الدرس 101

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أن الوحيد البهبهاني «قده» ذكر كبرى استفاد منها المحقق القمي، ومحصّلها:

إنّ القيد المأخوذ في الواجب، تارة: يستفاد منه من الخطاب الخبري، كقوله «لا صلاة إلا بطهور» أو «لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة». وتارة: يستفاد القيد من الخطاب الغيري أي الامر والنهي الغيريين، كما إذا قال: «لا تصلي فيما لا يؤكل لحمه» أو قال: «صل مستقبل القبلة» فإن كان القيد مستفادا من خطاب خبر نحو «لا صلاة الا بطهور» فهذا القيد مطلق يشمل حالة العجز وحالة القدرة، بحيث لو تعذر على المكلف الصلاة مع الطهارة سقط الامر بالصلاة، لأن شرطية الطهارة مطلقة.

وأما إذا كان القيد مستفاداً من خطاب غيري، أي من خطاب انشائي غيري كما لو قال: «لا تصلي فيما لا يؤكل لحمه» فبما ان الخطاب مولوي متضمن للتكليف والتكليف خاص بفرض القدرة عقلاً، إذن فمقتضى هذه القرينة العقلية وهي اختصاص التكليف بالقدرة ان تكون المانعية «مانعية ما لا يؤكل لحمه» خاصة بفرض القدرة، فلو تعذر عليه تحصيل ساتر غير ما لا يؤكل فلا مانعية حينئذٍ، بل تكون صلاته فيما لا يؤكل صحيحة واقعاً، لأن المانعية خاصة بفرض القدرة ولا قدرة في المقام.

والمحقق النائيني «قده» اشكل على الوحيد البهبهاني «قده»: بأن الخطابات الانشائية الغيرية ما هي الا خطابات ارشادية وليست مولوية، فقوله «صل مستقبلا» او «صل مطمئناً» أو «لا تصلِّ في النجس،» أو «صلّ فيما لا يؤكل» كلها خطابات ارشادية وليست مولوية والخطاب الارشادي لا يتضمن تكليفا فهو مجرد إخبار عن تقيّد الواجب بقيد وجودي أو قيد عدمي، فاذا كان ارشاديا محضا ولا يتضمن تكليفا فليس محفوفا بحكم العقل بشرطية القدرة. وإذا لم يكن محتفّاً بحكم العقل بشرطية القدرة فمفاده كمفاد الخطاب الخبري أي القيد المطلق، فكما يستفاد من قوله «لا صلاة الا بطهور» أن الطهارة شرط مطلق، يشمل حالة العجز ايضا، كذلك يستفاد من قوله «لا تصلي فيما لا يؤكل لحمه» ان المانعية مطلقة في حالة القدرة والعجز، لأن قوله «لا تصلي» مجرد ارشاد إلى تقيد الصلاة بعدم ما لا يؤكل. ثم قال «النائيني» والشاهد على ذلك: ان الخطابات الغيرية موجودة حتى في المستحبات والمباحات ايضا، فلو كان مفادها التكليف لم ينسجم ذلك مع وردوها في المستحبات والمباحات، كما في قوله «اشرب الماء ليلاً جالساً». ودعوى أن الخطاب الغيري يختلف مفاده باختلاف الموارد فإن ورد في بيان شرائط الواجب كان مفاده تكليفاً. وان ورد في بيان شرائط المستحب كان مفاده ترجيحاً، وان ورد في سياق المباحات العادية كان مفاده مجرد اخبار عن الدخل، كدخل الجلوس في مصلحة شرب الماء، فيختلف مفاده باختلاف الموارد.

فأجاب المحقق: بأن هذه الدعوى ممنوعة، فإن العرف يفهم من الخطاب الغيري معنى واحد في سائر استعماله.

ثم تعرض المحقق النائيني:

إن قلت: إن مفاد الخطاب الغيري واحد الا وهو الطلب، بمعنى أن المراد الاستعمالي من قوله «افعل» أو قوله «لا تفعل» الزجر، هذا هو المراد الاستعمالي، إلّا أن المراد الجدي منه يختلف باختلاف الموارد، ففي مورد وهو ما إذا جاء الخطاب الغيري في مقام بيان شرائط الواجب، فالمراد الاستعمالي منه الطلب، وهذا مشترك بين الموارد، لكن قامت قرينة على ان المراد الجدي منه الوجوب، والقرينة على ذلك انبساط وجوب المركب على سائر اجزائه وشرائطه، فاذا قال: تجب الصلاة، ثم قال: صلّ مطمئناً، استفدنا من قوله «صلّ مطمئناً» الوجوب لا مجرد الإرشاد، لأن قوله «صل» استعمل في الطلب، هذا هو المراد الاستعمالي، والمراد الجدي منه الوجوب، والقرينة على هذا المراد الجدي انبساط وجوب المركب على سائر اجزائه وشرائطه، فالقرينة موجودة لا أننا ندّعي أمراً خلاف القرينة.

وفي جواب إن قلت:

أولاً: هذا الكلام ثبوتا ممكن قبوله، بأن يقال: ان المراد الاستعمالي من الأمر والنهي الغيريين واحد والمراد الجدي يختلف باختلاف الموارد بحسب اختلاف القرائن، هذا كمستوى امكان واحتمال وارد. أما إذا رجعنا إلى المرتكز العرفي فإنه لا يفهم من الأمر والنهي الغيريين الا مراداً واحداً في سائر موارد استعماله. هذا أولا.

ثانياً: مضافاً إلى ما يستلزمه التفكيك في مدلوله بهذا الاعتبار أن يكون مستعملاً في الطلب بالقدر المشترك بين الوجوب والاستحباب، وقد بُيّن امتناعه في محله. يقول، نحن بينا في الاصول أنّ كون مفاد الامر طبيعي الطلب دون ان يكون وجوبا أو ندبا مستحيل.

وقد ذكر في الاصول: إن قلنا بأن الفرق بين الوجوب والندب فرق في النوع، بمعنى ان الوجوب طلب متقوم بالمنع من الترك، والندب طلب متقوم بالترخيص في الترك، فهما نوعان، اذن استعمال الامر في طبيعي الطلب من قبيل تحقق الجنس من دون فصل، وتحقق الجنس من دون فصل مستحيل، وإن قلنا: ان الفرق بين الوجوب والندب فرق بالمرتبة لا بالنوع، بمعنى أن الطلب وجود مشكك المرتبة الأعلى منه وجوب والمرتبة الأدنى منه ندب فالفرق بينهما بحسب المرتبة. فاستعمال الأمر في طبيعي الطلب، يعني في القدر المشترك بين المرتبتين أيضاً محال، إذ لا يعقل وجود قدر مشترك بين المراتب بل كل مرتبة متحصلة خارجا في حدها. إذن هذا الكلام محال.

ولكن ما أفيد من قبله «قده» محل تأمل، بلحاظ ان الوجوب والندب على مبانيه من سنخ الامور الاعتبارية لا من مقولة الامور النفسانية، فاذا كانت من قبل الأمور الاعتبارية فصدور الأمر بنحو اعتبار طبيعي الطلب أمر عرفيٌّ ممكن بلا تردد.

مضافاً أن هذا الاشكال لا يرد على مبنى سيدنا الخوئي «قده» الذي يقول: بأن المراد دائما استعمالا وجداً من الأمر هو النسبة الإيقاعية، أي ايقاع الفعل في ذمة أو عهدة المخاطب، وإنما يستفاد الوجوب بحكم العقل إذا لم تقترن الجملة بالترخيص.

هذا الاشكال الاول والثاني والثالث للنائيني على الوحيد البهبهاني: هو أنه إذا كانت الخطابات الغيرية الواردة في بيان شرائط الواجب المركب مفادها الوجوب بقرينة انبساط الوجوب على جميع الاجزاء والشرائط، فمقتضى هذه القرينة أن لا فرق بين الخطابات الخبرية والخطابات الغيرية، فحتى الخطابات الغيرية الواردة في بيان شرائط الواجب كما إذا قال «لا صلاة الا بطهور» يكون مفادها الوجوب، بقرينة انبساط وجوب المركب على سائر اجزائه وشرائطه. بينما مدعاه كوجود فرق بين القيد المستفاد من الخطاب الخبري والقيد المستفاد من الخطاب الإنشائي الغيري. هذا تمام الكلام في مناقشة المحقق النائيني «قده» للمحقق القمي واستاذه الوحيد البهبهاني.

هذا كله على الدليل الثالث، وهو أن المانعية «مانعية ما لا يؤكل لحمه» مانعية علمية لا واقعية.

الدليل الرابع: تعرّض إليه سيدنا الخوئي «قده» في «الموسوعة، ج12، ص236»: قال: إن مقتضى العمومات جواز الصلاة في كل ساتر، حيث قال في صحيحة محمد ابن مسلم، «اذا كان الساتر كثيفاً فلا بأس».

وجاء مخصص لهذا العام فقال: «لا تصلي فيما لا يؤكل لحمه» ومن الواضح ان العام حجة في مدلوله لا يرفع اليد عنه الا بمقدار ما قامت الحجّة عليه، حيث لا يرفع اليد عن حجة الا بحجة أخرى، فلا يرفع اليد عن العام الا بمقدار ما قام عليه الحجة في التخصيص، والمفروض ان الحجية متقومة بالوصول كبرى وصغرى، ولذلك قالوا: إنّ الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها، لأن الحجية متقومة بالوصول كبرى وصغرى. إذن فلا يخرج عن العام شيء الا ما وصلك من المخصص كبرى وصغرى، فاذا قال المولى في العام: صل في كل ساتر، وقال في الخاص: «لا تصل فيما لا يؤكل لحمه» فلا مخرج من العام الا ما وصلك من الكبرى وهي «لا تصلي فيما لا يؤكل لحمه» والصغرى وهي كون هذا اللباس مما لا يؤكل لحمه. ونتيجة ذلك ان المشكوك «اللباس المشكوك» في كونه مما يؤكل أو مما لا يؤكل مندرج تحت العام، حيث لم تقم حجة على إخراجه من تحت العام.

ودفعه سيدنا «قده» قال: إنّ الدليل المخصِّص وإن لم يكن حجة إلّا بعد الوصول كبرىً وصغرىً كما أفيد، إلّا أن من الواضح تقييد العام بعد ورود التخصيص عليه بغير مورد الخاص لامتناع الجمع بين التوسعة والتضييق والإطلاق والتقييد.

يريد أن يقول: إذا كان لدينا عام وهو قوله: «اكرم كل عام» ولدينا خاص وهو: «لا تكرم الاموي» فإن مقتضى الخاص تقيد العام بما ليس أموياً، فكأنه قال من الاول: اكرم عالم ليس أموياً. والشاهد على هذا التقييد انه لولاه لجمع بين التوسعة والتضييق والإطلاق والتقييد، بمعنى ان قوله «اكرم كل عالم» بالنسبة إلى الاموي اما مهمل وهو محال، إما بشرط شيء، وهو خلف، لأن الاموي مبغوض كيف يكون بشرطه؟، وإما لا بشرط وهو خلف التخصيص لأن كونه لا بشرط معناه لغوية التخصيص فتعين أن يكون بشرط لا. إذن بالنتيجة موضوع العام بقوله «اكرم كل عالم» ليس كل عالم بل العالم الذي ليس أموياً. فتبين لنا ان موضوع العام ليس العام بل العالم الذي ليس أموياً، فاذا شككنا في أن فلان ابن فلان هل هو أموي أم ليس اموي؟ فحينئذٍ لا يمكن ادراجه في الخاص، لأن الخاص يقول «لا تكرم الاموي» ونحن لا ندري، فكذلك لا يمكن ادراجه في العام بعد تقيد العام بما ليس اموياً ونحن لا ندري ان هذا اموي أم لا؟ إذن لا يمكن لا ادراجه في الخاص ولا إدراجه في العام، فالتمسك بالعام في مثله تسمك بالدليل في الشبهة المصداقية.

تم كلام سيدنا «قده».

نذكر شبهة ونريد الجواب عنها غداً:

وهي: أننا ذكرنا في الأصول تبعاً للسيد الشهيد «قده» بتقريب: أن المخصص تارة يكون هو العنوان، وتارة يكون هو المعنون، واقع المعنون، فإذا كان المخصص هو العنوان؟ بمعنى الخارج عن قوله: «اكرم كل عالم» هو عنوان الاموي، فمن الطبيعي إذا شككنا في أن هذا العالم الفلاني أموي أم ليس أموياً فيكون شبهة مصداقية للعام فلا يصح التمسك بالعام لأنه تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية.

وأما لو كان المخصص واقع المعنون لا العنوان، وإنما العنوان مشير لواقع ما خرج لا انه عنوان هو الذي خرج، فإذا قال المولى مثلا: «أكرم كل عالم» وقال في دليل آخر: «لا تكرم خالع العمامة» وخالع العمامة لا دخل لها في التخصيص بل هي مجرد عنوان مشير لمعنون أي لواقع معنون، وكانت الشبهة شبهة حكمية، وليست شبهة مصداقية، بأن لا ندري الذي اخرجه الشارع من تحت العام وأشار اليه بقوله «خالع العمامة» هو خصوص من تسنن؟ أو هو مطلق من خلع العمامة؟ فنحن نشك في واقع ما خرج بالتخصيص الذي اشار اليه بقوله «خالع العمامة»، فيقال: حينئذٍ بما ان الشبهة حكمية ليست شبهة مصداقية والشبهة الحكمية لا تعرف الا من قبل الشارع، فقول الشارع «اكرم كل عالم» حيث تصدى لبيان موضوعه على نحو العموم شاهد هذا التصدي على أن المشكوك فيه خروجه وهو مطلق من خلع العمامة داخل تحت قوله «اكرم»، وأما القدر المتيقن مما خرج عن تحت العام هو من تسنن.

وقد مثّل لذلك السيد الشهيد بهذا المثال _حتى يكون تقريب لكلامه_: حيث قال: إذا قال الشارع «كل ماء مطهّر» «وأنزلنا من السماء ماء طهوراً» وقال في دليل آخر: «النجس لا يطهر» ولم نشك على نحو الشبهة الموضوعية في أنّ هذا الماء نجس أم لا؟ بل كان شكنا على نحو الشبهة الحكمية أن الماء المتحصّل من بخار المتنجس هل هو نجس شرعاً أم لا؟ هذا الماء كان متنجس تحول إلى بخار والبخار صار ماءً، فالماء المتحول من البخار للمتنجس هل هو نجس شرعاً؟ شبهة حكمية. فيقول السيد الصدر: نتمسك بالعام بقوله «كل ماء مطهّر».

إن قلت: إن قوله «كل ماء مطهّر» خرج عنه النجس، ونحن لا ندري ان هذا نجس أم لا؟ فهذا تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية؟

يقول: لا، هذه الشبهة المصداقية يجوز التمسك بالعام فيها، لأنها في الوقت الذي هي شبهة مصداقية هي شبهة حكمية، والشبهة الحكمية لا تعلم الا من قبل الشارع، فنرجع للعام في تنقيحها.

فنطبّق ذلك على المقام، لأن المقام في الشبهة الحكمية، ماذا نقول لو قال الشارع: «صلِّ في كل ساتر» وقال في دليل آخر: «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» وشككنا على نحو الشبهة الحكمية في أن جلد الارنب مما يؤكل أو مما لا يؤكل؟ فنتمسك بعموم قوله «صلّ في كل ساتر».

راجعوا كلام السيد الصدر في بحوثه: «ج3، 324» قال: الحالة الثانية: أن تكون الشبهة المصداقية في نفسها شبهة حكمية.

والحمد لله رب العالمين.