الدرس 106

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

بعد ما أفاد المحقق الأصفهاني «قده» في توضيح مرام أستاذه صاحب الكفاية «قده» بأن هناك مجعولين: أحدهما وجوب الاكثر، والآخر: الجزئية. وبين المجعولين سببية ومسببية، فبما ان الجزئية مجعول مسبب عن جعل وجوب الاكثر، فلا يمكن رفعه الا برفع سببه، لذلك لا يمكن رفع الجزئية الا برفع سببها وهو وجوب الاكثر، فاذا ارتفع وجوب الاكثر فما هو الدليل على وجوب الأقل؟

فهنا افاد بان الدليل على وجوب الاقل، الى ان نسبة حديث الرفع لقوله «اقم الصلاة» نسبة الاستثناء للمستثنى منه، ومقتضى هذه النسبة انه: مع ارتفاع وجوب الاكثر ظاهراً يثبت وجوب الاقل بنفس قوله «اقيموا الصلاة». هذا ما قرره في شرح مراد استاذه.

ثم اشكل اليه بثلاثة إشكالات:

الاشكال الاول: وهو مؤلف من امور اربعة:

الأمر الاول: هناك فرق بين عوارض الوجود وعوارض الماهية، أي ان هناك فرقا بين المجعول في التبع والمجعول في العرض. فالمجعول في التبع، هو في عوارض الوجود، مثلاً: من عوارض الجسم الحركة، فهناك وجودان، وجود الجسم ووجود الحركة وأحدهما تابع للآخر، فجعل الوجود للجسم جعل للحركة لكن بالتبع، فبينهما علاقة التبعية.

إما بالنسبة لعوارض الماهية، مثلاً الزوجية من عوارض الاربعة، فهي من عوارض ماهية الاربعة لا من عوارض وجودها، ولذلك ليس جعل الأربعة جعلاً للزوجية بالتبع، اذ ليس هناك مجعولان، وإنما مجعول واحد، أي ان الزوجية والأربعة وإن كانا متغايرين مفهوما لكنهما مجعولا واحد، فهما متحدان وجودا وان كانا متغايرين مفهوماً، بخلاف الجسم والحركة فإنهما متغايران مفهوما ووجودا وان كان وجود الحركة تابع لوجود الجسم، لذلك هناك فرق بين المجعول في التبع كما في عوارض الوجود، والمجعول بالعرض كما في عوارض الماهية، فان الزوجية في الواقع ليست مجعولة، ونسبة الجعل اليه بالعرض والمجال، وإلا ليس هي الا أمراً مجعولاً.

الأمر الثاني: نسبة الوجوب للواجب كنسبة الإرادة للمراد وهي: نسبة عوارض الماهية لا عوارض الوجود لذلك هما موجودان بوجود واحد.

بيان ذلك: إذا أراد الإنسان شيئاً كما اذا اراد شرب الماء مثلاً، فالإرادة والمراد بالذات _لا نتكلم على المراد بالعرض وهو الشرب الخارج، كلامنا الشرب في مرحلة الإرادة_ وان كان هناك تغاير مفهوم، فالإرادة شيء وشرب الماء في افق النفس شيئاً آخر مفهوماً، لكنهما متحدان وجودا أي ليس في افق النفس ارادة ومراد بل الإرادة هي المراد، العلم هو المعلوم، التصور هو المتصور، فليس في افق النفس شيئان ارادة ومراد، بل هما وجود واحد وان كانا متغايرين مفهوماً، لذلك نقول: نسبة الإرادة للمراد نسبة عوارض المهية لا نسبة الوجود، لأنه لم يتخلل بينهما وجود، بل هما موجودان بوجود واحد. كذلك الوجوب والواجب، فالمولى عندما يقول في نفسه، او ينشأ في نفسه هذه القضية وهي: تجب الصلاة، فليس هناك وجودان في افق الاعتبار، بل وجود واحد، صحيح هناك مفهومان، مفهوم الوجوب ومفهوم الصلاة، اما هذان المفهومان موجودان في افق الاعتبار في وجود واحد، وهذا معناه ان نسبة الوجوب للصلاة نسبة عوارض المهيّة، يعني لم يتخلل بينهما وجود، او كما يعبّر في مكان آخر، نسبة الوجود للمهيّة، أي الوجوب اوجد الصلاة في عالم الاعتبار، فنسبة الوجوب للصلاة كنسبة الوجود للمهية. إذن فليس هناك الا وجود واحد.

الأمر الثالث: إذا كان متعلق الحكم ليس له وجود غير وجود الحكم، فمن باب أولى صفات المتعلق، اذا كان نفس المتعلق وهو الصلاة ليس له وجود غير الوجوب، فمن باب اولى صفات المتعلق ككون الصلاة أقل او كون الصلاة اكثر، ككون الصلاة كلاًّ او كونها جزءاً، فصفات المتعلق كالمتعلق موجودة بوجود الحكم بوجود واحد، لأجل ذلك عندما يقوم المولى بإيجاب الصلاة، هناك وجوب وهناك صلاة، والمفروض انهما موجودان بوجود واحد، إذن المولى عندما يقول: تجب الصلاة المؤلفة من عشرة أجزاء، فإن جزئية الجزء العاشر ليس موجودا غير وجود الصلاة، ليس هناك مجعولان، مجعول وهو وجود الصلاة، ومجعول تابع له وهو جزئية الجزء العاشر، بل ليست جزئية العاشر الا نفس الصلاة الواجبة، يعني موجودان بوجود واحد في عالم الاعتبار، وانما ينسب الوجود بالأصالة او بالذات للصلاة، وينسب الوجود للجزئية بالعرض والمجاز والا هما موجودان بوجود واحد.

الامر الرابع _الأخير_: بناء على ذلك: أي أن الجزئية ليست مجعولا أبداً، بل مجعولة بجعل وجوب الصلاة عينا وليست شيئا آخر وان كانت مغايرة مفهوما، مفهوم الجزئية غير مفهوم وجوب الصلاة، اما هما مجعولان بجعل واحد. لذلك الجزئية نسبتها إلى الصلاة نسبة عوارض المهيّة لا عوارض الوجود يعني لم يتخلل بينهما وجود، فهناك فرق بين وجوب الجزئية وبين وجوب المقدمة على القول بأن المقدمة واجبة وجوباً غيرياً. حيث أن وجوب المقدمة غير وجوب ذي المقدمة، فهناك وجوبات، وجوب لذي المقدمة وهو وجوب نفسي، ووجوب للمقدمة وهو وجوب غيري، فالوجوب الغيري تابع للوجوب النفسي، والوجوب الغيري تابع للوجوب النفسي، فبينهما تبعية لكنهما وجوبان وجعلان، فهنا نستطيع ان نقول بأن الوجوب الغيري للمقدمة بالنسبة للوجوب النفسي لذي المقدمة من عوارض الوجود. لأنهما جعلان.

أمّا النسبة بين الجزئية ووجوب الصلاة، ليسا جعلين بينهما عقلة التبعية وانما جعل واحد، فنسبة الجزئية للواجب نسبة عوارض المهية اذ لم يتخلل بينهما جعلان. وهذا هو معنى الانتزاعية التي سلكها الشيخ الاعظم «قده» بين الاحكام التكليفية والأحكام الوضعية، لأنه تقرر في الفلسفة ان الأمور الانتزاعية ما هي الا مجعولات بالعرض، وليس مجعولات بالتبع، فمثلاً: جعل السقف جعل للفوقية لكن الفوقية ليست وجوداً تابعا لوجود السقف، أصلاً الفوقية غير موجودة، وإنما ينسب السقف بالذات وينسب للفوقية بالعرض والمجاز، وإلا فالوجود هو للسقف وليس للفوقية. فالفوقية مجعولة بالعرض لا مجعولة بالتبع، كذلك الجزئية بالنسبة الى الأمر بالمركب.

بناء على هذه: إذا لم يكن للجزئية جعل وراء جعل الوجوب النفسي للمركب، فكيف يدعي الآخوند بانه: يتعارض الوجوب النفسي للأكثر، مع البراءة عن الوجوب النفسي للأقل، فتصل النوبة للبراءة عن الجزئية، ولا تعارض بالبراءة عن جزئية الباقي لان جزئية الباقي معلومة؟

الجواب: ليس للجزئية جعل وراء الوجوب النفسي للأكثر ليس هناك جعلان وجوب نفسي للاكثر وجزئية، الجزئية مجرد امر انتزاعي مجعول بالعرض، فجريان البراءة عن جزئية العاشر هي عين جريان البراءة عن الوجوب النفسي للأكثر. فإذا كانت البراءة عن الوجوب النفسي للاكثر معارضة بالبراءة عن الوجوب النفسي للاقل، إذن البراءة عن الجزئية دخلت ضمن المعارض، فالعلم الإجمالي منجزٌ.

فما أفاده بأنه: بأنه لم يجر البراءة عن الوجوب النفسي للاكثر، لان البراءة عن الوجوب النفسي للأكثر معارضة بالبراءة عن الوجوب النفسي للأقل، أنا اجري البراءة عن الجزئية؟!

الجواب: الجزئية ليست مجعولا وراء جعل وجوب الاكثر حتى تجري البراءة عنها، فالبراءة عنها هي البراءة عن الوجوب النفسي للأكثر.

وهذا الإشكال هو اشكال مبنائي، يعني مبني على أن الجزئية أمر انتزاعي، ومجعول بالعرض لا بالتبع. وإلا إذا بينينا كما يظهر من حاشية الآخوند على الرسائل: أنّ الجزئية مجعول وراء جعل الوجوب الاكثر، إذن بالنتيجة الاشكال لا يرد عليه، فيصير الاشكال مبنائي، فهو يقول انا أرى أنّ الجزئية مجعولة بالتبع، يعني هناك جعلان: جعل وجوب نفسي للاكثر، جعل جزئية، والثاني مسبب عن الأول لذلك قلنا بانه مجعول بالتبع.

الإشكال الثاني: قال بأن ما افاده من جريان البراءة عن الجزئية بلا معارض لأن جزئية بقية الأجزاء أمر معلوم غير معلوم، والسر في ذلك:

أن البراءة عن الجزئية للعاشر معارضة بالبراءة عن كلية الاقل فهما متقابلان، فالعلم الاجمالي ما زال قائما ومنجزاً. والوجه في ذلك:

أنه على مبانيه «مباني صاحب الكفاية» هناك وجوب نفسي للصلاة، وهذا الوجوب النفسي للصلاة إن تعلق بالعشرة اجزاء انتزع منه جزئية الجزء العاشر، وان تعلّق بالتسعة انتزع منه كلية التسعة، فإذن لدينا علم إجمالي بأنه إما المجعول جزئية العاشر إن كان الوجو النفسي متعلق بالعشرة، او المجعول كلية التسعة، ان كان الوجوب النفسي متلعقاً بالتسعة. كما انك قلت «الأصفهاني» أننا نعلم اما بوجوب نفسي للعشرة او وجوب نفسي للتسعة فهما متعارضان، أي البراءة عن هذا معارض بالبراءة هذا فالعلم الإجمالي منجز، كذلك نفس التصوير نقول: هناك علم اجمالي اما جعل جزئية للعاشر او جعل كلية للأقل، فالبراءة عن هذا معارضة بالبراءة عن هذا، فيبقى العلم الإجمالي منجزاً. فماذا تقول؟

ولكن للمحقق الآخوند «قده» ان يتفصى عن هذا الاشكال فيقول: بانه لا يوجد كلية للأقل وراء استقلالية الاقل، اصلا هناك شيئا آخر. بيان ذلك: انه إن كان الجزء العاشر واجبا فالأقل كل، إن لم يكن الجزء العاشر واجبا فالأقل كل، كلية الأقل بمعنى وجوب هذا المجموع هذا ثابت على كل حال، غاية ما في الباب ثابت مع الجزءا لعاشر او لا معه ولا كلية الاقل امر ثابت على كل حال، انما الذي يختلف هو اتصاف الاقل بالاستقلالية، ان كان الواجب الجزء العاشر اتصف الاقل بالضمنية وان لم يكن الجزء العاشر واجبا اتصف الاقل بالاستقلالية، فالمقابل لجزئية الجزء العاشر ليس الا استقلالية الاقل، لا ان المقابل لجزئية الجزء العاشر كلية الاقل، ومن الغريب انه عبّر بان الكلية والجزئية متضايفان، مع أنه يريد ان يتوصل الى أن الجزئية والكلية متضايفان لا متقابلان، لأنها اذا قلنا الجزئية والكلية متضايفان يعني متلازمان في الوجوب، بينما نحن نعلم انهما منفكان اما هذا واما هذا، يعني لم يجعلا معا، اما ان المجعول جزئية العاشر او أن المجعول جزئية الأقل، لا أنهما يجتمعان في الجعل، ولو كانا متضايفين لاجتمعا بل لوجب اجتماعهما في الجعل، لان المتضايفين لا ينفكان في الوجود، فالتعبير في التضايف لعله سهوا من القلم. المقصود انه: علمنا اجمالا اما بجزئية العاشر او بكلية الأقل، لكن حيث إن كلية الأقل التي تقابل جزئية العاشر ليست الا الاستقلالية، يعني كلمة «فقط» إما جعل الجزئية للعاشر او جعل الوجوب للاقل فقط، فالمميز بين جزئية العاشر وبين وجوب الاقل هو قيد الفقطية قيد الاستقلالية، وبالتالي اذا فرضنا ان قيد الاستقلالية داخل ضمن الجعل خلافا لكلام المحقق العراقي «قده» فهذه الاستقلالية معارضة باستقلالية الأكثر.

فنحن نعلم إجمالاً بجعل وجوب نفسي إما للأكثر استقلالا او للأقل استقلالا فاتصاف وجوب الاقل بالاستقلالية مقابل لاتصاف وجوب الاكثر بالاستقلالية، فإذا تعارضت البراءتان عنهما وصلت النوبة للبراءة عن الجزئية بلا معارض.

إذن إذا سلمتم بمبانيه ان هناك جعلين: جعل لوجوب الاكثر، جعل للجزئية، هذا الإشكال الثاني لا يردي عليه، لانه اذا هناك جعلان،

فليست المقابلة بين جزئية العاشر واستقلالية الاقل، وإنما استقلالية الاقل مقابلة لاستقلالية الأكثر الذي هو مجعول بجعل آخر، وبالتالي تجري البراءة عن استقلالية الاكثر فتعارضها البراءة عن استقلالية الأقل فتجري البراءة عن جزئية الجزء العاشر بلا معارض.

الإشكال الثالث: قال: بأن صاحب الكفاية عبّر عن أنّ نسبة حديث الرفع للأمر بالصلاة نسبة دليل الاستثناء للمستثنى منه. فإذا رجعتم للأصول لكلام المحقق الاصفهاني فإن المحقق «قده» ذكر: بانه ما هو مقصوده من الرفع في حديث الرفع؟ اما ان يقصد الرفع الظاهري واما ان يقصد الفعلية المطلقة، وإما ان يقصد رفع الفعلية المطلقة، وإما أن يقصد رفع الفعلية الإنشائية _يعني رفع الفعلية من قبل المولى_؟

وفي كل منها يرد الإشكال.

فإن قصد الرفع الظاهري، يعني الجزئية ارتفعت ظاهرا لا واقعا، فكيف تكون نسبة حديث الرفع لأدلة الجزئية نسبة الاستثناء، بينما ادلة الجزئية مفادها الوضع الواقعي، ومفاد حديث الرفع: الرفع الظاهري، فكيف يكون دليل حديث الرفع بالنسبة الى الادلة الاولية نسبة الاستثناء. والحال بأن هذا رفع ظاهري وهذا وضع واقعي؟

وإذا كان مقصوده رفع الفعلية المطلقة، يعني المحركية، فالحكم الذي وصل الى درجة الفعلية يعني وصل الى مرحلة المحركية، هذا الحكم مرفوع في حالة الجعل.

يقول: بان الادلة الأولية لا يستفاد منها الفعلية المطلقة.

لأن الفعلية المطلقة متقومة بالوصول، فعندما يقول المولى: «لا صلاة الا بفاتحة الكتاب»، ليس مفاد هذا الدليل جعل الجزئية بنحو الحكم الفعلي، لان الفعلية ليست بيد المولى، الفعلية متقومة بالوصول. فإذا كانت الفعلية المساوقة للمحركية متقومة بالوصول فالدليل الاولي لا يتكفلها حتى يتصدى حديث الرفع لرفعها.

وإذا كان مقصوده الفعلية من قبل المولى، والفعلية من قبل المولى ليست الا الانشاء بداعي جعل الداعي، فعندما يقال: المولى جعل جزئية فعلية للفاتحة يعني جعل جزئية بداعي جعل الداعي، يعني هذه الجزئية لو وصلت للمكلف لحرّكته، فما جعله المولى ليس إلا الإنشاء بداعي جعل الداعي، فاذا قال صاحب الكفاية بأن حديث الرفع أيضاً رفع هذا، يعني رفع الواقع، لأنه ليست هناك فعلية بمعنى الإنشاء بداعي جعل الداعي، الا الحكم الواقعي فاذا رفعه حديث الرفع فقد ارتفع الواقع، ورفع الواقع غير معقول؟.

والجواب: رفع الواقع معقول، اذ ليس معنى رفع الواقع انه كان موجود فرفعه، ليس معنى رفع الواقع إلا الإخبار عن عدمه في هذا الفرض، فهو يريد أن يقول: بان الجزئية التي جعلها المولى ليست مطلقة فلا تشمل فرض الجهل بها، وهذا ما عُبّر عنه في كلمات العراقي والسيد الشهيد أخذ العلم بالجعل موضوعا للمجعول.

إذن الجزئية واقعية ليست مطلقة لحال الجهل، هذا الذي يريد ان يقوله حديث الرفع، فاذا كان هذا الذي يريد ان يقوله حديث الرفع، فليس معناه إلا أن العلم بالجزئية سوف يكون دخيلا في فعلية هذه الجزئية. وهذا امر معقول. إذن بالنتيجة: صاحب الكفاية يريد ان يقول الرفع رفع ظاهري لكن لما كان الترخيص الظاهر مما لا يجتمع مع الفعلية الواقعية كما سبق شرحه في الدروس السابقة، ارتفعت ايضا الفعلية الواقعية فصارت الجزئية في الواقع لا تشمل حال الجهل بها.

والحمد لله رب العالمين.