني «قده» أشكل على الوجوه الثلاثة لإثبات وجوب تحصيل الغرض، أما الوجه الاول: وهو دعوى الوجوب العقلي النفسي، فقد اشكل عليه: بانه فرع قيام حجة على الغرض، ولا حجة في المقام بعد الانحلال.

واما الوجوب العقلي المقدمي فقد اشكل عليه بانه: لو كان الغرض فعلياً لوجب على المولى جعل الاحتياط، وذكرنا فيما سبق الملاحظة عليه.

ويلاحظ عليه ثانياً: إذا كان تحصيل الغرض واجبا لأجل سقوط الأمر بلحاظ ان وجوبه وجوب مقدمي، فبناء على ذلك فالمدار على سقوط الأمر بلا حاجة للبحث عن وجوب تحصيل الغرض. إذ ما دام وجوبه مجرد مقدمة لإسقاط الامر، فالمدار حينئذ على اسقاط الامر، فإذا ثبت بالانحلال سقوط الأمر بإتيان الاقل فلا موجب بعدئذٍ لتحصيل الغرض، ولا حاجة إلى دعوى أن فعلية الأمر بالأقل تكشف عن فعلية الغرض في الاقل.

وأما الوجه الثالث: وهو دعوى الوجوب الشرعي لتحصيل الغرض، فقد سلم به في أحد الفرضين وهو ما إذا كان الأمر الشرعي مستندا لقضية من قضايا الحسن والقبح العقليين.

ولكن يلاحظ عليه:

انه حتى لو افترضنا ان الأمر الشرعي مستند إلى حسن العدل أو قبح الظلم، مثلا: إذا افترضنا أن الشارع إنما أمر بالانفاق على الوالدين في فرض حاجتهما لأن الانفاق عليهما عدل والعدل حسن، أو حكم الشارع بحرمة زجر الوالدين، لأن زجر الوالدين ظلم والظلم قبيح، فهذا لا يعني سراية الوجوب للعلة، أو سراية الوجوب الشرعي للعلة، أي سراية الوجوب الشرعي للعدل، أو سراية الحرمة الشرعية للظلم، لما ذكره هو «قده» في بحث الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، انه إذا حكم العقل بشيء لم يحكم الشرع على طبقه بما هو شارع، وإنما حكم على طبقه بما هو عاقل، فاذا اطبق العقلاء على حسن العدل أو قبح الظلم، فغايته ان الشرع بما هو عاقل يدرك ما ادركوه، لا انه بما هو شارع يثيب ويعاقب حرم أو جهل، هذا مما لا تقتضيه الملازمة، لذلك وجوب شيء لكونه عدلا لا يعني وجوب الغرض شرعاً، وحرمة شيء لكونه ظلما لا يعني حرمة الغرض شرعاً، لأن ذلك مبني على قاعدة الملازمة وهو مما لا يلتزم بها «قده» كما هو الصحيح.

فتحصّل من ذلك:

أنّ شبهة الغرض التي ذكرها صاحب الكفاية «قده» منعاً لجريان البراءة عن وجوب الاكثر غير تامة. هذا تمام الكلام في جريان البراءة العقلية عند دوران الواجب بين الاقل والاكثر من حيث الاجزاء.

ولكن هل تجري البراءة الشرعية على فرض عدم جريان البراءة العقلية أم لا؟

فالكلام هنا في مقامين: المقام الاول: في بيان المقتضي، البيان الثاني: في ذكر المانع.

أما المقام الاول: وهو إذا دار أمر الصلاة بين تسعة وعشرة من الاجزاء فهل تجري البراءة الشرعية عن العاشر المشكوك أم لا؟. فهنا عدّة أمور لابد من الالتفات اليها:

الامر الاول: اختلف الاعلام في مجرى البراءة، فهناك من أجرى البراءة عن وجوب الاكثر، يعني وجوب الجزء العاشر كما هو المعروف، وهناك من اجرى البراءة عن الجزئية كما صنع صاحب الكفاية «قده» حيث اجرى البراءة الشرعية عن جزئية الجزء المشكوك، وهناك من اجرى البراءة عن الوجوب الضمني، حيث ادعى أن الأمر بالمركب ينحل إلى أوامر ضمنية بعدد الاجزاء فيشك في أمر ضمني بالجزء المشكوك، فتجري البراءة عنه. وهناك من اجرى البراءة عن التقيد كما صنع السيد الخوئي «قده» بمعنى انه نشك هل ان التسعة التي أمر بها الشارع أمر بها على نحو اللا بشرط أو أمر بها على نحو البشرط شيء، يعني بشرط العاشر، فتقيد التسعة بالعاشر مشكوك وهو مجرى للبراءة، وليس في ذلك إشكال كما اوضح في مصباح الاصول. باعتبار انه وان كان مصب التقيد هو الصلاة ليس المكلف، أي لا ندري ان الصلاة هل هي متقيدة بالعاشر أم لا؟ فنجري البراءة عن تقيد الصلاة بالعاشر، الا ان اجراء البراءة عن تقيد الصلاة لا يعني ان المكلف اجنبي عن هذه البراءة، لأننا نجري البراءة عن تقيد الصلاة بالعاشر في حق المكلف، بالنتيجة المكلف طرف للأصل، فلا معنى لما اشكل عليه بعض تلامذته واعتبر هذا اشكالا عظيما، من انه إذا كنتم تجرون البراءة عن نفس المكلف، بأن تقولوا نجري البراءة عن وجوب الجزء العاشر في حق المكلف، أو تجرون البراءة الوجوب الضمني للجزء العاشر في حق المكلف، هذا صحيح، لأنه بالنتيجة صار اجراء البراءة في حق المكلف معناه عدم وجوب الاحتياط عليه، لأنه لا يجب على المكلف الاحتياط من جهة المشكوك، سواء كان المشكوك هو وجوب العاشر أو كان المشكوك هو الوجوب الضمني للجزء العاشر، اما ان تجروا البراءة عن التقيد فالمكلف اجنبي لأن طرف التقيد هو الصلاة، فلا تدرون هل الصلاة مقيدة بالعاشر أم ليست مقيدة؟، فجرت البراءة عن التقيد، فماذا استفاد المكلف من ذلك؟! الكلام انه عندما تجري البراءة عن تقيد الصلاة بالجزء العاشر المشكوك يعني الصلاة الواجبة على المكلف ليست متقيدة بالجزء العاشر، فاذا كان كذلك فالمكلف طرف لجريان الاصل، ومقتضى كون المكلف طرفا لجريان الاصل عدم وجوب الاحتياط عليه بالنسبة إلى المشكوك.

الامر الثاني: ان سيدنا «قده» في مصباح الاصول أفاد: بأن العلم الإجمالي اما بوجوب التسعة على نحو اللا بشرط أو وجوب التسعة على نحو البشرط شيء مجرى لتعارض الأصول بلحاظ الاستصحاب، بمعنى: ان استصحاب عدم وجوب التسعة بنحو البشرط شيء معارض باستصحاب عدم وجوب التسعة بنحو اللا بشرط، وبعد تعارض الاستصحابين، تصل النوبة للبراءة، وحيث ان البراءة اصل طولي ينحل به العلم الاجمالي لجريانه في احد الطرفين بلا معارض، لأنه إذا دار الأمر بين اللا بشرط والبشرط، فالبراءة لا تجري عن اللا بشرط، لأن اللا بشرط مساوق للسعة وارخاء العنان، فاجراء البراءة عنه خلاف الامتنان، اذن تجري البراءة عن البشرط حيث ان فيه ضيقا وكلفة بلا معارض، فينحل العلم الاجمالي حيث جرى الاصل الطولي في احد طرفيه بلا معارض.

ولكن يلاحظ على ما افاده «قده»:

أولاً: جريان استصحاب عدم وجوب الاقل على نحو اللا بشرط لا يجري، لأنه ما هو الغرض من هذا الاستصحاب، فإن استصحاب عدم وجوب الاقل بنحو البشرط شيء واضح اثره وهو عدم وجوب الاتيان بالاكثر، اما استصحاب عدم وجوب الاقل على نحو اللا بشرط فما هو الهدف منه؟ هل الهدف منه اثبات وجوب الاكثر؟ فهذا اصل مثبت. أم الهدف منه الترخيص في ترك الأقل؟ والمفروض ان ترك الاقل مساوق للمخالفة القطعية للمعلوم بالإجمال، إذن استصحاب عدم وجوب الاقل بنحو اللا بشرط غير جاري في نفسه أصلان لأنه لا اثر له، فينحصر الاثر في استصحاب عدم وجوب الاقل بنحو البشرط شيء فينحل العلم الاجمالي.

ثانياً: عدم جريان البراءة كما قال «قده» أن البراءة لا تجري عن الاقل على نحو اللا بشرط، لأن اللا بشرطية مساوقة للسعة وارخاء العنان محل تأمل. لأنه اساساً اللا بشرطية لا تدخل العهدة، فبما انها لا تدخل العهدة من الاساس لانها مجرد وصف انتزاعي، فبما انها لا تدخل العهدة من الاساس فعدم جريان البراءة لانها لا يتعلق بها تكليف اصلا. لا لأن جريان البراءة فيها خلاف الامتنان، فسواء كان دليل البراءة واردا مورد الامتنان أم لم يكن واردا مورد الامتنان، فإن البراءة لا تجري عن اللا بشرطية لأن اللا بشرطية اصلا لا يدخل في العهدة ولا يتعلق به تكليف، غير معقول اصلا تعلق التكليف به، ليست المسألة مسألة امتنان واحسان، المسالة مسألة عدم معقولية، لأن اللا بشرطية وصف انتزاعي عن حد الوجوب فلا يعقل دخوله في العهدة من الاساس حتى تجري البراءة عنه، وبالتالي من يدعي جريان البراءة، لا عن اللا بشرطية في حد ذاتها، إنما يقول: اجري البراءة عن وجوب الاقل بوصف الاستقلالية كما ذكر سيد المنتقى «قده» فقال لا اجري البراءة عن اللا بشرطية، إنما اجري البراءة عن الاقل بوصف الاستقلالية لانني لا ادري هل ان الواجب على نحو الاستقلال هو الاقل أو الاكثر؟ فكما تجري البراءة عن الاكثر على نحو الاستقلال تجري البراءة عن الاقل على نحو الاستقلال، فمصب البراءة الأقل بنحو الاستقلال، لا اللا بشرطية حتى يقال بأن اللا بشرطية ليست مجرى للبراءة.

ولكن الكلام بأن الأقل سواء قلتم مجرى البراءة ذات الاقل، أو قلتم مجرى البراءة الأقل على نحو الاستقلالية، أو قلتم مجرى البراءة الاقل على نحو اللا بشرطية، على أية حال يأتي فيه الاشكال الذي ذكرناه في الاستصحاب وهو انه ما هو أثر هذه البراءة؟ باي نحو كانت؟ فإن كان الاثر اثبات الاكثر، فهي اصل مثبت، وان كان الاثر الترخيص في ترك الاقل، فهو ترخيص فيما يكون مساوقاً للمخالفة القطيعة. وبالتالي فلا وجه لجريان البراءة عن الاقل بنحو من الانحاء فتجري البراءة عن البشرط بلا معارض.

المطلب الثالث: ما هو وجه عدول صاحب الكفاية؟ حيث إن صاحب الكفاية «قده» لم يجر البراءة عن وجوب الاكثر لا استقلالا ولا ضمنا، وانما اجرى البراءة عن الجزئية، قال جزئية المشكوك مجرى للبراءة، فما هو وجه عدوله عن اجراء البراءة عن الاكثر إلى اجراء البراءة عن الجزئية المشكوكة. هل هناك وجه علمي للعدول؟

ذكر في البين وجهان:

الوجه الاول: وهو مؤلف من عدة مقدمات:

المقدمة الاولى: أن منظور صاحب الكفاية في اجراء البراءة هو جزئية الواجب الفعلي، لأنه من الواضح ان جزئية الواجب الجعلي ليس ثقلا على المكلف كي تكون مجرى للبراءة، كما قيل بشرطية الطهور مثلا: «لا صلاة الا بطهور» حيث قيل بأن شرطية الطهور شرطية مطلقة، ومقتضى اطلاقها ان فاقد الطهورين لا تجب عليه الصلاة، لأن اشتراط الصلاة بالطهور مطلق حتى لفرض العجز. فاذا لم يكن قادرا على الطهورين فلا تجب الصلاة عليه. فهذه الشرطية الجعلية ليست مجرى للبراءة لانها ليست ثقلا على المكلف، والدليل على انها ليست ثقلاً انها ثابتة حتى في حال عدم التكليف، حتى في حال عدم تكليف المكلف بالصلاة مع ذلك الشرطية ثابتة، هذا معناه ان الشرطية ليس منشأ ثقل حتى تكون مجرى للبراءة، فليس البحث في الجزئية والشرطية الجعلية، لانها ليست منشأ ثقل، بل البحث في جزئية الواجب الفعلي، أي بعد ما فرض فعلية وجوب الصلاة بحق المكلف لكونه بالغا عاقلاً ملتفتاً بعد فعلية وجوب الصلاة في حقه شككنا هل ان هذا العاشر جزء أم ليس بجزء من هذا الواجب الفعلي كان مجرى للبراءة.

والحمد لله رب العالمين.