دوران الأمر بين الأقل والأكثر

الدرس 107

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

مضى الكلام في المقام الاول، وهو وجود المقتضي لجريان البراءة عن وجوب الأكثر مع عدم المعارضة. ويقع الكلام في:

المقام الثاني: ألا وهو وجوب المانع عن جريان البراءة. والموانع كما تعرّض لها الأعلام، ومنهم السيد الشهيد «قده» على نوعين: موانع عامة، وموانع خاصة. فالكلام في جهتين:

الجهة الاولى: في الموانع العامة.

المانع الاول: ما أشار إليه جمع منهم سيدنا، من أنه قد يقال: أنّ البراءة عن وجود الاكثر، معارضة بالبراءة عن حرمة الافطار كذباً، بيان ذلك:

أنه إذا دار الواجب بين الصلاة مع الجزء العاشر أو الصلاة لا بدونه، أو الصلاة لا بشرط، فحينئذٍ يقال: إن كانت الصلاة واجبةً مع الجزء العاشر فيجب الاتيان به، وإن لم تكن واجبة فيحرم الإخبار بعدم وجوب الأقل لا بشرط، لأن الإخبار عن عدم وجوب الأقل لا بشرط كذب. فلا يخلو الأمر إما أن الجزء العاشر واجب أو أن الإخبار عن وجوبه كذب. فالأمر دائر بين طرفين. لذلك البراءة عن وجوب الجزء العاشر معارضة بالبراءة عن حرمة الاخبار بعدم وجود الأقل لا بشرط من باب الكذب.

فمع هذه المعارضة يكون العلم الاجمالي منجزاً. وقد اجيب عن هذا المانع بوجوه يجب الالتفات إليها:

الوجه الأول: ما أصرّ عليه شيخنا الأستاذ «قده» من أنه لو جرت البراءة عن حرمة الإخبار كذباً، لما جرت البراءة في الشبهات البدوية، لأن هذا العلم الاجمالي موجود في الشبهات البدوية ايضا، ولم يتردد احد في جريان البراءة في الشبهات البدوية.

بيان ذلك: مثلاً: إذا شك المكلف في صلاة الآيات عند هبوط الريح الصفراء واجبة أم غير واجبة يتشكل علم اجمالي وهو اما ان الصلاة واجبة، أو الاخبار بوجوبها كذب. فمقتضى منجزية هذا العلم الإجمالي عدم جريان البراءة، دائما في الشبهات البدوية يأتي هذا العلم الإجمالي، اما صلاة الغفيلة واجبة الاخبار بعدم وجوبها كذب، اما صوم عاشوراء حرام أو الاخبار بعدم حرمته كذب، فإذن بالنتيجة: لو كان هذا مانعاً، يعني لو كان هذا العلم الاجمالي مانعا من جريان البراءة ما جرت البراءة في الشبهات البدوية مع انه لا كلام في جريان البراءة في الشبهات البدوية ولم يتردد احد في ذلك.

فهذا منبّهٌ على أن مثل هذا العلم الإجمالي لعدم التفات الناس اليه، هذا شاهد على ان العلم الاجمالي لعدم الالتفات إليه ليس مانعا من جريان البراءة.

ولكن هذا الجواب ليس كاف، بالنتيجة، أي مانع من يقال: إن دليل البراءة مقيد بعدم الالتفات الى العلم الإجمالي، فمن التفت إليه لم تجري البراءة في حقه، وهذا لا يوجب لغوية دليل البراءة، دليل البراءة باق ٍعلى اطلاقه في الشبهات البدوية الوجوبية والتحريمية، بل الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي إذا لم يكن معارض، أما من التفت للعلم الاجمالي المزبور في الشبهات البدوية لم تجر في حقه البراءة لتعارض البراءتين.

وقد تبنى جمع منهم السيد الاستاذ «دام ظله» مثل هذا العلم الاجمالي في باب الغيبة أو باب الغناء، مثلا: إذا شك في أن هذا الصوت غناء فيحرم أم لا؟ فيقال: تجري البراءة، لأنه بالنتيجة يشك على نحو الشبهة الموضوعية أن هذا الصوت غناء أم لا؟ فيجري البراءة عن حرمة استماعه أو عن حرمة التصوت به، لكن هناك علم اجمالي بالنتيجة: ان هذا الصوت إن كان غناء فهو حرام، ان لم يكن غناء الاخبار بحرمته كذب. هذا علم اجمالي منجز. في باب الغيبة لا ندري ان هذا الطاعن له مسوغ للغيبة فلا نرد عليه؟! أو ليس له مسوغ فيجب الرد عليه؟! فيقال: نجري البراءة عن وجوب الرد مثلا، أو البراءة عن حرمة الاستماع مثلاً، وأشباه ذلك، فيعارض ذلك بحرمة الإخبار بالحلية في مثل هذا المورد.

إذن بالنتيجة: يمكن القول بأن دليل البراءة مطلق، غاية ما في الباب يقيد بعدم الالتفات لمثل هذا العلم الإجمالي، من التفت لهذا العلم الاجمالي لم تجر البراءة في حقه بمقتضى تعارض الاصول.

الجواب الثاني: أن يقال: ان هذا العلم الاجمالي وهو اما ان الأكثر واجب أو يحرم الاخبار بوجوب الأقل على نحو اللا بشرط. فالبراءة عن وجوب الأكثر معارضة بالبراءة عن حرمة الاخبار بوجوب الأقل على نحو اللا بشرط، فيقال: بأنه هذا العلم الاجمالي منحل بوجود علم تفصيلي وهو ان الاخبار بوجوب الأقل لا بشرط قول بغير علم، والقول بغير علم حرام تفصيلاً، إذن هذا العلم الإجمالي إمّا يجب الأكثر أو يحرم الاخبار بعدم وجوب الأقل على نحو اللا بشرط، هذا العلم الاجمالي منحل تفصيلاً بحرمة الاخبار بعدم وجوب الأقل لا بشرط من باب أنه قول بغير علم، والقول بغير علم حرام تفصيلاً، فانحل هذا العلم الاجمالي، الطرف الثاني معلومٌ تفصيلاً. الطرف الثاني مشكوك بدواً، تجري فيه البراءة.

أجيب عن هذا المانع، قالوا: حرمة الاخبار كذبا اشد من حرمة القول بغير علم، لأن الاخبار كذبا عبر عنه القرآن عنه عدم إيمان: «إنما يفتر الكذب الذين لا يؤمنون»، فلا ينحل العلم الاجمالي، صحيح نعلم تفصيلا بأن القول بعدم وجوب الأقل على نحو اللا بشرط نعلم ان هذا محرم تفصيلا لكن لا نعلم انه كذب، إذن بالنتيجة يدور الأمر بين وجوب الأكثر أو شدة الحرمة، لا وجوب الأكثر أو الحرمة حتى يقال هذا العلم الاجمالي منحل بعلم تفصيلي بالحرمة بل يكون طرفا العلم الاجمالي هو: نعلم إما بوجوب الأكثر أو بشدة الحرمة. فالبراءة عن وجوب الأكثر معارضة بالبراءة عن الشدة. بالبراءة عن حرمة الاخبار بعدم وجوب الأقل على نحو اللا بشرط لأن هذه الحرمة اشد فنجري البراءة عنها. وبالتالي يبقى العلم الاجمالي منجزاً.

الجواب الثالث: قالو: بانصراف دليل البراءة عن البراءة عن الشدّة، مع العلم بأصل الحرمة، جريان البراءة عن الشدة والغلظة مع العلم بأصل الحرمة، دليل البراءة منصرف عنه، لأن دليل البراءة وارد مورد الامتنان، فلا معنى للامتنان بإجراء البراءة عن الشدة مع العلم بأصل الحرمة.

نعم لو كان هناك حكم آخر غير الشدة، صح، مثلاً: أنا نذرت ولكن لا ادري انني نذرت صلاة الفجر أو نافلة الفجر، هنا هذا العلم الاجمالي لا ينحل بالعلم التفصيلي بوجوب صلاة الفجر؛ لأن متعلق العلم الإجمالي وجوب آخر الا وهو وجوب الوفاء بالنذر، فالعلم التفصيلي بوجوب لا يوجب انحلال العلم الاجمالي بوجوب آخر، هذا صحيح لا ينحل.

أما في محل الكلام انت تعلم بوجوب أو حرمة، لكن هذه الحرمة معلومة تفصيلاً، غاية ما في الباب تشك في الشدة، دليل البراءة منصرف عن جريانه في الشدة بعد العلم بأصل الحرمة. فمقتضى ذلك ان تجري البراءة عن وجوب الأكثر بلا معارض، لأن حرمة الإخبار بعدم وجوب الأقل على نحو اللا بشرط، هذه الحرمة معلومةٌ تفصيلاً.

الجواب الرابع: أن يقال: إن لم يتم ذلك لا اقل من ناحية مبطلية الصوم، فلو كان في اثناء الصوم وشك في ان الأكثر واجب أم الاقل؟ فهذا يقول:

إن كان الأكثر واجباً فيجب الإتيان به، إن لم يكن الأكثر واجباً فإن الاخبار بعدم وجوب الأقل على نحو اللا بشرط كذب على الله وعلى رسوله، والكذب على الله وعلى رسوله مبطل، فأنا أعلم إما بوجوب الأكثر أو مبطل الصوم، فالبراءة عن وجوب الأكثر معارضة بذلك. فإذن بالنتيجة سوف يكون العلم الاجمالي منجزاً، بلحاظ التعارض بين البراءة عن وجوب الأكثر أو البراءة عن حرمة الإخبار بعدم وجوب الأقل لا بشرط لا من باب جريان البراءة عن الشدة كما مضى حتى يقال بانصراف دليل البراءة، بل من باب جريان البراءة عن حرمة الإخبار لأن حرمة الإخبار هنا مفطر مبطل للصوم، فبهذا اللحاظ يترتب هذا المانع ويكون موجبا لمنجزية العلم الاجمالي.

ولكن أجيب عن ذلك _وهو مذكور في كلام السيد الخوئي في باب الصوم_: المبطلية موضوعها القول بغير علم، لا أنّ موضوع المبطلية للصوم الكذب، وإن عنون في كلمات الفقهاء من المفطرات الكذب على الله وعلى رسوله وعلى المعصومين، لكن موضوع المفطرية والمبطلية القول بغير علم وان صادف الواقع، حتى لو صادف ان ما اخبر به صحيح مطابق للواقع، مع ذلك القول بغير علم مبطل. والسر في المبطلية: أن هناك علم اجمالي منجز، وهو إذا شككت ان هذا الأمر صادر عن الشارع أم ليس بصادر، لا ادري هل صدر من الشارع وجوب زيارة الحسين وجوبا عينينا أو لا؟ وانا الآن صائم. فاذا شككت انه واجب أو غير واجب عندي علم اجمالي وهو: العلم الاجمالي بأنه اما يحرم الاخبار بوجوبه أو يحرم الاخبار بعدم وجوبه، ونتيجة منجزية هذا العلم الاجمالي ان القول بغير علم مبطل، بل وإن صادف الواقع، لأن الصوم الواجب هو الإمساك عن المفطرات ولا إمساك مع القول بغير علم. نظير من باب المثال: بناء على مفطرية الارتماس كما هو المشهور، وعلمت إجمالا أن احد المائعين ماء، إذا علمت ان احد المائعين ماء مقتضى منجزية العلم الاجمالي اجتنابهما معاً. لو أنني ارتمست في احدهما _لا في كليهما_ وخالفت العلم الاجمالي المنجز، هل هنا أكون قد ارتكبت مفطرا مع غمض النظر عن مصادفة الواقع وعدمه؟ هل اكون بذلك قد ارتكبت مفطرا أم لا؟ يقول السيد الخوئي: نعم، حتى لو تحرز ان ما ارتمست فهي ماء بمقتضى منجزية العلم الاجمالي ان احدهما ماء، لأنك مع منجزية العلم الاجمالي عرضت نفسك للارتماس فهي ولو كان ماء، فتعريض النفس للارتماس فيه حتى لو صادف انه ماء لا يصدق عليه انه إمساك عن المفطرات، فالصوم ليس هو عدم المفطرات، بل الصوم هو الإمساك عن المفطرات ولا يصدق الإمساك مع تعريض النفس للمفطر وان لم يصادف الواقع.

إذن بالنتيجة: لدينا علم اجمالي بأنه اما الاخبار بوجوب زيارة الحسين كذب، أو الاخبار بعدم وجوبها كذب، احدهما كذب، مقتضى منجزية العلم الاجمالي ان يكون القول بغير علم مبطلا للصوم لأن القول بغير علم حرام بعلم اجمالي بأن احد الخبرين كذب، وقد قلنا بأن العلم الاجمالي بأن احد التصرفين مفطر، مفطر، لأن الاقدام عليه وان صادف الواقع لا يجتمع مع الإمساك عن المفطرات. إذن حيث علمنا اجمالاً ونحن صائمون اما بوجوب الأكثر أو بوجوب الأقل، وقد علمنا اجمالا اما بوجوب الأكثر أو ان الاخبار بعدم وجوب الأقل قول بغير علم، وبما أنّ القول بغير علم معلوم تفصيلاً، وبما أنه مبطل للصوم، إذن هذا العلم الاجمالي انحل بعلم تفصيلي بحرمة القول بغير علم وبأنه مبطل للصوم فتجري البراءة عن الأكثر بلا معارض.

لكن هذا الجواب عن المانع غير ناهض، لأن هذا المورد من موارد اشتراك علميين إجماليين في طرف، لأنه أنا أعلم إجمالاً إمّا بوجوب الأكثر أو أنه يحرم الاخبار عن عدم وجوب الأقل بنحو اللا بشرط، وهذا الطرف الثاني وهو حرمة الاخبار عن عدم وجوب الأقل على نحو اللا بشرط، هو طرف لعلم إجمالي آخر في أثناء الصوم، لأنه انا في اثناء الصوم اعلم اما يحرم الاخبار عن عدم وجوب الأقل لا بشرط، أو يحرم الإخبار بوجوبه.

فعندي علمان إجماليان: علم اجمالي إما يجب الاكثر، أو يحرم الإخبار بعدم وجوب الأقل على نحو اللا بشرط؟

المدّعي قال: هذا الطرف الثاني وهو الاخبار عن عدم الوجوب على نحو اللا بشرط هو منجز تفصيلاً. قلنا: ليس منجز تفصيلا بل هو محط علم إجمالي آخر أثناء الصوم، وهو أننا نعلم اجمالا اما بحرمة الاخبار عدم الوجوب أو بحرمة الاخبار بالوجوب، فهذان علمان اشتركا في طرف، ومقتضى ما افيد في التنبيهات من أن اشتراك العلمين الإجماليين في طرف لا يرفع المنجزية بل تتعارض الاصول في الأطراف الثلاثة.

إذن البراءة عن حرمة الإخبار بعدم وجوب الأقل على نحو اللا بشرط تعارض براءتين: براءة عن وجوب الاكثر، وبراءة عن حرمة الإخبار بالوجوب.

فنتيجة البحث كله: أننا نقول: أن هذا المانع قائم، لا جواب عنه. لا تجري البراءة عن الأكثر لمعارضتها بالبراءة عن حرمة الإخبار بعدم وجوب الأقل على نحو اللا بشرط، وما ذكر في الاجوبة في كلمات السيد الشهيد وشيخنا الأستاذ محل تأمل. فراجعوا.

والحمد لله رب العالمين.