الدرس 91

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: انه قد يستدل على ان المجعول هو الشرطية، أي شرطية لبس ما يؤكل برواية علي ابن ابي حمزة قال: «سألت أبا عبد الله وأبا الحسن عن لباس الفراء والصلاة فيها، فقال: لا تصل فيها إلّا ما كان منه ذكيّاً، قلت: أوليس الذكي ما ذكي بالحديد؟ قال بلى إذا كان مما يؤكل لحمه». فقلنا قد يستدل بها على الشرطية بلحاظ وجود اناطة لصحة الصلاة بما إذا كان الملبوس مما يؤكل لحمه.

وذكرنا ان المحقق النائيني «قده» تخلص من هذا الاشكال بوجهين:

الوجه الاول: وهو قوله: «إن كان مما يؤكل لحمه» ليس راجعا إلى الصلاة، وإنما راجع إلى الذكي، لا يتحقق الذكي خارجاً حتى يكون مما يؤكل لحمه، لا انه لا تصح الصلاة الا بلباس مما يؤكل لحمه، فليست الشرطية عائدة للصلاة وانما عائدة «للذكي» قال: «اوليس الذكي إذا ذكي بالحديد قال: بلى إذا كان..» يعني انما يكون ذكياً إذا كان مما يؤكل لحمه.

واشكل ايضا المحقق النائيني على هذا الوجه من التخلص وتبعه سيدنا الخوئي «قده» «ص323، ج12» قال: لا يحتمل عود «اذا كان مما يؤكل» على الذكي، بل لابد ان يعود إلى الصلاة، لأنه من الامور الواضحة ان الذكي لا يتوقف على اكل اللحم، ولذلك حتى الذي لا يؤكل لحمه يمكن ان يكون ذكيا لأجل تحصيل طهارة الجلد، فإذا ذبح السبع على الطريقة الشرعية كان جلده طاهرا وان كان مما لا يؤكل لحمه، فالذكاة لا تدور مدار حلية الاكل، إذن بما ان الذكاة لا تدور مدار حلية الأكل، فهذه الجملة الشرطية وهي قوله في الرواية: «إذا كان مما يؤكل لحمه» لا تعود إلى عنوان الذكي وانما تعود إلى الصلاة نفسها، كأنه قال: لا تصح الا ان يكون مما يؤكل لحمه.

ولكن هذه المناقشة غير تامة، والسر في ذلك:

اذا كان مدعى العلمين ان حصول الذكاة مما يؤكل لحمه حين صدور الرواية من الامور الارتكازية الواضحة المؤثر في الظهور، حيث إن الارتكازات الواضحة قرائن متصلة مؤثرة في الظهور، فحينئذ يتم كلامهم، فإن احتفاف الرواية بارتكاز واضح وهو ان الذكاة ليست منوطة بما يؤكل أوجب انصراف هذا القيد وهذا الشرط إلى الصلاة لا إلى الذكي لكن هذا مما لم يثبت ان لم يثبت عدمه، فإن هذا موجود في بعض الروايات لا انه من الارتكازات الواضحة المؤثرة في ظهوره.

واذا لم يكن هذا من الارتكازات الواضحة إذن نمشي على ظاهر الرواية، وظاهرها عوده للذكي، قال: «لا تصل فيها - في الفراء واللباس - الا ما كان منه ذكياً»، ففهمنا من الرواية ان الشرط في صحة الصلاة ان يكون ذكيا. ثم السائل سال، قال: «أوليس الذكي مما ذكي بالحديد» يعني الا يكفي في حصول الذكاة ان تكون آلة الذبح حديداً؟ قال بلى: تحصل الذكاة بذلك لكن بشرط آخر وهو أن يكون مما يؤكل لحمه. فالشرط شرط في محقق التذكية وليس شرطا في صحة الصلاة، أي وليس شرطا عائدا على الصلاة كي نقول أن ظاهر الرواية هو شرطية ما يؤكل لحمه، بل يجتمع ذلك مع الشرطية ومع مانعية ما لا يؤكل.

المناقشة الثانية: التي ناقش بها المحقق النائيني «قده» الاستدلال بالرواية على الشرطية وتبعه السيد الخوئي أيضاً، قال: _بحسب عبارة السيد الخوئي_: انها _الرواية_ قاصرة الدلالة على الشرطية إذ بعد فرض وقوع الصلاة في اللباس الحيواني كما فرض في السؤال، قال: «سالته عن لباس الحيوان والصلاة فيها» فهو فرض ان اللباس حيواني، كما هو مورد السؤال وانقسامه إلى محلل ومحرّم فلا محالة تكون الصحة منوطة بالواقع في المحلل، لأنك سالتني عن الصلاة في اللباس الحيواني، واللباس الحيواني ينقسم إلى قسمين فمن الطبيعي ان اقول بعد ذلك لا تصح صلاتك الا في القسم المحلل، لكن هذا لا لاجل شرطية ما يؤكل لحمه، لعله من اجل التخلص من المانعية، وذلك لقرينتين: خارجية، وداخلية.

اما الداخلية: فهو الذيل، _وهي نفس القرينة التي ذكرها النائيني، قال: الذيل شاهد على ان مجعول الشارع هو المانعية وليس الشرطية، وإنما ذكر الامام هنا جملة شرطية وهي قوله: «اذا كان مما يؤكل» لأجل التخلص من المانع.

فلاحظوا: قال ويشهد بذلك ذيل الرواية، «لا بأس بالسنجاب _أي لا بأس ان تصلي في السنجاب_ فإنه دابة لا تأكل اللحم وليس هو مما نهى عنه رسول الله إذ نهى عن كل ذي ناب ومخلب» فظاهر الذيل: ان ما يصح الصلاة فيه هو ما لم يكن منهيا عنه. فظاهره ان الجعل يدور مدار المنهي لا مدار المحلل، مدار ما لا يؤكل لا مدار ما يؤكل، فكأنه قال: إذا اجتنبت المنهي عنه وهو كل ذي ناب ومخلب صحت صلاتك، لا أنه يلزم في الصلاة ان تصلي فيما يؤكل لحمه، المهم ان تجتنب ما نهى عنه النبي .

القرينة الخارجية: موثقة ابن بكير: بما ان الموثقة ظاهرة في المانعية لا في الشرطية فهي قرينة على أنّ مفاد رواية علي ابن ابي حمزة أيضاً المانعية، وإنما اتى بالجملة الشرطية فيها لأجل الفرار من ارتكاب المانع.

أيضاً يلاحظ على ذلك:

أولاً: إذا كان الرواية «رواية علي بن ابي حمزة» في نفسها ظاهرة في الشرطية فمقتضى ذلك: هو المعارضة بينها وبين موثق ابن بكير، لا أنّ الموثق قرينة عليها، أو العكس.

ثانياً: بأن ظهور الذيل في أن المناط في صحة الصلاة باجتناب ما لا يؤكل لا شرطية ما يؤكل غايته انه يتكافئ مع الصدر، الصدر ظاهر في الشرطية والذيل ظاهر في المانعية، فما هو المرجح لأن يكون احدهما قرينة على الآخر كي يقال: ويشهد له الذيل، فغايته ان الذيل ظاهر في المانعية والمفروض ان الصدر ظاهر في الشرطية فبمقتضى ظهور الذيل تسقط الرواية عن الاستدلال باجمالها. لا أن الذيل يكون شاهد على أن ما ذكر في الصدر من الشرطية إنما هو لأجل الفرار من المانعية لا ان الشرطية هي المجعولة من المولى.

الدليل الثاني الذي استدل به على الشرطية:

ذيل موثقة ابن بكير: «لا تقبل تلك الصلاة حتى يصليها في غيره مما أحل الله اكله». فقالوا: ان ظاهر هذه الجملة إناطة الصحة والقبول بوقوع الصلاة فيما يؤكل، «لا تقبل تلك الصلاة حتى يصليها في غيره مما يؤكل لحمه» وهذا ظاهر ان المجعول الشرطية.

لكن المحقق النائيني اشكل على هذا الاستدلال بوجوه ثلاثة:

الوجه الاول: ظاهر السياق كون هذه الجملة خبرا ً ثانيا للمبتدأ الاول، وليس بياناً ابتدائيا لما يعتبر في صحة الصلاة كي يستفاد منه جعل الشرطية. بيان ذلك: قال الامام في الرواية هكذا: «ان الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فاسدة - هذا الخبر الاول - لا تقبل - هذا الخبر الثاني - تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما احلّ الله اكله. فمبتدأ واحد، وهو «الصلاة في وبر ما لا يؤكل» له خبران: خبر الاول «فاسدة»، والخبر الثاني «لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله اكله». فبما أن هذه الجملة مجرد خبر عن المبتدأ الاول وليست بيانا ابتدائيا صادراً من المولى لبيان ما يعتبر في صحة الصلاة وما لا يعتبر فلا يصح استفادة الشرطية منها، لانها مجرد عطف على الخبر الاول.

فإن قلت: لماذا اتى بهذا الخبر الثاني وهو «لا تقبل الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله؟»

قال: اما للتأكيد أو لتأسيس حكم ثانوي. بيان ذلك:

قال: لو افترضنا الشارع في مقام الجعل جعل المانعية وقال الصلاة فيما لا يؤكل فاسدة، يعني ان ما لا يؤكل مانع من صحة الصلاة، فرغ عن المانعية لكن المكلف في مقام الامتثال اخلَّ بهذا المانع فصلى فيما لا يؤكل، جهلاً او نسياناً، فما هو حكمه الثانوي؟ الآن نبحث عن الحكم الثانوي، لو ان المكلف ارتكب المانع فصلى فيما لا يؤكل لكن جهلا أو نسياناً فما هو حكمه؟. فالجملة الثانية تأسيس لا تأكيد، لكن للمجعول الثانوي، فمفادها: ان من صلى فيما لا يؤكل جهلا ونسيانا يعيد صلاته لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما احلّ الله اكله.

فالمنظور في الجملة الاولى بيان المانعية بالحكم الاولي، والمنظور في الجملة الثانية: الحكم بالعنوان الثانوي، ان من صلى في غير المأكول جهلا أو نسياناً لا يغفر له بل لابد له من الاعادة.

ومنظور كلام المحقق النائيني كما تعرض له سيدنا الخوئي نفسه في «ج12، ص297» لأن صاحب العروة تعرض للمسالة «مسألة 19 إذا صلّى في المأكول جهلا أو نسيانا الأقوى صحة صلاته»، فالعنوان الأولي هذه الصلاة باطلة، لكن بالعنوان الثانوي إذا صلى جهلا أو نسيانا فصلاته صحيحة. ومركز هذه المسألة في طوائف ثلاث من الروايات:

عندنا طوائف ثلاث من الروايات:

الطائفة الاولى: هي الموثقة، فإن ظاهر الموثقة في قوله: «إن الصلاة في وبر كلِّ شيء حرامٍ أكله فاسدة لا تقبل تلك الصلاة حتى يصليها في غيره مما أحل الله اكله» ان الحكم هو الاعادة بالعنوان الاولي أو بالعنوان الثانوي.

الطائفة الثانية: وهي صحيحة «لا تعاد»: «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة: الطهور، والقبلة، والوقت، والركوع، والسجود» فظاهرها أن من أخلّ بغير الخمسة عن نسيان مثلا فصلاته صحيحة.

الطائفة الثالثة: صحيحة عبد الرحمن، في «ص297»: «سألت أبا عبد الله : عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب، أيعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد». فظاهرها: انه لو اخل بالمانع جهلاً فإن صلاته صحيحة. فكيف نجمع بين الطوائف الثلاثة؟

يقول المحقق النائيني: إذا قلنا بن صحيحة لا تعاد تشمل الجهل والنسيان ولا تختص بفرض النسيان تكون هي العام، لأنها تقول: من اخل بغير الخمسة، فهي ليست ناظرة لخصوص الصلاة في غير المأكول، عامة، إنّ من أخلّ بغير الخمسة عن جهل أو نسيان فصلاته صحيحة. هذا هو العام.، وموثقة ابن بكير وارد فيما لا يؤكل، وليس في جميع انواع الخلل، يقول: من صلى فيما لا يؤكل جهلاً أو نسياناً أعاد، فيكون موثق ابن بكير مخصصا لصحيح زرارة فيؤخذ به.

ثم جاءنا صحيح عبد الرحمن قال: «من صلى فيما لا يؤكل عن جهل صحة صلاته» فصار صحيح عبد الرحمن مخصصا للمخصص.

فالنتيجة: اختصاص موثق ابن بكير بفرض النسيان، ولذلك أفتى المحقق النائيني والسيد ابو الحسن في الوسيلة ان هناك فرقاً بين النسيان والجهل، ان صلى فيما لا يؤكل جهلا صحت صلاته لصحيحة عبد الرحمن، وإن صلى فيما لا يؤكل صلاته فاسدة بمقتضى موثق ابن بكير.

وإن قلنا _يقول المحقق النائيني_: أن صحيحة لا تعاد لا تشمل الجهل، وتختص بفرض النسيان كما هو مسلك النائيني، سوف تكون النسبة بين الموثق وبين صحيحة لا تعاد عموم وخصوص من وجه. لأن صحيحة لا تعاد، تشمل ما لا يؤكل وغيره من الشرائط والاجزاء، فهي من هذه الجهة أعم من موثق ابن بكير. ومن جهة اخرى هي اخص من موثق ابن بكير لأنها خاصة بفرض النسيان، بينما موثق ابن بكير عام للجهل والنسيان وخاص بما لا يؤكل، فالنسبة بينهما عموم من وجه، يجتمعان فيما إذا صلى فيما لا يؤكل نسياناً، فإن صحيحة لا تعاد تقول: صلاته صحيحة، وموثق ابن بكير يقول: صلاته فسادة. عندنا عامان من وجه، فجاءت صحيحة عبد الرحمن قلبت النسبة، _لانه من القائلين بانقلاب النسبة_ حيث إن صحيحة عبد الرحمن اخص من الموثق، لأن الموثق يقول: من صلى فيما لا يؤكل جهلا أو نسياناً اعاد، صحيحة عبد الرحمن تقول: ان كان عن جهل فصلاته صحيحة. خصصنا الموثق بصحيح عبد الرحمن، فصار الموثق بعد التخصيص ناظراً لفرض النسيان، فبعد ان صار بعد التخصيص ناظراً لفرض النسيان، انقلبت النسبة بينه وبين صحيحة لا تعاد من العموم والخصوص من وجه إلى العموم والخصوص المطلق، فاصبحت الموثقة الموثقة اخص مطلقا من صحيحة لا تعاد فخصصت بها.

فالنتيجة: ان الصلاة فيما لا يؤكل نسياناً موجبة لفساد الصلاة. فإذن فبلحاظ هذا الحكم الثانوي الذي بيّناه يكون مفاد الموثق جملتين تأسيسيتين:

الجملة الثانية: أن الحكم بالعنوان الثانوي وهو من صلى فيما لا يؤكل نسياناً صلاته فاسدة ولا تشمله صحيحة لا تعاد. فكيف يقال: بأن هذا يلزم اللغوية.

إذن بالنتيجة: لا دلالة في موثق ابن بكير الشرطية، مدلولها المانعية وإنما الجملة الثانية بيان لمجعول ثانوي. فافهم وتدبر.

والحمد لله رب العالمين.