الدرس 108

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في الموانع لجريان البراءة الشرعية بعد تمامية المقتضي، ووصل الكلام إلى المانع الثاني. والمانع الثاني لجريان البراءة الشرعية:

دعوى عدم انحلال العلم الإجمالي في باب البراءة العقلية مانع من جريان البراءة الشرعية، ولابد من عرض وجوه عدم الانحلال حتى يرى أنها مانع من جريان البراءة الشرعية أم لا؟

فنقول: قد ذكر في بحث جريان البراءة العقلية ثلاثة وجوه لمنع الانحلال:

الوجه الأول: ما ذكره صاحب الكفاية «قده» من أن العلم الإجمالي إما بوجوب الاقل أو وجوب الاكثر، لو انحل لعلم تفصيلي بوجوب الاقل وشك بدوي في وجوب الاكثر للزم من وجود الشيء عدمه، لأن وجوب الاقل تابع لوجوب الاكثر فعلية وتنجزاً. فلو قلنا بالانحلال أي ان هناك علما تفصيليا بوجوب الاقل وشكّاً بدوياً في وجوب الاكثر للزم من وجود الشيء عدمه وهو محال. وسبق ان قررنا ذلك.

إذن بناء على أنه لا يعقل الانحلال من انه يلزم من وجوده عدمه فلا فرق بين ذلك بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية، فإن هذا الوجه يمنع من كليهما، ولكن صاحب الكفاية بنفسه اجاب عن هذا التوقف وقال: بأنه جريان البراءة الشرعية عن الجزئية لا يبتني على دعوى الانحلال حتى إذا قلنا بعدم معقولية الانحلال في تجري البراءة الشرعية، وانما جرياناها يبتني على ان العلم الاجمالي لم يتعلق بعلم فعلي، فالعلم الاجمالي فاقد المقتضي للمنجزية، والسر في ذلك: ان جريان البراءة عن الجزئية حاكم على دليل الجزئية، مقيد له بفرض العلم، أي في فرض الجهل لا جزئية فعلية أصلاً، وبناء على ذلك فالعلم الاجمالي بجزئية التعسة أو جزئية العشرة ليس علما بحكم فعلي على كل تقدير كي يكون منجزاً.

إذن انما قلنا بالبراءة الشرعية في المقام باعتبار ان جريانها مساوق لعدم فعلية الحكم الواقعي لو كان، فالعلم الإجمالي ليس علماً بتكليف فعلي، هذا من ناحية الوجه الاول. فهو لا يمنع من جريان البراءة الشرعية.

الوجه الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية من دعوى شبهة الغرض، حيث ذكر صاحب الكفاية أنه: إذا علمنا بوجوب غرض مترتب على الاقل أو على الاكثر فجريان البراءة عن الاكثر لا يثبت ترتب الغرض على الاقل. فلا فرق في ذلك بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية، وقد اشار إلى هذا المحذور نفس صاحب الكفاية في حاشيته على الكفاية حيث قال: الاحتياط العقلي يمنع جريان البراءة الشرعية فضلا عن البراءة العقلية. وكذلك كما في مصباح الاصول: حيث قال: إذا كان المانع من جريان البراءة العقلية هو أنّ جريانها عن الاكثر لا يثبت ترتب الغرض على الأقل، فكذلك يجري المحذور في البراءة الشرعية. فهذا الوجه لابد من بحثه وهو: أنه هل يمنع من جريان البراءة الشرعية أم لا؟

الجواب: انه لا يمنع من جريان البراءة الشرعية، والسر في ذلك:

إنّ البراءة الشرعية وان لم تثبت ترتب الغرض على الاقل لأنه اصل مثبت، ولكن حيث ان مفادها التأمين فإنها تثبت التأمين من الحكم ولوازمه وملزوماته، وذلك بإحدى نكات ثلاث:

النكتة الأولى: ما اشار اليها في مصباح الاصول من التمسك بدلالة الاقتضاء بأن يقال: إذا جرت البراءة الشرعية وأوجبت تأمينا من التكليف المتحمل فهي كما توجب تأميناً من التكليف المحتمل توجب تأمينا من غرض هذا التكليف، إذ التكليف تابع لغرض، فكما ان البراءة الشرعية توجب تأمينا من التكليف المحتمل فإن دليلها يدل بدلالة الاقتضاء على التامين من الغرض ايضا الذي هو قوام التكليف، والسر في ذلك:

انه لو لم تأمن البراءة الشرعية من الغرض لما جرت حتى في الشبهات البدوية التي لا كلام في جريانها فيها، فإنه في تكاليف الشبهات البدوية لم يتردد احد في جريان البراءة الشرعية مع ان شبهة الغرض قائمة بها، حيث ان التأمين من التكليف المحتمل لا يثبت التأمين من الغرض المحتمل مع انهم لم يتردوا في ذلك، مما يعني ان دليل البراءة الشرعية إذا دل على التامين من التكليف المحتمل دل على التأمين من الغرض المحتمل بدلالة الاقتضاء.

لكن صاحب «مصباح الأصول» «قده» ناقش في ذلك فقال: بحسب ما قرر في محله ان دلالة الاقتضاء تترتب على القدر المتيقن لا على الاطلاق. بيان ذلك:

الميزان في دلالة الاقتضاء هو ان هذا المدلول لو لم يثبت لما صح مضمون الكلام عقلا أو شرعا أو عادة، فاذا قال مثلا: و«وأسال القرية التي كنا فيها»، يقال: لو لم يقدّر أهل القرية لما صح مضمون الكلام عقلاً. فدلالة الاقتضاء متقومة بهذا الميزان، ان هذا المدلول المقدر لو لم يقدر لما صح مضمون الكلام عقلا أو عادة أو شرعاً.

فنأتي إلى دليل البراءة الشرعية فنقول: دليل البراءة الشرعية مؤمن عن التكليف، هل يصح ان نقول: لو لم يؤمن من الغرض المحتمل لما صح مضمونه عقلا أو شرعا أو عادة حتى تتم فيه دلالة الاقتضاء؟

فيجيب عن ذلك: فيقول: لو لم يدل على التأمين من الغرض لما صح القدر المتيقن منه الا وهو جريانها في الشبهات البدوية، فنحن نسلم معكم بدلالة الاقتضاء في الشبهات البدوية، فنقول: لو لم يدل دليل البراءة الشرعية على التأمين من الغرض لبطل القدر المتيقن منه، لأن القدر المتيقن منه جريانه في الشبهات البدوية، فلا يمكن ان يجري حينئذ حتى في الشبهات البدوية وهو القدر المتيقن منه. وإذا خرج القدر المتيقن من الدليل كان بقاء الدليل مستهجناً. إذن لو لم يدل دليل البراءة على التأمين من الغرض لبطل القدر المتيقن منه وهو جريانه في الشبهات البدوية، فلابد أن يجري ويؤّمن من الغرض. أما اطلاق الدليل وهو جريانه في دوران الامر بين الاقل والاكثر فلا موجب لذلك، بل نلتزم بأنه «دليل البراءة» لا يؤمّن من الغرض عند دوران التكليف بين الأقل والأكثر. ورفع اليد عن ذلك لا يوجب عدم صحة مضمون الدليل، لأننا حافظنا على مضمونه في القدر المتيقن منه.

النكتة الثانية: ان يقال: بأن دلالة دليل البراءة على التأمين من الغرض بالدلالة الالتزامية العرفية لا من باب دلالة الاقتضاء، فإن دلالة الاقتضاء دلالة عقلية، بينما الدلالة الإلتزامية دلالة لفظية. فنقول: لا يخلو الغرض إما أنه ليس واجب التحصيل، وليس مورد الإدانة من قبل المولى، اذن بالنتيجة لا اثر له ولا موجب للبحث عنه، وإن كان واجب التحصيل: أي مورد الإدانة فالتأمين من التكليف دون التأمين من قوام التكليف الا وهو الغرض لغو. فهذه اللغوية من اللوازم البيّنة بالمعنى الأخص، بحيث تدخل ضمن الدلالة الالتزامية العرفية فلا محالة دليل البراءة إذا أمّن من التكليف أمّن من قوام التكليف الا وهو الغرض. وإلا لكان جريانه لغواً. هذه النكتة الثانية ولا يرد عليها إشكال في مصباح الأصول.

النكتة الثالثة: التمسك بالإطلاق المقامي، بأن يقال: ان دليل البراءة عرضه الائمة ع في عدة موارد وفي عدة نصوص ذكروا دليل البراءة، والمفروض ان شبهة الغرض شبهة متعارفة رائجة، لكن لا يلتفت عامة الناس إلى مانعيتها من جريان البراءة، فلو كانت مانعة من جريان البراءة لكان مقتضى ذلك التنبيه على أنه لا تجروا البراءة إلا أنها لا تفيدكم إلا من ناحية التكليف. لكنها من ناحية الغرض لا تفيدكم بشيء. فبما ان مسألة الغرض مسألة ابتلائية ويخفى دورها على عامة الناس فلو كانت مانعة للزم التنبيه عليها. فمن عدم التنبيه عليها يستكشف عدم المانعية، إما لأنه لا غرض، وإما ان الغرض ليس واجب التحصيل من الاساس، واما انه لأنه وان كان واجب التحصيل الا ان البراءة تأمّن منه كما تأمّن من التكليف المحتمل. وبهذه النكتة «نكتة الإطلاق المقامي» ذكرنا فيما سبق الجواب عن مانعية العلم الإجمالي بحرمة الكذب من جريان البراءة. فإنه في كل مورد نشك في التكليف نقول: بأن هناك علما اجماليا بحرمة الكذب، لأننا نعلم اما الإخبار بالتكليف كذب أو الإخبار بعدم التكليف كذب، أو الإخبار بعدم التكليف كذب. فكيف تجري البراءة مع وجود علم إجمالي منجز؟

الجواب عن ذلك: إن اطلاق ادلة البراءة وجعلها بيد المكلفين مع عدم تنبيههم على ان هناك علما اجماليا مانعا والمفروض ان هذا أمر ابتلائي ولا يتنبه له عامّة الناس، فلو كان مانعا لكان مقتضى الحكمة التنبيه عليه، فمن عدم التنبيه ينعقد الاطلاق المقامي لدليل البراءة الذي يعني اما ان هذا العلم الاجمالي من الاساس لا منجزية له لأن الكذب اخذ فيه العلم التفصيلي ولا يكفي فيه العلم الاجمالي، أو لأن الكذب هو الإخبار بمخالفة الاعتقاد لا بمخالفة الواقع، فلا يوجد علم إجمالي بحرمة الكذب. أو لأن هذا العلم الاجمالي ليس منجزا من الأساس بنظره، أو لأن هذا العلم الاجمالي منجز للجامع، لا لوجوب الموافقة القطعية، أو لأن البراءة الشرعية موجبة لانحلاله. فالإطلاق المقامي بالنتيجة لدليل البراءة منبّهٌ على أن لا أثر للعلم الإجمالي المزبور في مانعية جريان دليل البراءة.

إذن بالنتيجة: التأمين من التكليف المحتمل تأمين من الغرض، بل يمكن القول بأن دليل البراءة حيث انه دليل لفظي، وليس دليلا لبيا، فهو بمدلوله الالتزامي انه لا غرض فعلي في الاكثر، إذ لو كان هناك غرض فعلي في الاكثر لتصدى المولى له ولو بجعل وجوب الاحتياط، فدليل البراءة يكشف أن لا غرض فعلي في الأكثر، وهذا لا يأتي في البراءة الشرعية. لأنّها ليست دليلاً لفظيّاً كي يكون كاشفاً عن مقدار غرض المولى.

الوجه الثالث: التمسك بمقالة المحقق النائيني «قده»، حيث افاد المحقق النائيني: بأن ما ذكره الاعلام من ان العلم الاجمالي بوجوب الاقل أو الاكثر ينحل لعلم تفصيلي بوجوب الأقل، هذا الكلام ممنوع، لأن وجوب الاقل وجوب إجمالي لا تفصيلي. إذ ما علمنا به هو وجوب الاقل اما على نحو البشرط شيء أو على نحو اللا بشرط فالأقل معلوم اجمالا وليس معلوما تفصيلاً فلو كان هذا العلم «العلم بوجوب الاقل» موجباً للانحلال لكان موجباً لانحلال نفسه. فهذا ذكره المحقق النائيني سابقا كمانع من انحلال العلم الإجمالي. فهل هذا مانع في المقام من جريان البراءة الشرعية أم لا؟

ذكر في «مصباح الاصول»: أنه على كلام النائيني، نعم، لأن البراءة عن الشرطية لا تثبت الإطلاق، لأننا نعلم اجمالا بوجوب الاقل اما على نحو البشرط أو على نحو اللا بشرط، وجريان البراءة عن البشرط لا يثبت اللا بشرط؛ فإذن هو مانع حتى في جريان البراءة الشرعية. يقول في «مصباح الأصول»: أما على مبانينا فلا يرد هذا الإشكال، لأنّنا ذكرنا ان البراءة عن الشرطية، عن البشرط، ليس الغرض منها إثبات اللا بشرط، بل الغرض منها مجرد التأمين عن البشرط، يعني نفي وجوب الاحتياط من ناحية البشرط، واما اللا بشرط. وأما أن اللا بشرط صحيح أنها لم يثبت لنا أنها موجودة أو غير موجودة، لكن لا تجري البراءة عنها لأن اللا بشرطية مساوقة للسعة وإرخاء العنان، فيحصل الانحلال الحكمي. فنقول: علمنا بوجوب الاقل اما بشرط أو لا بشرط، فالبراءة تأمّن من البشرط، واللا بشرط لا تجري فيه البراءة، لأنها مساوقة للسعة، فانحل العلم الاجمالي حكماً، على مبانينا لا يوجد اشكال، لأننا لا نريد من جريان البراءة إثبات اللا بشرط.

لكن على مبنى النائيني الذي اصرّ على ان العلم الاجمالي لم ينحل والبراءة عن البشرط شيء لا تثبت شيئا فلا فرق في ذلك بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية. فإن البراءة الشرعية لا تثبت أن الواجب هو الأقل على نحو اللا بشرط، «يعني الاطلاق» لأنه اصل مثبت.

وما ذكره «قده» متين، لأنه من الواضح أن من يصر على أن يثبت اللا بشرطية فإن البراءة عن البشرطية لا تثبت اللا بشرطية، وإنما وقع الكلام في أن استصحاب عدم التقييد، يعني استصحاب عدم الشرطية هل يثبت اللا بشرطية أم لا؟ هل ان استصحاب عدم التقييد يثبت الاطلاق أم لا يثبت الاطلاق؟

فنقول: إما على مبنى ان التقابل بين الاطلاق والتقييد الثبوتيين تقابل التضاد أي الامرين الوجوديين، فمن الواضح ان البراءة عن التقييد لا تثبت الإطلاق، الاستصحاب عن ضد لا تثبت الضد الآخر. وكذلك إذا قلنا بأن التقابل تقابل الملكة والعدم، لأن عدم الملكة ليس مجرد عدم التقييد بل هو عنوان بسيط متنزع من العدم مع القابلية للملكة. مثلاً: عنوان العمى: ليس عنوان العمى عبارة عن عدم البصر، بل العمى عنوان بسيط منتزع من عدم البصر في فرض القابلية له، لذلك استصحاب عدم البصر لا يثبت العمى، لأن جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع لا يثبت العنوان الانتىزاعي. لذلك في المقام نقول: إ ذا كان الامر بين كون الامر واجب بنحو التقييد أو بنحو الاطلاق وكان الاطلاق من باب عدم الملكة فإن استصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق، لأنه عنوان بسيط منتزع من عدم التقييد في فرض القابلية له، فاستصحاب عدم التقييد لا يثبت ذلك العنوان الانتزاعي الا بالاصل المثبت.

أمّا لو قلنا بمسلك السيد الشهيد الصدر: من ان تقابل التقييد والاطلاق تقابل السلب والايجاب فهل يكون استصحاب عدم التقييد مثبتاً للإطلاق أم لا؟ يأتي الكلام عنه إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين.