الدرس 99

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

بعد الفراغ عن أنّ المستفاد من الأدلة هو جعل المانعية، أي مانعية لبس ما لا يؤكل من صحة الصلاة. وقع الكلام في جهتين: في أن هذه المانعية واقعية أم علمية؟

وعلى فرض أنّ المانعية واقعية فهل توجد أدلة يستند إليها في جواز الصلاة في اللباس المشكوك أم لا؟

وقد بحث هاتين الجهتين المحقق النائيني «قده» في رسالته «اللباس المشكوك». لكن سيدنا الخوئي «قده» في «ج12، ص235» دمج الجهتين من حيث الادلة مع أن البحث في جهتين:

إذ تارة نبحث في أن المانعية المجعولة واقعاً، هل هي مانعية علمية أو مانعية واقعية؟

وعلى فرض أنها مانعية واقعية: نأتي إلى الجهة الثانية، وهي أنه: هل يستفاد من بعض القواعد جواز الصلاة في اللباس المشكوك أم لا؟

لذلك نحن نمشي على ضوء ما افاد المحقق النائيني «قده» فقد أفاد في رسالته «اللباس المشكوك، ص159» البحث في الجهة الأولى، هل أن المانعية واقعية أم أن المانعية علمية؟

فإن قلنا بأن المانعية علمية، بمعنى: أن الصلاة فيما لا يؤكل لا تفسد الا إذا كان معلوماً أنّ هذا لباس مما لا يؤكل. ففي فرض الشك تكون الصلاة في الصلاة المشكوك صحيحة واقعاً، لأنه اخذ في المانعية العلم بكونه مما لا يؤكل، فمع عدم العلم الصلاة صحيحة واقعاً.

وأما إذا افترضنا ان المانعية واقعية وان العلم ليس جزءاً من الموضوع فلو صحت الصلاة في اللباس المشكوك بأصل أو قاعدة فهي صحة ظاهرية لا واقعية. وأول من قال بالمانعية العلميّة سيد المدارك في «المدارك»، حيث ذهب إلى أن الصلاة في اللباس المشكوك صحيحة واقعاً، لأن المانع علمي وليس واقعي. والكلام فعلاً في الأدلة التي أقيمت على كون المانعية علمية:

الدليل الاول:

ما ذكره الوحيد «قده» في تعليقته على المدارك، قال: بأن هذا المدعى مبني على أن الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة أو منصرفة اليها. فإذا قلنا بأن الألفاظ موضوعة لما علم أو منصرفة لما علم فلفظ الحرام عندما يقال: «لا تصلي فيما يحرم اكله» يراد به: ما علمت حرمته، إما بالوضع أو بالانصراف. ولكن بناء على أن الالفاظ موضوعة للمعاني الواقعية وليست منصرفة عنها، فإذن إذا قيل: «لا تصلي فيما يحرم أكله» فالمراد به ما حرم واقعا علم أم لم يعلم.

وهنا علّق المحقق النائيني «قده»: بأنه هذا المدعى _بحسب تعبيره_ قال: وقد بناه بعضهم _الوحيد_ على دعوى كون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة أو منصرفة إليها، لكن لم يظهر من ادعى _ يعني المحقق النائيني يطالب، يقول إذا انت تدعي ان الالفاظ موضوعة للمعلوم أو منصرفة اليه اسألك_ أن المدار على علم المتكلم؟ أو علم المخاطب؟ وبأيّ عناية يمكنه أن يعتبر فيه علم الثالث، _لو قال بأن المدار على علم الثالث لا المتكلم ولا المخاطب المدار على من يصل اليه الخطاب ولم يكن هو المخاطب_ الذي يلزمه العمل بمراد المتكلم _الثالث وظيفه أن يعمل بمراد المتكلم فكيف يكون المدار على علم الثالث؟ _ وكذا ما حكم فيها بعدم جوازها في غير المأكول بما علم أنه كذلك. _يعني انه غير مأكول_.

ولا يخفى ما في جميع ذلك، _إن قال المدار على علم المتكلم فيه محذور، ان قال المدار على علم المخاطب فيه محذور، إن قال المدار على علم ثالث ففيه محذور_.

فإنه «كتقريب لكلام المحقق النائيني» إن جعل المناط على علم المتكلم إذن حينئذٍ إذا كان المدار على علم المتكلم فهذا خلف كون الوظيفة منوطة بتشخيص السامع أو المتلقي أو المكلف بعبارة اصح، فهذا خلف كون تشخيص الوظيفة بحسب تشخيص المكلف.

وان قال بأن المدار على علم المخاطب بذلك، اذن مقتضى ذلك ارتفاع الاجمال، لأنه دائما في جميع الجمل خبرية أو انشائية المدار في انفهام معانيها على علم المخاطب، فكل جملة إما لا معنى لها أو واضحة، فاذا المدار على علم المخاطب، إذن كل جملة إما لا معنى لها إذا لم يعلم المخاطب أو أنها واضحة، فلا يتصور اجمال في مراد المتكلف كي يجري الاصول العرفية لإحراز ما هو مراد المتكلّم.

وإن كان المدار على علم المكلف، أي من يصل اليه الخطاب، فمقتضى ذلك: أنه اختلاف التكاليف باختلاف المكلّفين من حيث العلم والجهل، بل اختلاف التكاليف باختلاف حالات المكلف الواحد من حيث العلم والجهل، وهذا مثلا باطل، خصوصا في التكاليف المشتركة كالميراث والمعاملة، فهذا بيع يترتب عليه الأثر بلحاظ العالم، لا يترتب عليه الاثر بلحاظ الجاهل، يرث العالم دون الجاهل، وكذلك بين الزوجين يترتب الأثر على العالم منهما دون الجاهل وأمثال ذلك من المحاذير.

ولكن ربما يقال بأنّه: المدار على علم المكلف، بأن نقول: صحيح ان الالفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ولكنها منصرفة في الجمل الانشائية إلى علم المكلف بهذه الجمل أو بمفاد هذه الجمل، فيمكن لهذا القائل أن يقول: نعم، انا اسلم معكم ان الالفاظ موضوعة للمانعي الواقعية إنما أنا ادعي الانصراف، فأقول: في الجمل المتضمنة للتكليف ينصرف الخطاب المتضمن للتكليف إلى ما كان بعلم المكلف لا بعلم المتكلم ولا بعلم المخاطب وإنما المدار على علم المكلف، ومراد المتكلم هو ما يعلم به المكلف، فاذا قال المولى: تيمم بالصعيد، فكأنه قال: على المكلف بهذا الخطاب أن يتيمم بما علم أنه صعيد، فهذا هو مراد المتكلم، مراد المتكلم علم ما يعلم به المكلف. واختلاف التكاليف باختلاف المكلفين من حيث العلم والجهل أو اختلافها بحال المكلف الواحد غير ضائر وغير عزيز في الفقه.

نعم، يرد على هذا المدعى انه منافٍ للسيرة العقلائية في مقام الاحتجاج، فإن العبد يحتج على المولى بالمعنى الواقعي للفظ، والمولى يحتج على العبد بالمعنى الواقعي للفظ، وفي مقام تنفيذ الوصايا والأقارير والأوقاف إنما يعتمدون على المعنى الواقعي للفظ، فبما ان السيرة العقلائية قائمة على الاحتجاج بالمعنى الواقعي، فكل شخص يدين الآخر بالمعنى الواقعي للفظ، فهذا شاهد على عدم الوضع للمعاني الواقعية وعدم الانصراف اليها في الخطابات المستتبعة لتكليف.

الدليل الثاني: قال النائيني: قد يدعى قصور الادلة عن أفادة المانعية المطلقة.

مثلاً: إذا جئنا إلى موثقة ابن بكير: «إن الصلاة في وبر كل شيء حرام اكله فالصلاة في وبره وشعره وروثه وبوله وألبانه وكل شيء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحلَّ الله أكله» فيقال: بأن هذا الدليل قاصر عن افادة المانعية المطلقة فالقدر المتيقن منه المانعية في فرض العلم.

المحقق النائيني يشكل على ذلك، يقول: هذه الدعوى انما تصح إذا كان الدليل مسوقا لبيان اصل التشريع، نعم. مثلا: لو افترضنا انه قال: «احلّ الله البيع وحرّم الربا». «وقالوا انما البيع مثل الربا». قال صحيح انه مثله لكن يوجد فرق:

فالمحقق النائيني يقول: إذا كان الخطاب وارداً في مقام بيان اصل التشريع فهو يريد اصل الربا حرام واصل البيع حلال، وليس في مقام بيان التفاصيل. فهنا: إذا كان الخطاب في مقام بيان أصل التشريع، كما إذا قال: «اقم الصلاة» فهو في مقام بيان اصل التشريع.

أو إذا قال: «احل الله البيع وحرّم الربا» فهو في مقام بيان أصل الحرمة والحلية، هنا يصح لكم ان تقولوا الدليل قاصر ولا يستفاد منه المانعية المطلقة أو الوجوب المطلق أو الشرطية المطلقة، كلامكم هنا يتم.

اما أن الأدلة الواردة عندنا ليست في مقام بيان اصل التشريع، بل هي في مقام بيان الشرطية والمانعية، فاذا كان الموثقة مثلا في مقام بيان المانعية فيتمسك باطلاقها لإثبات أن المانعية مطلقة علم أو لم يعلم.

فإن هذه الدعوى إنما تصح لما سيق لبيان اصل التشريع لا في مثل عموم الموثقة وإطلاقات الأدلة سيّما المعللة منها، فإن التعليل يعمم ويخصص، فإذا قال «لا تصلي فيما لا يؤكل لحمه فإن أكثره مسوخ» أو قال «صلِّ في جلد السنجاب فإنه دابة لا تأكل اللحم» فإن مقتضى التعليل العموم لكل ما لا يؤكل اللحم ولكل ما يؤكل اللحم سواء علم أم لم يعلم.

الدليل الثالث: وقد ادعى المحقق القمي في كتابه «جامع الشتات» بأن الادلة «أدلة المانعية» على قسمين:

قسم: صريح في المانعية المعلومة. وقسم ظاهر في المانعية العلمية. فما هو القسم الصريح وما هو القسم الظاهر؟ ذكره في «جامع الشتات، ص805»:

القسم الصريح: معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: «سألت أبا عبد الله عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور أو كلب، أيعيد صلاته؟ قال: ان كان لا يعلم فلا يعيد» فإنها صريحة في ان المانعية مانعية علمية. «الوسائل، باب 40 من ابواب النجاسات، الحديث 5».

وأما القسم الظاهر: فموثق ابن بكير: فإن قوله: «ان الصلاة في وبر كل شيء حرام اكله» ظاهر لفظ الحرام: يعني الحرام المعلوم المتنجز في حقك.

وكذلك النواهي الغيرية: مثل قوله: «يا علي لا تصلي في جلد ما لا يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه» فإن هذا النهي الغيري ظاهر في النهي عن الصلاة فيما يعلم.

وقد اشكل المحقق النائيني «قده» على هذا الاستدلال: أما على الصريح، _الذي قال المحقق القمي به صريح_ اشكل عليه أولاً وثانياً:

أولاً: بأن المنظور في هذه الرواية مانعية النجاسة وعدم النجاسة لا ما لا يؤكل وما لا يؤكل، هذا ليس منظوراً في الرواية، «سألته عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب، قال أيعيد ولا يعيد؟» المنظور في السؤال انه صلى في النجس، فما حكم صلاته؟ فأجاب : من صلى في النجس جاهلا صحت صلاته، من دون خصوصية لما ذكر في السؤال. ومن المعلوم بمقتضى الروايات المتعددة: ان مانعية النجاسة من الصلاة مانعية علمية، فتصح الصلاة في النجس حال الجهل.

فإن قلت: إذا صحت الصلاة في النجس مما لا يؤكل صحت في الطاهر منه من باب أولى، إذن دلّت على صحت الصلاة في اجزاء ما لا يؤكل، فإن اجزاء ما لا يؤكل اما نجسة فقد دلّت الرواية على صحة صلاتها، وأما طاهرة فصحتها بالأولوية، فالنتيجة أن الرواية دلّت على ان المانعية علمية.

يقال: المنظور في الرواية مانعية النجس من حيث هو نجس، لا من حيث كونه مما لا يؤكل، ولذلك لو كان في نجس مما يؤكل ايضا تشمله الرواية. فالمنظور النجس من حيث هو نجس، كان مما يؤكل أو كان مما لا يؤكل، فصحة الصلاة في النجس من حيث هو نجس في حال الجهل لا ملازمة بينه وبين صحة الصلاة في جزء ما لا يؤكل، بلحاظ ان العذرة لا تعد عرفا من الاجزاء، فتجويز الصلاة فيها من حيث خصوصية النجاسة لا من حيث كونها نجساً من أجزاء ما لا يؤكل كي يقال إذا صحت الصلاة في النجس في اجزاء ما لا يؤكل صحت في الطاهر منه، حيث لم يلحظ في العذرة أنها جزء مما لا يؤكل كي يلزم من ذلك الاولوية أو مفهوم الموافقة.

ثانياً: قال: على فرض التعدي _اي تعدينا من مورد السؤال إلى كل اجزاء ما لا يؤكل لحمه على فرض التعدي_ فغاية مفاد الرواية صحة الصلاة واقعاً فيما لا يؤكل لحمه في فرض العذر، كما إذا كان جاهلا أو ناسيا أو غافلا. وأما لو لم يكن معذوراً كما لو شك في ان هذا اللباس مما يؤكل أو مما لا يؤكل ولم يكن هناك اصل مؤّمن يستند اليه في مقام العمل فلا يحرز شمول الراوية لمثله، فهي ناظرة لفرض الصلاة فيما لا يؤكل عن عذر، وبالتالي لا يستفاد منها أن المانعية علمية. هذا بالنسبة إلى ما يدّعى صراحته.

وأما ما ادّعى ظهوره: كدعوى ظهور لفظ الحرام في الحرام المعلوم. قال: وفي دعوى الظهور إلى دعوى الظهور الحرام الوارد في صدر الموثقة فيما علم حرمته، وأما تخصيص الحرام الوارد في الموثقة بالمعلوم فحيث انه لم يعهد منه _من المحقق القمي_ دعوى دخل العلم في مداليل الالفاظ، _هو لا يدعي ان العلم دخيل في مداليل الالفاظ بل صرّح في كتابه غنائم الايام ص105 ان العلم ليس دخيلا في مداليل الألفاظ_ فالأوجه ارجاع ما ادعاه إلى دعوى ان عنوان الحرام قد اخذ فيه اصل التنجز.

يعني كأنما إذا قال: «إن الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله» يعني: ان الصلاة في وبر ما تنجزت عليك حرمته فاسدة. نظير ما ذكر الاعلام في حرمة التكسب بالاعمال بالإجارة بالأعمال المحرمة، أن تؤجر نفسك لأن تكون مغنياً مثلا، أو حالق لحية ما اشبه ذلك. التكسب بالأعمال المحرمة محرم، واضح انه محرم تكليفاً، محرّم وضعاً. واستدلوا على الحرمة الوضعية بأنه غير قادر على التسليم، يعني هذا غير قادر على تسليم العمل، كأن استأجره على حلق اللحية، فيقولون الاجارة على حلق اللحية باطلة، لأن الاجير غير قادر على التسليم لتنجز الحرمة في حقه.

هذا معناه انهم اخذوا الحرمة هنا لا على نحو الحرمة الواقعية بل على نحو الحرمة المنجزة، وإلا لو لم تكن الحرمة منجزة كما لو كان صبياً لكان قادرا على التسليم فصحت المعاملة. يقول إذن هو يريد ان يقول هنا ان الحرام ظاهر في التنجز.

ولكن لما كان ذلك تقييداً ومتوقفاً على قرينة وهي مفقودة فإطلاقه يدفع هذه الدعوى.

والحمد لله رب العالمين.