الدرس 105

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: ان صاحب الكفاية «قده» افاد بأن رفع الجزئية يقتضي رفع الامر بالمركب، وبعد رفع الامر بالمركب فلا دليل على الأمر بالأقل، وأجاب عن ذلك: بأن نسبة حديث الرفع للأدلة الأولية نسبة الاستثناء، وقلنا بأن كلامه «قده» مورد لإشكالات:

الإشكال الاول ما ذكره سيدنا الخوئي «قده»: من ان لدينا علماً إجمالياً بواجب فعلي مردد بين الأقل والاكثر. فإذا لم يكن ذلك الواجب هو الاكثر بمقتضى حديث الرفع، فيتعين أن يكون الواجب هو الاقل، بلا حاجة الى ما افاده من ان نسبة حديث الرفع للأدلة الاولية نسبة الاستثناء.

ولكن علّق السيد الشهيد قده على كلام أستاذه:

بأن ما ذكره لا يلتقي مع مباني صاحب الكفاية «قده»، وذلك لأمور ثلاثة:

الأمر الاول: أن مبنى صاحب الكفاية في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري أن الترخيص مساوق لنفي الفعلية، فلا يعقل الترخيص الظاهري في شيء مع كونه حراماً فعلاً، لا يجتمعان، مثلاً: إذا شك في أن التدخين حرام أم لا فجريان أصالة الحل أو أصالة البراءة لإثبات الترخيص الظاهري في التدخين يعني ان حرمة التدخين لو كانت ثابتة واقعا لم تكن فعلية، لا تجتمع الحرمة الفعلية الواقعية مع الترخيص الظاهري، لأن الحرمة الفعلية معناها: وجود إرادة لزومية بالترك، ولا يجتمع ارادة لزومية بالترك فعلاً مع الترخيص به فعلاً، فالترخيص فيه فعلا لا يجتمع مع ارادة لزومية بتركه فعلا، اذن لا محالة جريان البراءة يعني عدم الفعلية، فاذا جرت البراءة عن الجزئية والجزئية منتزعة من الامر بالاكثر معناه عدم فعلية الامر بالاكثر واقعاً، فإن الترخيص مساوق لنفي الفعلية الواقعية فجريان البراءة عن الجزئية ليس رفع وجوب الاحتياط كما يقول السيد الخوئي في اشكاله على صاحب الكفاية، بل معنى جريان البراءة عن الجزئية بنظر صاحب الكفاية هو رفع فعلية الامر بالاكثر فلا فعلية له واقعاً لا مجرد عدم وجوب الاحتياط.

الأمر الثاني: إذا لم يكن الامر بالاكثر فعلياً، لم يكن الامر بالاقل فعليا، لما ذكره صاحب الكفاية في إشكاله على الانحلال، فإنه يقول: مقتضى الارتباطية بين أجزاء الواجب بين أجزاء المركب التلازم بين الجزئيات جعلاً وفعلية، فلا يعقل التبعيض، بأن تكون بعض الجزئيات فعلية وبعضها شأنية، أو بعضها مجعولة وبعضها غير مجعولة. فما دام هناك واجب ارتباطي واحد، اذن وكان الامر بالاكثر هو الواقعي وقد افترضنا ان الامر بالاكثر ليس فعليا اذن الامر بالاقل ليس فعليا، إذ لا يعقل التبعض في الفعلية بين اجزاء المركب الواحد، اما جميع الاجزاء فعلية أو لا، فإذا افترضتم ان الامر بالاكثر لو كان هو الواقع ليس فعليا اذن الامر بالاقل لا دليل على فعليته، لذلك صاحب الكفاية يتعارض تماماً مطلبه مع مطلب السيد الخوئي، حيث ان السيد الخوئي «قده» يرى التوسط في الفعلية، يعني الأمر بالأكثر لو كان ثابتاً واقعاً لكان فعلياً، لكن لا فعلياً من طرف الأكثر بل هو فعلي من طرف الأقل، الذي عبّرنا عنه بالتوسط في الفعلية، فعلي من جهة بعض اجزائه وان لم يكن فعليا من جهة بعض اجزائه الاخرى.

اما صاحب الكفاية «قده» يقول: هذا امر غير معقول، لا يعقل التوسط في الفعلية، إذن بعد ارتفاع الامر بالاكثر واقعاً _ يعني ارتفاعه عن الفعلية_ فلا دليل على فعلية الامر بالاقل.

الامر الثالث: ما هو الوجه المقترح عند صاحب الكفاية لإثبات فعلية الامر بالأقل؟

قال السيد الشهيد في تفسيره وتقريبه: أن لدينا أمراً فعلياً بالصلاة، وهو قوله «اقم الصلاة» وهذا امر فعلي لا اشكال فيه، وترددت الصلاة بين الاقل والاكثر، وحيث جاءنا دليل وقال لنا بأن الاكثر ليس فعليا وهو دليل البراءة، حيث إن دليل البراءة يرفع الفعلية كما بيّنا. إذن بعد ارتفاع فعلية الاكثر بدليل البراءة ونعلم من الخارج ان لا توسط ولا تبعيض في الفعلية فالدليل على فعلية الامر بالاقل هو الدليل الاول وهو قوله «اقم الصلاة». فإذن بالنتيجة: الدليل على فعلية الامر بالاقل نفس قوله «اقم الصلاة» لا العلم الإجمالي، لانه لا يوجد علم اجمال بفعلية الأقل، إذا ارتفع الامر بالاكثر عن الفعلية ارتفع الامر بالاقل عن الفعلية فكيف يكون لنا علم اجمالي؟!

وما ذكره السيد الشهيد «قده» محل تأمل من جهتين:

الجهة الأولى: جهة كبروية، ذكرناها في بحث الاصول. وهي انه: إذا كان لدينا لفظ مردد بين معنيين، وعلمنا بأن احدهما المعين غير مراد قطعا فهل يكون اللفظ حجة في الآخر أم لا؟

مثلا: إذا قال المولى: اكرم جارك، والجار مردد بين شخصين زيد وبكر، وانا اعلم ان زيدا لا يجب اكرامه، هل ان قوله: اكرم جارك، بعد العلم بأن زيدا لا يجب اكرامه يكون ظاهرا في وجوب اكرام بكر أم لا؟ فهنا اختلف الاعلام.

ونحن نذكر ما هو المختار كي نبني عليه الاشكال، نقول في المقام: تارة يكون يقوم دليل لفظي خاص على نفي احدهما، كما إذا قال اكرم جارك، فقام دليل لفظي خاص على انه لا يجب اكرام زيد، فنقول: هذا الدليل الخاص له مدلو التزامي، وهو انه: ان كان الجار واجب الاكرام فهو أكرم، لان الدليل يقول لا يجب اكرام زيد. فنفس هذا الدليل الخاص النافي لوجوب اكرام زيد بالمطابقة دال بالالتزام أنه ان كان هناك دليل على اكرام الجار فالمقصود به بكر، وحيث ان لدينا دليلا يأمر باكرام الجار وهو قوله «اكرم جارك» إذن المقصود به بكر. هذا واضح إذا كان لدينا دليل خاص.

اما إذا لم يكن لدينا دليل خاص، بل إما نعلم من الخارج أو لدينا دليل عام، قال المولى «اكرم جارك»، نحن علمنا بدون دليل لفظي بحيث ينعقد له مدلول التزامي، علمنا من الخارج ان زيداً لا يجب اكرامه، أو قام لدينا دليل عام قال المولى: «اكرم جارك»، وقال في دليل آخر: لا تكرم المتجاهر بالفسق، وكان زيداً متجاهرا بالفسق، هنا في هذا الفرض الدليل العام فضلا عن الدليل اللبي، الدليل اللفظي العام وهو «لا تكرم المتجاهر بالفسق» ليس له دلالة إلتزامية على انه ان كان جار يجب اكرامه فهو بكر، اصلا لا علاقة له لانه ليس ناظرا لهذا الدليل وهو اكرم جارك، ولا متعرضا له إطلاقاً، فلا ينعقد للدليل العام مدلول التزامي بحيث يكون الاول ظاهرا في أن المراد به بكر.

تطبيق ذلك على المقام:

قال المولى: «اقم الصلاة» هذا واجب فعلي والصلاة مردد بين معنيين، هل مراده بالصلاة هو الاقل أو مراده بالصلاة هو الاكثر، ولم يأتنا دليل لفظي في باب الصلاة يقول لنا بأن الاكثر من الصلاة لا يجب أو غير فعلي حتى ينعقد له مدلول التزامي انه ان كانت الصلاة واجبة فعلا فهي الاقل، لا يوجد عندنا هذا الدليل، وانما عندنا عام يشمل باب الصلاة وغيره «رفع عن امتي ما لا يعلمون». ومن الواضح ان هذا الدليل العام ليس ناظرا لباب الصلاة متعرضا لتفاصيلها كي ينعقد له مدلول التزامي، فيقال المدلول الالتزامي قوله «رفع عن امتي ما لا يعلمون» انه ان كان هناك واجب فعلي فهو الاقل. إذن بالنتيجة: كيف نرجع لقوله «اقم الصلاة» لإثبات فعلية الأمر بالأقل؟ مع أنه مردد بحسب المراد الاستعمالي منه بين الأقل والأكثر.

الإشكال الثاني: ان ما ذكره السيد الشهيد اصراراً أن صاحب الكفاية لا يرى التوسط في الفعلية، هذا محل تأمل. ولم نجد عبارة في الكفاية شاهدة على نفي التوسط في الفعلية، وبالتالي نقول: ما دمنا نحتمل ثبوتاً امكان التبعض في الفعلية لأننا نحتمل ان الملاك الواحد كما ذكر المحقق الاصفهاني مراتب، فهناك ملاك واحد ولكن ذو مراتب، فيمكن ان يكون هذا الملاك الواحد فعليا بلحاظ مرتبة غير فعلي بلحاظ مرتبة أخرى، فذلك الملاك الواحي فعلي في المرتبة الأقل غير فعلي في الاكثر، بعد أن احتملنا ذلك ثبوتا ولا برهان على امتناعه جاء كلام السيد الخوئي، فانتم بالنتيجة تعلمون بواجب فعلي مردد بين الاقل والأكثر أم لا؟ مفروض البحث هو هذا، هو ان لدينا بواجب فعلي، لا نتكلم على واجب جعلي ما وصل الى مرحلة الفعلية، نتكلم اننا نعلم اجمالا بواجب فعلي اما الاقل أو الاكثر، والمفروض ان الاكثر قد ارتفعت فعليته بحديث الرفع فحديث الرفع يقول: ان كان الواجب هو الاكثر واقعا فلا فعلية له. وعلمنا مسبقا ان الواجب الفعلي اما الاقل أو الاكثر والتبعض في الفعلية امر ممكن، إذن بالنتيجة مقتضى العلم الاجمالي ان الفعلي اما الاكثر أو الاقل هو الأقل بعد نفي الفعلية بدليل البراءة. فما ذكره السيد الشهيد «قده» محل تأمل ومنع.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقق الاصفهاني «قده». ومحصّله: انه قرّب كلام استاذه بأمرين:

الأمر الاول: قال فرق بين الجزئية في عالم الغرض والجزئية في عالم الوجوب والطلب، فالجزئية في عالم الغرض واقعية، فان دخل السورة أو الفاتحة في الملاك هذا امر واقعي تكويني وليس مجعولا من قبل الشارع، لكن الجزئية في مقام الطلب وهي هل ان جزئية السورة مجعولة أم لا، امر جعلي وليس امرا واقعياً، فمقتضى ان الجزئية في مقام الطلب مجعولة، ورود السؤال؟ هل هي مجعول استقلالاً؟ أم مجعولة تبعاً؟

قال المحقق الاصفهاني لا يمكن جعلا استقلالاً، لان معنى الجزئية يعني وجود مركب، فإن الجزئية والكلية من المتضايفين والمتضايفان متكافئان قوة وفعلا، فمتى ما فرضتم جزئية فرضتم كلية، يعني فرضتم وجود مركب، فلا يمكن جعل الجزئية استقلالاً، الجزئية من أي شيء؟ فلابد من فرض وجود مركب تجعل فيه الجزئية، إذن فالجزئية لا يعقل جعلها استقلالا فلا محالة مجعولة تبعاً، فالجزئية مجعولة بجعل الامر بالمركب، فمتى ما جعل المولى الامر بالمركب انجعل الجزئية تبعاً، وبناء على ذلك فالجزئية لها وضع فلها رفع، فان وضعها شرعاً بوضع الامر بالمركب، ورفعها برفعه. فلها وضع ولها رفع شرعي.

الأمر الثاني: بعد ما كان بين الجزئية والامر بالمركب سببية، بمعنى ان الامر بالمركب سبب لجعل الجزئية ومن الواضح ان السبب والمسبب وجودان، إذ لا يعقل ان يكون السبب والمسبب وجودا واحدا، فإذا قلتم بأن هناك سبب وهو جعل الامر بالمركب ومسبب وهو الجزئية، اذن هما وجودان، فاذا كان اثنين وجودين فهذان الوجودان وان كانا متلازمين، لا يتصور وجود امر بمركب بدون جزئية، ولا يتصور وجود جزئية بدون امر بمركب، فهذا الوجودان وان كانا متلازمين واقعاً لكن يمكن التفكيك بينهما حكماً، فالتلازم في عالم الواقع لا يعني التلازم في عالم الحكم والاثر الشرعي، يمكن التفكيك بينهما. فنقول: الامر بالاكثر الذي هو السبب لعله معلوم، فاذا كان معلوما لم يكن مجرى للبراءة. والجزئية لعلها مشكوكة فاذا كانت مشكوكة كانت مجرى للبراءة، فيمكن ان لا تجري البراءة في منشأ الانتزاع وهو الامر بالاكثر. وتجري في العنوان المنتزع، فالتفكيك بين منشأ الانتزاع والمتزع في مرحلة الاثر أو في مرحلة الحكم الظاهري امر ممكن. فيقول المولى: الأمر بالاكثر ليس مشكوك، بل معلوم اجمالاً، لانك تعلم اجمالا اما بالامر بالاكثر أو الامر بالاقل، واستصحاب عدم هذا معارض باستصحاب عدم هذا، والبراءة عن هذا معارضة بالبراءة عن هذا، فلا تجري البراءة عن وجوب الاكثر لانه معلوم اجمالاً.

لكن الجزئية بما أنها مجهولة، مشكوكة، لا ندري ان جزئية هذا وهي السورة مجعولة أم لا؟ وجزئيات البقية أمر معلوم، انما الكلام في جزئية هذا الشيء وهو السورة هل هو مجعول أم لا؟ تجري البراءة عنه، فاذا جرت البراءة عنه ارتفع الامر بالمركب لا مباشرة بل تبعا لرفع الجزئية. فدليل الرفع إن لم يشمل الامر بالمركب مباشرة لكنه شمله تبعاً، هذا مراد استاذه صاحب الكفاية «قده». فما هو جوابه؟

والحمد لله رب العالمين.