الدرس 92

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنه قد يستدل على شرطية لبس المأكول في صحة الصلاة بهذه الفقرة الواردة في موثقة ابن بكير وهي قوله : «لا تقبل تلك الصلاة حتى يصليها في غيره مما أحل الله أكله». وذكرنا أن المحقق النائيني «قده» دفع هذا الاستدلال بوجوه ثلاثة، وكان محصل الوجه الاول: أنّ هذه الفقرة إنما وردت خبراً ثانيا للمبتدأ وهي قوله : «إن الصلاة في وبر في كل شيء حرام اكله، فالصلاة في وبره وشعره وروثه وبوله وألبانه وكل شيء منه فاسد، _هذ الخبر الأول_ لا تقبل تلك الصلاة حتى يصليها في غيره مما أحل الله أكله_ وهذا خبر ثان» وليس بيانا ابتدائيا لما يعتبر في الصلاة.

فإن قلت: ما الجدوى في ذكره؟

قلت: إما انه ذكره تأكيداً لما مضى أو انه ذكره تأسيساً للحكم بالعنوان الثانوي، أي وجوب أعادة الصلاة لو صلى في غير المأكول نسياناً.

وذكرنا امس نكتته في الجمع بين الروايات، والصحيح كما مرَّت الإشارة إليه سابقاً: أن النسبة بين الروايتين العموم من وجه، أي أن موثق ابن بكير في قوله: «لا تقبل تلك الصلاة حتى يصليها في غيره» مطلقة للناسي والجاهل بالحكم أو بالموضوع والعامد ايضاً، فإن هذه العبارة مطلقة تشمل الأحوال الثلاثة. وصحيحة «لا تعاد»: «لا تعاد الصلاة الا من خمسة، القبلة والوقت والطهور والركوع والسجود» منصرفة عن حال العلم وشاملة لحال الجهل والنسيان، فمقتضى ذلك: ان تكون النسبة عموماً من وجه، فإن موثق ابن بكير يشمل حال العمد، بينما صحيحة لا تعاد، لا تشمل حال العمد، وصحيحة لا تعاد، تشمل الاخلال بما لا يؤكل وبغيره من الشروط، بينما موثق ابن بكير ناظر للاخلال هذا الشرط وهو لبس ما لا يؤكل، فبينهما عموم من وجه.

ووجود صحيحة عبد الرحمن التي قال فيها: «إن صلى في غير المأكول كانت صلاته صحيحة إذا كان جاهلا»، لا يغير من الواقع شيئاً، فحتى لو خصصنا موثق ابن بكير بهذه الصحيحة «صحيحة عبد الرحمن» غايته انه خرج من موثق ابن بكير فرض الجهل الذي هو مورد صحيحة عبد الرحمن، فيبقى موثق ابن بكير عاما للنسيان وعاماً للعالم، فتبقى النسبة بينه وبين صحيحة لا تعاد على نحو العموم من وجه، النسبة لا تتغير، وبالتالي فسواء قلنا بكبرى انقلاب النسبة أم لم نقل بالكبرى لا صغرى لها في المقام، لأن النسبة بين موثب ابن بكير وصحيح لا تعاد عموم من وجه على كل حال جاءت صحيحة عبد الرحمن أم لم تجيء. غاية ما في الباب ان حديث لا تعاد حاكم على الأدلة الأولية ومنها موثق ابن بكير. فإن موثق ابن بكير حديث عن الاحكام الأولية وحديث لا تعاد ناظر لفرض الاخلال فيكون حاكما على الأدلة الاولية، ومقتضى حديث لا تعاد على الأدلة الأولية أن من أخل بهذا الشرط فلبس ما لا يؤكل غفلة نسيانا، جهلا قصوريا، بالحكم، بالموضوع، فإن صلاته صحيحة. إذن هذا هو الوجه الاول لمنع الاستدلال بموثقة ابن بكير لإثبات الشرطية.

الوجه الثاني: قال المحقق النائيني «قده» إن ظاهر السياق وهو قوله: «ان الصلاة في وبر كل شيء حرام اكله، فالصلاة في وبره فاسدة لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره» ظاهر السياق ان الجملة الأولى تفريع على الاولى، أي لما ثبت فساد الصلاة فمقتضى القاعدة ان يعيدها، وان لا تصح منه الصلاة حتى يصلي فيما هو مأكول اللحم، هذا تفريع طبيعي، فبما ان ظاهر السياق كون الجملة الثانية تفريعا على الأولى، إذن فبما ان مفاد الاولى هو المانعية فلا يستفاد من الجملة الثانية الا ان الشارع إنما قال: «لا تصح الصلاة إلا إذا صلى في المأكول» لا لموضوعية في الشرطية بل لأجل تجنب المانعية، إذ ما دامت الثانية تفريعاً على الأولى، فمقتضى التفريع: ان ما يستفاد من الثانية من الشرطية لا موضوعية له، وإنما اشترط ذلك لأجل التخلص من المانع المستفاد من الفقرة الأولى.

الوجه الثالث: قال في «ص150»: وإن أبيت _على أن الجملة مفادها المانعية والجملة الثانية الشرطية _ مع جميع ذلك إلا عن استقرار ظهور الذيل في الشرطية، _الفقرة الثانية_ فاقصى ما يقضيه ذلك من امتناع الجمع بين شرطية احد الضدين ومانعية الآخر، لا يعقل الجمع بين مانعية ما لا يؤكل وشرطية ما يؤكل، بعد ان عرفت انه يمتنع الجمع وان الرواية ظاهرة في كليهما فلا محالة سقوط الموثقة _عن الاستدلال لتدافع الظهورين_ عن صلاحية التمسك بها من هذه الجهة لتنافي جزئيها، وتعارض صدرها بذيلها.

فإن قلت كيف يحصل هذا التعارض والحال انهما من سياق واحد؟

قال: من سوء تعبير ابن بكير، ونحن في غنى عنها، بعد قوة دلالة غيرها من أدلة الباب على المانعية خصوصا مع اشتمالها _الروايات الأخرى_ عن التعليل المخرج لها عن قبول التأويل في الشرطية، لورود التعليل فيها، كقوله: «فإن اكثرها مسوخ»، أو قوله: «لا بأس بالسنجاب فإنه دابة لا تأكل اللحم وليس هو مما نهى عنه رسول الله إذ نهى عن كل ذي ناب ومخلب» فيبقى القول بها، «بالشرطية» بلا دليل في حد نفسه، فضلا عما يصلح معارضا لهذا الدليل. هذا كلام المحقق النائيني. انتهى كلامه.

قال سيدنا الخوئي «قده» «ص219، ج12» في مناقشته لشيخه المحقق النائيني: بناء على الوجه الثالث، ان هناك ظهورين متدافعين، ظهور في المانعية وظهور في الشرطية. المحقق النائيني تسقط الرواية لتعارض صدرها مع ذيلها. فيقول سيدنا «قده» لا ملزم بذلك، بل يمكن الجمع بين المانعية والشرطية، وبالتالي يمكن التحفظ على الموثقة بمقام الاستدلال والعمل بكلا ظهوريها الظهور في المانعية والظهور في الشرطية، بيان ذلك:

قدّم أولاً الكلام حول الشرطية، قال: إن ظاهر الذيل وهو قوله: «لا تقبل تلك الصلاة حتى يصليها في غيره مما أحل الله أكله» ظاهره اشتراط المأكولية في ساتر المصلي. وبيان ذلك بمقدمات ثلاث:

المقدمة الأولى: لا ريب أن ظاهر هذه الرواية _هذه الفقرة_ إناطة صحة الصلاة بأن يصلي في ساتر مأخوذ مما يؤكل لحمه. لبداهة عدم كفاية الصلاة فيما يؤكل ولو لم يكن ساترا.

هل تستفيدون من فقرة «لا تقبل تلك الصلاة» يعني لا يصح حتى يصليها في غيره مما يؤكل ولو لم يكن ساترا؟ هل يستفاد من هذه الفقرة انه متى ما صلى فيما يؤكل فصلاته صحيحة وإن كان ما يؤكل ليس ساتر، كان صلى في قلنسوة مما يؤكل، أو صلى في قميص مما يؤكل مع عدم ستر عورته، فهذا غير محتمل.

فبما أن هذا غير محتمل، إذن هذه الفقرة محتّفة بقرينة ارتكازية وهي بداهة عدم صحة الصلاة فيما يؤكل إذا لم يكن ساتراً، هذه قرينة ارتكازية واضحة، فمقتضى احتفاف هذه الفقرة بهذه القرينة الارتكازية ظهور هذه الفقرة بالنظر إلى الساتر، أي ان قوله: «لا تقبل تلك الصلاة حتى يصليها في غيره» يعني في ساتر غيره مما أحل الله أكله. مفاده هذه الفقرة بمقتضى هذه القرينة الارتكازية النظر إلى الساتر، حتى يصليها في ساتر ما أحل الله أكله، لا أنه مطلق ما يحل أكله ولو لم يكن ساتراً.

المقدمة الثانية: قال إذا استفدنا من هذه الرواية ذلك، فقد دلت الرواية بمقتضى تعليق الصحة على العنوان الوجودي، وهو «حتى يصلي في غيره» يعني لا تصح الصلاة حتى يصلي في ساتر غير ما لا يؤكل، لا في ساتر مما يؤكل، في ساتر غير ما يؤكل، هذا ظاهر العبارة. إذن فقد أناط الصحة في عنوان وجودي، ومقتضى إناطة الصحة بالعنوان الوجودي استفادة الشرطية، كأنه قال: يشترط في صحة الصلاة ان يكون الساتر من غير ما لا يؤكل.

المقدمة الثالثة: بما ان السائل «ابن بكير» قال في سؤاله: هل يصح الصلاة في الفراء والسنجاب والثعالب. «فأخرج كتابا زعم انه أملاء رسول الله....»، فبما أن السائل فرض في سؤاله ان اللبس حيواني، فرض في سؤاله، هل تصح الصلاة في اللباس الحيواني أم لا؟ حيث إن السائل فرض في سؤال ان اللباس حيواني واللباس الحيواني لا يخلو إما محرم الأكل أو محلل الأكل، لذلك الإمام اشترط ان يكون الساتر محلل الأكل لأن السائل فرض في سؤاله ان اللباس حيواني.

فتحصل من هذه المقدمات الثلاث: إن المستفاد من هذه الفقرة، اشتراط الساتر بكونه من غير ما لا يؤكل لحمه، أو فقل مما يؤكل لحمه بلحاظ ان السائل فرض ان اللبس حيواني. انتهينا من ذلك. نأتي إلى فقرة المانعية وهي الفقرة الأولى: وهي قوله: «إن الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فاسدة» واستفدنا ان هذه الرواية المانعية. قال هنا أيضاً مقدمتان:

المقدمة الأولى: مفاد صدر الرواية ان إيقاع الصلاة فيما لا يؤكل مفسد، متى ما اوقعت الصلاة فيما لا يؤكل فهو مفسد، واستفدنا ان ما لا يؤكل مانع، فإيقاع الصلاة فيه مفسد إذن هو مانع.

المقدمة الثانية: على أن المانعية لا في الساتر كما كانت الشرطية في الساتر، على أن المناعية _بحسب كلامه هنا في غير الساتر_ بحسب كلامه في اللباس المشكوك «ص110» قال المانعية عامة. يقول: هناك قرينتان تدلان على ان المانعية ليست منصبة على نفس مصب الشرطية، مصب الشرطية الساتر لكن مصب المانعية ليس هو الساتر، قال القرينة الاولى: وهي قرينة ارتكازية، انه نعلم من الخارج انه لا يشترط في صحة الصلاة اكثر من الستر، نعلم من الخارج ان لا يوجد شرط في صحة الصلاة ازيد من اشتراط ستر العورة، لا يوجد شرط آخر من ناحية اللبس. فبعد ان علمنا من الخارج ان لا يوجد من حيث اللباس شرط آخر إذن قول الإمام : «الصلاة فيما لا يؤكل فاسدة» لا لأجل فقد شرط، لأنه لا يشترط أكثر من ستر العورة، بل لأجل وجود المانع، فالمانع إنما يتصور في غير الساتر، لأنه لا يوجد شرط آخر غير الستر فالستر مفروغ عنه، مع ذلك الإمام قال: ان الصلاة فيما لا يؤكل فاسدة. مع ان الستر مفروغ عن شرطيته. هذا دليل على النظر لوجود مانع زيادة على شرطية ستر العورة. فلا محالة مورد هذا المانع إلى الستر. هذه القرينة الارتكازية.

القرينة الثانية: القرينية السياقية، واضحة من الرواية، حيث قال: «إن الصلاة في وبر كل شيء حرام اكله فالصلاة في وبره وشعره وروثه وبوله وألبانه فاسدة» هل يتوهم احد انه يشترط في صحة الصلاة انه يصلي في بول ما يؤكل؟! أو في روث ما يؤكل؟ أو ألبان ما يؤكل؟! غير متوهم، فلو كان الفساد لأجل فقد الشرط لكان لازم ذلك انه يشترط في صحة الصلاة ان تصلي في بول ما يؤكل، لأن الامام قال الصلاة في بول ما لا يؤكل فاسدة، إذن هذا دليل على انه يشترط في صحة الصلاة في بول ما يؤكل، فهذا غير محتمل. إذن هذا دليل على انه ليس ناظرا لفقد شرط، بل ناظر لوجود مانع، يعني بعد الفراغ عن ستر العورة تفسد الصلاة باصطحاب ما لا يؤكل، فلا محالة مصب الشرطية الساتر، مصب المانعية مطلق الملبوس والمحمول، فلم تجتمع الشرطية والمانعية على مصب واحد، وبالتالي نقول للنائيني: لو فرضنا ظهور الفقرتين في الشرطية والمانعية لم يوجب ذلك سقوط الموثقة عن الاستدلال بل نتحفظ عليها ونعمل بكلتا فقرتيها، أحداهما مانعية اصطحاب ما لا يؤكل ملبوسا أو محمولاً وأخرى شرطية ما يؤكل في الساتر.

ولكن يجاب عن ذلك، عن كلام سيدنا الخوئي:

أولاً: إن الفقرة الأولى وهي: «إن الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فاسدة» إما ان يبنى في نظره «قده» على تخصيصها في غير الساتر، كما يظهر من كلامه هناك في «ص220» حيث قال: واختصاص الذيل بالساتر وحمل الصدر على ما عداه من الملبوس والمحمول، اما ان يبنى على اختصاص المانعية بغير الساتر أو يبنى على اطلاقها، بحيث تشمل الساتر ايضاً.

فإن ادعي أن المستفاد من الرواية اختصاص المانعية بغير الساتر فهذا خلاف ظاهر الرواية، لأن الرواية قالت «في» في الفقرة الثانية وقالت «في» في الفقرة الثانية، يعني لا توجد عبارتين، «ان الصلاة في ما لا يؤكل فاسدة» «لا تصح الصلاة حتى يصلي في غيره» فحمل «في» في الفقرة الاولى غير الساتر وحمل «في» في الفقرة الثانية على خصوص الساتر تفكيك غير عرفي، إذن فدعوى اختصاص الفقرة الاولى بغير الساتر واختصاص الفقرة الثانية بالساتر مع ان التعبير في كليهما واحد تفكيك غير عرفي، تفكيك منافي للسياق، وبالتالي ان قامت قرينة في الفقرة الثانية على النظر للساتر فهو كذلك في الفقرة الاولى، أو قامت قرينة في الفقرة الأولى على العموم فهو كذلك في الثانية.

وإما أن يقول كما هو ظاهر كلامه في رسالته «اللباس المشكوك» ما خصصها، خصص الشرطية بالساتر لكن لم يخصص المنانعية بغير الساتر، واما أن يبنى على الإطلاق وان مانعية ما لا يؤكل لا تختص بغير الساتر بل هي عامة، فرجع المحذور وهو اطلاق المانعية مع الشرطية، لأنه لا يمكن الجمع بين شرطية الضد ومانعية ضده، شرطية ما يؤكل ومانعية ما لا يؤكل، وحيث إن المانعية مطلقة تشمل الساتر فقد اجتمع في الساتر شرطية ما يؤكل ومانعية ما لا يؤكل، فرجع المحذور مرة أخرى. هذا أولاً.

ثانياً: يمكن القول أن ما ادعاه سيدنا «قده» في مفاد صدر الموثقة من القرينة الارتكازية وهو اننا نحرز من الخارج شرط آخر وراء ستر العورة، يقال بأنه ما زلنا نحتمل شرطية تعليقية وهو ان يقول الشارع: ان كان اللبس حيوانيا فيعتبر فيه ان يكون من مأكول اللحم، فما دمنا نحتمل هذه الشرطية التعليقية إذن فلعل المانعية من جهة فقط الشرط لا لأن المانعية مجعولة ابتداء.

ودعوى أن ما يفرض خارجا من اللبس الحيواني اما محرم أو محلل، فإذا كان المفروض خارجا اما محرم أو محلل فيلزم اما طلب الحاصل أو الجمع بين الضدين. فإنه إذا قال الشارع: إن كان لبسك حيوانيا فليكن مما يؤكل. يرد عليه انه لا يخلو اللبس في نفسه، اما انه مما يؤكل فاشتراط كونه مما يؤكل تحصيل الحاصل، أو انه مما لا يؤكل فاشتراط كونه مما يؤكل طلب للجمع بين الضدين، وقد تعرض السيد الخوئي لهذا «ص220» وتبناه.

وقد أجبنا عنه فيما مضى وفاقاً لسيد المستمسك «قده»: إنّ ما فرض وجوده أصل الطبيعي لا المشخصات، فكأنه قال: إن فرض طبيعي اللبس الحيواني فيعتبر فيه ان يكون مما يؤكل، ولا يلزم من فرض وجود الطبيعي فرض المشخصات حتى يقال بأن اشتراط ما يؤكل يؤول إلى تحصيل الحاصل أو طلب الجمع بين الضدين.

إذن فمناقشة سيدنا الخوئي «قده» لأستاذه النائيني «قده» غير تامة.

والحمد لله رب العالمين.