الخلل الواقع في الصلاة

الدرس 100

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

كان الكلام في أن المانعية أي مانعية ما لا يؤكل لحمه من صحة الصلاة، هل هي مانعية واقعية أم هي مانعية علمية؟

وذكرنا أن المحقق النائيني «قده» في رسالته «اللباس المشكوك» استعرض عدّة أدلة على إثبات أن المانعية علمية. ومن هذه الأدلة:

الدليل الذي ذكره المحقق القمّي «قده» في «جامع الشتات» حيث افاد بأن أدلة المانعية على اقسام ثلاثة:

القسم الأول: قسم صريح في المانعية العلمية وهو معتبرة عبد الرحمن بن ابي عبد الله.

القسم الثاني: ما كان ظاهرا في المانعية العلمية في نفسه.

القسم الثالث: ما كان ظاهرا في المانعية العلمية بالقرينة لا بنفسه.

فالكلام فعلا في القسم الثاني:

حيث أفاد: بأن الموثقة وهي موثقة ابن بكير، القائلة: «إن الصلاة في وبر كل شيء حرام اكله فاسدة» هذه الموثقة تدلّ بنفسها بمستوى الظهور على المانعية العلمية. وفي مقام المناقشة «للمحقق النائيني» قال:

لا وجه لدعوى المانعية العلمية في هذه العبارة إلّا الانصراف الى الحرمة المنجزة، لأنّ المفروض أن المحقق القمّي كما في كتابه «غنائم الايام» أفاد بأن الالفاظ وضعت للمعاني الواقعية ولم توضع للمعاني المعلومة، إذن بأي بوجه يحمل قوله «حرام اكله» على الحرام المعلوم؟ مع أن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا المعاني المعلومة، فلماذا يحمل لفظ الحرام على الحرام المعلوم. إذن نحن نقول: مقصوده من الحرام بمعنى الحرام المعلوم، أي الحرام المنجز، أي أن المانع من صحة الصلاة ان تصلي في لباس تنجزت عليك حرمته، لا أن تصلي في لباس حرام أكله واقعاً وإن لم تتنجز حرمته. فمقصود المحقق القمي ليس هو ان الالفاظ موضوعة للمعاني المعلومة، هذا هو انكره في كتابه غنائم الأيام، إنما مقصوده في قوله: «إن الصلاة في وبر كل شيء حرام اكله فاسدة»، يعني الصلاة فيما تنجزت حرمته، فالحرام منصرف الى الحرام المنجز، نظير ما ذكره الاعلام في حرمة التكسب بالأعمال المحرمة، كالتكسب بالغنا أو التكسب بحلق اللحية، قالوا هناك بأن التكسب بالأعمال المحرمة حرام وضعاً، يعني فاسد، والمراد بالمحرم يعني ما تنجزت حرمته، لأنّ الوجه في فساد التكسب هو عدم القدرة، فيقال: تكسب المغني بالغناء فاسد لأنه يشترط في صحة الكسب القدرة على التسليم والمغني غير قادر على تسليم العمل لحرمته عليه شرعاً، وإنما يكون غير قادر إذا تنجزت الحرمة في حقه وإلا إذا كان غافلا فهو قادر على تسليم الغناء، إذن كما ذكر هنا ان موضوع حرمة التكسب هو ما تنجزت حرمته، لأن السر في الحرمة عدم القدرة على التسليم ولا يكون المكلّف عاجز عن التسليم الا في فرض تنجز الحرمة، كذلك في المقام عندما يقال: الصلاة في ما هو حرام اكله فاسدة، يعني المقصود: فيما تنجزت حرمته. هذا تصوير من قبل المحقق النائيني لكلام المحقق القمي.

ثم يورد عليه المحقق النائيني «قده»: فيقول:

أولاً: لا نسلّم الأمر في المقيس عليه ولو سلمنا لم نسلّمه في المقيس، اما في المقيس عليه أو المنظر به وهو حرمة التكسب بالأعمال المحرمة، فإن السر في بطلان التكسب بها ليس هو عدم القدرة على التسليم وإنما السر في البطلان لعدم المالية، أي ان الشارع الغى ماليتها، ومن الواضح ان المالية وعدمها تدور مدار الحرمة الواقعية لا الحرمة المنجزة، فبمجرد ان يحرم الشارع الغناء ولو لم تتنجز حرمته فإن الشارع ألغى ماليته بتحريمه، فبما ان السر في حرمة التكسب بالاعمال المحرمة كالغناء هو عدم المالية لها لا عدم القدرة على التسليم، والمالية تنتفي بمجرد التحريم واقعا وان لم يتنجز على المكلف، إذن مقتضى ذلك أن المراد بالحرمة هناك «في حرمة التكسب بالاعمال المحرمة» الحرمة الواقعية لا الحرمة المنجزة. ولو سلمنا بكلام المحقق القمي في المقيس عليه وهو حرمة التكسب في الاعمال المحرمة، وقلنا أن المراد بها الحرمة المنجزة، لم نسلم الكلام في المقيس، فنقول: ما هو الموجب هنا لتقييد الحرام في موثقة ابن بكير في الحرام المنجز، فإن هذا تقييد، اللفظ مطلق، حمله على الحرام المنجز تقييد، وبما ان اللفظ مطلق فإطلاقه يدفع دعوى تقييده بالتنجيز.

المناقشة الثانية: قال سلمنا بكلامه، لكن غايته جواز الصلاة في المشكوك من حيث الشبهة الحكمية والموضوعية لا جواز الصلاة في المصداق المردد. بيان ذلك: بحسب ما صورنا به كلام المحقق القمي أن المراد بالحرام في الموثق الحرام المنجز، لازم هذا المدعى: يجوز الصلاة في الثوب المشكوك، إما لشبهة حكمية بأن لا ندري أصلاً، هل جلد الارنب مما يؤكل أو مما لا يؤكل، أساسا عندنا شبهة حكمية في الارنب، هل ان الارنب مما يؤكل أو مما لا يؤكل لذلك شككنا في صحة الصلاة فيه، هذه شبهة حكمية، هنا نعم يجوز الصلاة فيه، لان حرمته على فرض ثبوتها واقعا لم تتنجز. أو كانت الشبهة موضوعية، لأنه من الأساس لا ندري ان هذا الجلد الذي بين أيدينا هل هو من جلد ما يؤكل أو من جلد ما لا يؤكل، شهبة موضوعية، هنا نقول لم تتنجز الحرمة.

أما لو افترضنا أن بين يدينا حيوانين احدهما تنجزت حرمته، لأننا نعلم أن هذا كلب، وهذا ليس حراماً بل هو حلال «شاة» وعندنا جلد ولا ندري ان هذا الجلد مأخوذ مما تنجزت حرمته أو هو مأخوذ مما هو حلال أكله؟

في مثل هذا المورد بناءً على أن المراد بالحرام الحرام المنجز لا تخرج هذه الصورة عن المانعية لا دليل على الجواز في هذه الصورة ما دام الشك لا على نحو الشبهة الحكمية ولا على نحو الشبهة الموضوعية وإنما التردد على نحو المصداق، بأننا لا ندري في أن هذا الجلد مصداق يعني متخذ مما تنجزت حرمته؟ أو متخذ مما هو حلال واقعا وظاهراً؟

فإذا لم ندر حينئذٍ فحمل الحرام على المنجز حرمته لا يفيدنا في جواز الصلاة في هذا المشكوك في هذه الصورة التي ذكرناها، بينما المحقق القمي كان يريد ان يصل الى جواز الصلاة في المشكوك مطلقا وفي جميع الصور.

يقول المحقق النائيني «ص165»: ومع الغض عن ذلك فأقصى ما يقتضيه ذلك «حمل الحرام على الحرام المنجز» هو عدم مانعية ما أخذ من الحيوان المشكوك حليّته أو حرمته من جهة الشبهة الموضوعية أو الحكمي، _هنا يجوز الصلاة، واضح ولا يجدي في عدم مانعية ما تردد بين أن يكون مأخوذاً من الحلال أو الحرام الممتاز كلٌّ منهما في الخارج عن الآخر.

_عندنا واضح، هذا منجز حرمته، وهذا حلال، وهذا شاة وواضح الميز بينهما، فهذا الذي اخذناه منهما لا ندري هل أخذناه من هذا أو من هذا؟! ألا بالرجوع الى دخل العلم في مداليل الالفاظ وهو لا يرى دخل العلم في مداليل الالفاظ_.

وكلامه هنا يبتني على ما حرر في الأصول من ان احد ملاقي الشبهة المحصورة مورد لتنجز العلم الإجمالي أم لا؟

يقول: عندنا علم اجمالي ان احد هذين الجلدين الممتاز كل منهما على الآخر احد هذين الجلدين محرم، وبعد ان علمنا بذلك اخذنا هذا الجلد، فلا ندري اخذناه من المحرم أم اخذناها من المحلل، تردد بعد ان علمنا _لا التردد قبل_ فإن قلنا بأن الملاقي لأحد طرفي الشبهة المحصورة مما يتنجز العلم الاجمالي فيه، فإذن المورد ليس من الشبهة الحكمية والموضوعية، بل المورد من موارد العلم الإجمالي المنجز، وإلا فهو شبهة موضوعية.

هذا كله في مناقشة القسم الثاني من اقسام أدلة المانعية.

القسم الثالث: ما كان ظاهراً في المانعية ببركية القرينة، وهو الخطابات الغيرية، كما إذا قال: لا تصلي في جلد ما لا يؤكل لحمه، كهذه الرواية: الواردة في وصية النبي لأمير المؤمنين : قال: «يا علي لا تصلي في جدل ما لا يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه» هذا نهي غيري، يقول المحقق القمي هذا ظاهر في المانعية العلمية بالقرينة، والقرينة هي حكم العقل بأنه لا يصح تكليف الجاهل كما لا يصح تكليف العاجز، فبما أنّ الخطاب نهي وليس إخباراً كقوله: «ان الصلاة فيما حرم اكله فاسدة»، الخطاب هنا نهي والنهي تكليف، فهذا النهي محفوف بقرينة عقلية وهي حكم العقل بقبح تكليف العاجز، فمقتضى احتفاف الخطاب بهذا الحكم العقلي ظهوره في المانعية العلميّة أو المنجزة.

أورد عليه المحقق النائيني «قده» عدّة مناقشات:

المناقشة الاولى: لو سلمنا كلامه فإن لازمه أمر لا يلتزم به أحد، لأن لازم المانعية العلمية اختلاف التكاليف باختلاف المكلفين بل باختلاف حالات المكلف الواحد، ففي الفرض الذي يكون عالما تكون صلاته فاسدة واقعاً. وفي الفرض الذي كون جاهلاً تكون صلاته صحيحة واقعاً، فلو فرضنا أنه صلى الظهر بثوب يعلم انه مما لا يؤكل صلاته فاسدة، ولو فرضنا انه صلى بعدها العصر وبدل الثوب بثوب مشكوك، صلاته صحيحة واقعاً، فتعد هذه العصر ظهراً لأنه لم يأت بظهر صحيحة.

يقول: هذا لازم لا يلتزم به أحد ان يختلف التكليف باختلاف حال المكلف من حيث العلم وعدمه.

المناقشة الثانية: إن القبيح مؤاخذة الجاهل لا تكليفه، ففرق بين شرط القدرة وشرط العلم.

يقول المحقق النائيني «قده» فرق بين الخطاب وبين الطلب. تارة نتكلم في شروط الطلب، وتارة نتكلم في شروط الخطاب، أو فقلك تارة نتكلم في شروط الطلب، وتارة نتكلم في أثر الطلب. فإذا تكلمنا في الطلب، أي متى يحسن الطلب ومتى لا يحسن؟

فنقول: انما يحسن الطلب في فرض القدرة، وإلا الطلب من العاجز قبيح مستهجن. وتارة نقول: بأنه بعض المفروغية عن الطلب هل تصح المؤاخذة على مخالفة الطلب؟ فرضنا الطلب موجود، لكن هل تصح المؤاخذة على مخالفة الطلب أم لا؟ نقول: لا تصح مؤاخذة الجاهل على مخالفة الطلب. فالجهل مانع من اثر الطلب لا مانع من اصل الطلب، فهناك فرق بين القدرة وبين العلم، فإن القدرة دخيلة في حسن الطلب، بينما العلم دخيل في المؤاخذة على مخالفة الطلب، ولذلك يحسن الاحتياط من قبل الجاهل عقلا وشرعا، وحسن الاحتياط دليل على ان الطلب موجود واقعاً وأنه يحسن في حقه وإن كان جاهلاً.

المناقشة الثالثة: لا موجب للشمول للخطابات الغيرية، لكن حكم العقل بقبح التكليف هل يشمل الخطابات الغيرية أم يختص بالخطابات النفسية؟

فيقول المحقق النائيني: بما أن الخطاب الذي تترتب عليه الإدانة هو الخطاب النفسي واما الخطاب الغيري لا تترتب عليه إدانة لذلك الخطابات النفسية هي التي لا يصح تكليف الجاهل بها وأما الخطاب الغيري لا تترتب عليه ادانة لذلك الخطابات النفسية هي التي لا يصح تكليف الجاهل بها، واما الخطابات الغيرية فهي مطلقة لانها لا تترتب عليه أي ادانة.

المناقشة الرابعة: قال المحقق النائيني: هذا القياس «عند المحقق القمي» وانه يفرق بين الخطابات الإخبارية والخطابات الغيرية، فيقول: هناك فرق بين قول المولى: «إن الصلاة في كل شيء حرام اكله فاسدة»، وبين قوله «لا تصلي» اليس هكذا ان يريد ان يفرق القمي؟ فيقول الأول اخبار، لكن الثاني طلب، وبما أن الثاني طلب فتترتب عليه آثار الطلب، ومن آثار الطلب قبح العقل بتكليف الجاهل، فلذلك يختص هذا الخطاب بالعالم، يعني كأن المحقق القمي يقول: لو كان الخطاب إخباراً لربما قلنا بشموله للجاهل، لكن لو أن الخطاب غيرياً والنهي الغيري تكليف والتكليف قبيح في الجاهل قلنا باختصاص في العالم، فهو يفرق بين الخطاب الغيري والخطاب الاخباري _يقول هذا التفريق ليس من عنده_ وقد سبقه أستاذه الوحيد البهبهاني «نور ضريحه» حيث ان الوحيد البهبهاني هو في أصوله ذكر هذه الكبرى فقال: هناك فرق بين الخطابات، إذ تارة يصلنا التكليف عبر خطاب اخباري كأن يقول «لا صلاة الا بطهور» أو «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، إذا وصلنا التكليف عبر خطاب خبري، فهذا الجزء «كفاتحة الكتاب» أو الشرط «كالطهارة» لا يختص بفرض القدرة، بل تشمل جزئيته وشرطيته حتى حال العجز، فلو فرضنا ان انسان عجز عن الطهور تسقط الصلاة في حقه، لا أن الصلاة تصح ويسقط الطهور، لأن شرطية الطهور استفيدت من جملة خبرية وحيث انها استفيدت من جملة خبرية فمقتضى الإطلاق في هذه الجملة الخبرية ان لا تصح الصلاة الا مع الطهارة بحيث لو تعذرت الطهارة لسقط الأمر بالصلاة.

ولكن إذا جئنا لقوله: «صل منتصب القامة» فإن هذا القيد جاءنا في خطاب غيري، بما أن هذا القيد جاءنا بخطاب غيري والخطاب الغيري تكليف والتكليف لا يصح إلا في حال القدرة، إذن لا محالة هذا القيد وهو انتصاب القامة خاص بفرض القدرة، بحيث لو تعذر انتصاب القامة لسقط القيد وبقي اصل الامر، هذا الكلام ذكره الوحيد البهبهاني.

إذن الوحيد البهبهاني «قده» يقول: القيود المأخوذة في الصلاة على قسمين: قسم استفيد من جملة خبرية، وقسم: استفيد من جملة إنشائية، امر أو نهي. فما استفيد من جملة خبرية فشرطية مطلقة كالطهارة، وما استفيد من جملة إنشائية فشرطية خاصة بفرض القدرة.

فالمحقق النائيني يريد ان يناقش اصل الكبرى مع غمض النظر عن دعوى الوحيد البهبهاني في المقام:

فقال: يلاحظ عليه:

أولاً: أن الخطابات الغيرية أمراً أو نهياً خطابات إرشادية، وليست خطابات مولوية، فبما انها مجرد ارشاد فهي كالخبر تماما. فاذا قال المولى: «اذا صليت فصل منتصب القامة»، ليس مفاده الطلب الجدي، يعني ليس مفاده الطلب بداعي الوعيد أو الإدانة وإنما مجرد الإرشاد إلى ان الامر بالصلاة لا يسقط عنك الا إذا كنت منتصب القامة في الصلاة.

والشاهد على ذلك يقول المحقق النائيني إن هذا الامر يستخدم حتى في المستحبات، بل يستخدم حتى في المباحات العادية، فيقول في المستحبات مثلاً: إذا قال زر الحسين وكن على طهارة، مع ان الزيارة في نفسه مستحبة. فهذا الخطاب ليس إلا خطابا ارشادياً الى ان الزيارة ذات الثواب ما كانت عن طهارة. وحتى في المباحات العادية كما إذا ورد عن الامام : «اشرب الماء ليلاً جالساً» هذا ليس امراً مولوياً، وإنما مجرد ارشاد الى ان الشرب الصحي ما كان الشرب عن جلوس.

فبما أن الأمر الغيري يستخدم في الواجبات والمستحبات والمباحات وليس له معاني متعددة بأن يقول إنسان معناه في الواجبات شيء، ومعناه في المستحبات شيء ومعناه في المباحات شيء، بل معناه عرفا واحد، فهذا شاهد على انه في جميع هذه الموارد هو بغرض الارشاد والاخبار، وليس بغرض الطلب المولوي. فإذا لم يكن الخطاب طلبا مولويا لم تترتب عليه آثار الحكم المولي ومنها اختصاص مفاده بفرض القدرة كما ذهب اليه الوحيد البهبهاني.

والحمد لله رب العالمين.