الدرس 104

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن جريان البراءة الشرعية، يتصور تارة عن وجوب الاكثر استقلالاً، وأخرى عن الوجوب الضمني في الجزء المشكوك. وثالثة: عن تقيد الواجب بالمشكوك. ورابعة: جريان البراءة عن الجزئية.

وهذا ما اختاره صاحب الكفاية «قده» حيث أجرى البراءة عن جزئية الجزء المشكوك، وما أفاده في الكفاية صار مورداً لإشكالين:

الإشكال الاول: ما هو وجه عدوله عن جريان البراءة عن الحكم التكليفي وهو وجوب الاكثر الى جريانها في الحكم الوضعي وهو الجزئية؟

وقد افيد في كلمات الاعلام «قدس سرهم» وجهان لبيان سر عدول صاحب الكفاية:

الوجه الاول: أن يقال: بأن جريان البراءة عن وجوب الاكثر استقلالاً اصل معارض بجريان البراءة عن وجوب الاقل استقلالاً. فلأجل تعارض البراءة عن وجوب الاكثر مع جريان البراءة عن وجوب الاقل وصلت النوبة لجريان البراءة عن الجزئية، إذ لا معنى لمعارضتها بجريان البراءة عن الكلية، فجريان البراءة عن وجوب الاكثر معارض بجريان البراءة عن وجوب الاقل فوصلت النوبة الى جريان البراءة عن الجزئية كأصل طولي يوجب انحلال العلم الاجمالي حكماً.

ولكن هذا الذي افيد لا يلتقي مع مباني صاحب الكفاية «قده»، مضافاً لعدم الطولية بين الجزئية وبين الوجوب الاستقلالي للاكثر. بيان ذلك:

أولا: بأن صاحب الكفاية لا يرى انحلال العلم الاجمالي عقلاً لا حقيقةً ولا حكماً، أي من جهة هو يرى أن الاستقلالية والضمنية داخلة في حيّز التكليف، أي داخلة في متعلق التكليف، ولأجل ذلك لا يرى الانحلال الحقيقي كما ذهب اليه المحقق العراقي.

ومن جهة اخرى لا يرى الانحلال الحكمي وهو جريان البراءة عن الاكثر بلا معارض، لأجل شبهة الغرض التي سبق بيانها، فمن الناحية العقلية هو لا يرى الانحلال لا حقيقة لأن الاستقلالية والضمنية في متعلق التكليف، ولا حكما بمعنى جريان البراءة العقلية دون معارض، بمعنى انه قد استحكمت عنده شبهة الغرض.

هذا من ناحية العقل.

وأمّا من ناحية الشرع، يعني ان تجري البراءة الشرعية في أحد الطرفين بلا معارض، فهذا يبتني على مسلك الاقتضاء لا على مسلك العلية. فإذا كان صاحب الكفاية ممن يرى أن منجزية العلم الاجمالي على سبيل الاقتضاء، فهذه المنجزية تنحل لو جرى اصل شرعي في احد الطرفين بلا معارض، الا ان صاحب الكفاية لا يرى مسلك الاقتضاء، بل نقل عنه العراقي بعدة عبارات انه يرى مسلك العلية. بالتالي: العلم الاجمالي بوجوب الاكثر استقلالا أو وجوب الاقل استقلالا لا منحل عقلا ولا شرعاً، لا حقيقة ولا حكماً. فلا معنى ان يقال: ان صاحب الكفاية يرى تعارض جريان البراءة عن الاكثر مع جريان البراءة عن الاقل فتصل النوبة لجريان البراءة عن الجزئية وينحل به العلم الاجمالي، فإن هذا لا يلتقي مع مبانيه.

ثانياً: إنّ هذا التحليل مبني على أنّ الجزئية في طول وجوب الاكثر استقلالاً، فاذا قلنا بأن هناك جعلين: جعل في وجوب الاكثر استقلالا، وجعل للجزئية. بمعنى ان الجزئية مترتبة على جعل وجوب الأكثر استقلالاً، فبينهما طولية، فاذا كان بين الجزئية وبين وجوب الاكثر استقلالا طولية يصح هذا التحليل، حيث يجري الاصل أولا في المرتبة السابقة فإذا صار معارضاً جرى الاصل الطولي، فيقال: تجري البراءة عن وجوب الاكثر استقلالا وتعارض بجريان البراءة عن الاقل استقلالا وعندنا اصل طولي وهو جريان البراءة عن الجزئية وينحل به العلم الاجمالي، وذلك لأن اصالة البراءة عن الجزئية انما تكون اصلا طوليا لو كانت الجزئية مجعولة مترتبة على جعل وجوب الاكثر استقلالاً فيتم هذا التحليل، لكن هذا غير معلوم في مطالب الكفاية، لاختلاف الاعلام في بيان مراده. فهل ان صاحب الكفاية يدعي ان الشارع إذا امر بالاكثر استقلالا انتزعت الجزئية فتكون الجزئية في طول جعل وجوب الاكثر استقلالاً، فيتم هذا التحليل؟ أم ان صاحب الكفاية يرى ان الجزئية منتزعة من التقيد لا من جعل وجوب الاكثر استقلالا؟ بمعنى ان الشارع إذا امر بالأقل، مقيداً بهذا الجزء أنتزع من التقيد الذي هو حكم وضعي انتزع منه الجزئية، فالجزئية منتزعة من حكم وضعي لا منتزعة بالأمر بالأكثر استقلالاً. فإذن مراد صاحب الكفاية غير معلوم، وبالتالي لا يصح ان نقول: السر كل السر في عدول صاحب الكفاية عن جريان البراءة في الحكم التكليفي وهو وجوب الاكثر الى جريان البراءة في الحكم الوضعي وهو الجزئية ان صاحب الكفاية يرى ان الجزئية منتزعة من وجوب الاكثر استقلالاً. هذا الوجه الاول للعدول وقد تبين عدم تماميته.

الوجه الثاني _للعدول_: أن يقال بأن صاحب الكفاية تكرر عنده هذا النحو من المباني وهو حكومة دليل الاصل على ادلة الشرطية والجزئية، بيان ذلك:

أن صاحب الكفاية من المعروف عنه ان دليل اصالة الحل ودليل أصالة الطهارة يوسع ادلة الشرطية لما يشمل الحلية الظاهرية والطهارة الظاهرية، مثلا: إذا قال الشارع: لا تصل الا فيما يحل اكله، وشككنا ان جلد الارنب مما يحل اكله فتصح الصلاة فيه أو مما لا تحل؟ على نحو الشبهة الحكمية، فأصالة الحل تقول: جلد الارنب مما يحل أكله، فبأصالة الحل تتوسع دائرة الشرطية فتشمل ما حلَّ ظاهراً ببركة اصالة الحل، أو يقول: توضأ بماء طاهر، وشككنا ان الماء المستعمل في الاستنجاء طاهر أم نجس على نحو الشبهة الحكمية؟ فأصالة الطهارة توسع دائرة الشرطية لما كان طاهراً ظاهراً، فلأجل ذلك قد يقال: ان صاحب الكفاية في المقام يقول: ان دليل البراءة مضيّق كما ان دليل اصالة الحل موسع للشرط دليل البراءة مضيّق للشرط أو مضيق للجزء. كيف؟ مثلا: عندنا دليل يقول: «لا صلاة الا بفاتحة الكتاب»، وهذا الدليل يدل على الجزئية المطلقة لفاتحة الكتاب، وشككنا على نحو الشبهة الحكمية: هل ان فاتحة الكتاب جزء حال العجلة؟ كما ذهب المشهور الى عدم جزئية السورة التي بعدها حال العجلة؟! هل أن فاتحة الكتاب جزء حال العجلة أم لا؟ فهذا دائر مورد دوران بين الاقل والاكثر الارتباطيين من حيث الجزئية. هنا صاحب الكفاية يقول دليل البراءة «رفع عن امتي ما لا يعلمون» الذي يقول لا جزئية حال الشك _لانه تجري البراءة عن الجزئية_ يضيق دليل الجزئية وهو قوله: «لا صلاة الا بفاتحة الكتاب» بالجزئية حال العلم، فلا جزئية للفاتحة حال الشك، وبالتالي إذا تضيق دليل الجزئية بحال العلم فأصلاً لا فعلية للجزئية حال الشك، واذا لم يكن لها فعلي، فالعلم الاجمالي بأن الواجب اما الصلاة مع الفاتحة أو الصلاة بدونها ليس منجزاً لا لأنه منحل _لان صاحب الكفاية لا يرى الانحلال لا حقيقة ولا حكماً لا من ناحية عقلية ولا من ناحية شرعية_ بل لأن المعلوم بالإجمال ليس فعلياً بلحاظ ان جزئية فاتحة الكتاب ليست جزئية في حال الجهل بمقتضى حكومة حديث الرفع على دليل الجزئية. هذا الذي ذكره جمع منهم السيد الشهيد.

ولكن ما ذكره صاحب الكفاية في أصالة الحل واصالة الشرطية يمكن تبريره باعتبار أن لسان اصالة الحل لسان التنزيل «كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام» وكذلك دليل أصالة الطهارة: «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر» اما دليل البراءة فليس لسانه لسان التنزيل في قوله «رفع عن امتي ما لا يعلمون» كي يستفاد ان المجهول لا جزئية له اصلا فعلا، كي يقال بقياس دليل البراءة على دليل اصالة الحل وغيرها. فهناك ترديد في مؤدى صاحب الكفاية.

إذن تلخص لدينا: أننا ما وصلنا الى شيء في سرِّ عدول صاحب الكفاية عن جريان البراءة عن وجوب الاكثر الى جريان البراءة عن الجزئية. هذا الاشكال الاول في سر العدول لم يحل.

الإشكال الثاني _على كلام الكفاية_: بأن صاحب الكفاية اشكل على نفسه وهو انه: الجزئية امر انتزاعي، والانتزاعي لا يمكن رفعه الا برفع منشأ انتزاعه فلا يمكن رفع الجزئية بحديث الرفع حتى نرفع منشأ الانتزاع، ومنشأ الانتزاع هو الامر بالمركب أو الامر بالمقيد على أي نحو كما سبق الترديد، فإذا ارتفع الأمر بالصلاة _لأن منشأ الانتزاع هو هذا_ مع الجزء المشكوك، فما الدليل على وجوب الاقل؟ فنحن مرددون، هل الواجب الصلاة مع الفاتحة مطلقا؟ أو الواجب الصلاة مع الفاتحة لا في حال العجلة؟ نحن مرددون. قلنا لا يمكن رفع جزئية الفاتحة لانها امر انتزاعي الا برفع منشأ الانتزاع وهو الامر بالصلاة مع الفاتحة مطلقاً، هذا لابد ان يرتفع، فإذا رفعنا الامر بالصلاة مع الفاتحة مطلقا بحديث الرفع، فما الدليل على فعلية الامر بالاقل، يعني فعلية الامر بالصلاة مع الفاتحة لا في حال العجلة؟

أجاب عنه صاحب الكفاية: ان نسبة حديث الرفع للأدلة الأولية نسبة الاستثناء للمستثنى منه، وبما أن النسبة نسبة الاستثناء اذن فالدليل الأول هو الدال على بقاء فعلية الامر بالاقل بعد ارتفاع الامر بالاكثر.

اختلف الاعلام فيه، ومنهم ابو الحسن المشكيني والمحقق الاصفهاني وغيره.

واحسن التفسيرات لعبارة الكفاية: أن مقصوده ان هناك ثلاثة أدلة:

الدليل الاول: قوله «اقم الصلاة» من دون تعيين، وهو دال على فعلية الامر بالصلاة.

الدليل الثاني: «لا صلاة الا بفاتحة الكتابة». الدال على جزئية الفاتحة. الدليل الثالث: «حديث الرفع»، لأننا الآن مترددون أن جزئية الفاتحة تشمل حال العجلة أم لا تشمل؟ جاء حديث الرفع وقص جزئية الفاتحة حال العجلة، فالذي خرج هو جزئية الفاتحة حال العجلة، أي ان الدليل الثالث وهو «حديث الرفع» ضيّق الدليل الثاني وهو «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» فأخرج منه الجزئية حال العجلة، فما هو الدليل على بقاء الامر بالصلاة مع فاتحة الكتاب لا في حال العجلة؟ الدليل الأول: وهو الأمر بالصلاة. فنتمسك بقوله: «اقم الصلاة» لإثبات فعلية الامر بالأقل، أي الامر بالصلاة مع فاتحة الكتاب لا في حال العجلة.

هذا الكلام من صاحب الكفاية «قده» أُشكل عليه من حيث السؤال ومن حيث الجواب: أما الاشكال من حيث السؤال: فهو اشكال السيد الخوئي، فقال، أصل الاشكال من صاحب الكفاية غلط، فضلا عن الجواب، الإشكال في غير محله، لأنه هناك فرق بين الرفع الواقعي والرفع الظاهري، فلو كان هناك رفع واقعي لجاء الاشكال، مثلاً في حال النسيان، مثلا في حال الاضطرار، شخص نسي الفاتحة هل هي جزء حال النسيان أم لا؟ شخص اضطر لترك الفاتحة لكون غير متعلم الوقت ضيق في حال الاضطرار وحال النسيان الرفع واقعي، لأن قوله: «رفع عن امتي النسيان» و«رفع عن امتي اما اضطروا اليه» ظاهر في الرفع الواقعي، فدليل رفع النسيان ودليل رفع الاضطرار رفع الجزئية واقعاً، وحيث إنه رفع الجزئية واقعاً، فارتفع الامر بالمركب واقعاً، لذلك يصح السؤال هنا: إذا ارتفع الامر بالمركب واقعاً فهما هو الدليل على وجوب الاقل واقعاً؟ فما هو الدليل على وجوب الاقل واقعاً. فإشكالك يتم فيما إذا كان الرفع واقعياً.

أمّا محل كلامنا في الرفع الظاهري يعني رفع وجوب الاحتياط، لا ندري أن الفاتحة جزء حتى في حال العجلة أم لا؟

حديث الرفع يقول لا يجب عليك الاحتياط. فمفاد حديث الرفع ليس الا رفع وجوب الاحتياط، وهذا هو معنى ان الرفع ظاهري، فاذا كان الرفع ظاهرياً فغاية ما في الباب ان الجزئية لا يمكن رفعها ظاهراً الا برفع منشأ الانتزاع ظاهراً، إلا أن الامر ارتفع ظاهراً لا واقعاً، وبالتالي فما هو الدليل على فعلية الامر بالاقل، يقول السيد الدليل على فعلية الامر بالاقل، نفس العلم الاجمالي، لانك تعلم اجمالا بواجب فعلي، فأنت تعلم من الاول بضرس قاطع ان هنا واجب فعلي لكن لا تعلم هل هو الاقل أم الاكثر؟ فاذا ارتفع الامر بالاكثر ظاهرا، فالدليل على فعلية الامر بالاقل نفس العلم الاجمالي بلا حاجة الى الدوران.

فما افاده صاحب الكفاية لا حاجة له، لأن العلم بالفعلية بنفس العلم الاجمالي. بل لا معنى للإشكال في ذلك مادام الرفع رفعا ظاهرياً.

والحمد لله رب العالمين.