الدرس 104

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق ان الوجه الاخير الذي استدل به على المانعية «مانعية ما لا يؤكل لحمه» مانعية علمية لا واقعية، بأن المانعية مستفادة من النهي الغيري، والنهي التكليفي إنما يكون فعليا حال العلم به، فمقتضى ذلك تضيق المانعية لفرض العلم بها. وذكرنا انه اشكل على الاستدلال بعدة إشكالات كانت آخرها: ما ذكرها المحقق العراقي «قده»: من أن ضيق المانعية واختصاصها بالعلم لا يعني صحة الصلاة في فرض الجهل بالمانعية فإن النهي الغيري وإن دلّ على تضيق المانعية بالعلم لكنه دال على ان ملاك المانعية وهو المفسدة عام لفرض العلم والجهل، فبلحاظ الملاك تبطل الصلاة، فالمانعية وإن كانت علمية إلّا انه لما كان ملاكها عاما حتى لفرض الجهل فمقتضى عموم ملاكها فساد الصلاة.

وقلنا انه بنى ذلك اما على استفادة الملاك من باب الدلالة الإلتزامية وعدم تبعيتها للمطابقة في الحجية، واما من باب الدلالة العقلية أي دلالة الاقتضاء.

ولكن ان كلامه يتم كما اشار اليه هو: بأن حكم العقل بإناطة فعلية النهي لفرض العلم من القضايا النظرية لا من القضايا التكليفية، فاذا قلنا بأن تبعية النهي للعلم بمعنى: ان لا يكون النهي فعليا الا في حالة العلم، هذه التبعية مما يحكم بها العقل لكن هذا الحكم ليس بديهيا وبما انه ليس حكما بديهيا فيهو بمثابة المخصص المنفصل، ولازم ذلك ان النهي انعقد ظهوره في رتبة سابقة في ان ملاك المانعية أعم من العلم والجهل، أما لو قلنا: بأن حكم العقل ان النهي لا يكون فعليا الا بوصوله هذا حكم بديهي فهو حاف بالنصوص احتفاف القرينة المتصلة، ومقتضى ذلك انه من اول الامر لا ظهور للنهي في عموم الملاك لحالة العلم والجهل، بل من الاول ما يكون النهي ظاهرا فيه هو الاختصاص بحال العلم من جهة فعلية النهي ومن جهة ملاكه ومن جهة المانعية المترتبة على ذلك. فالصحيح في مناقشة الاستدلال: هو ما ذكره المحقق النائيني وسيدنا الخوئي والمحقق العراقي «قده». من ان النهي هنا ارشادي وليس مولوياً، صحيح ان المانعية مستفادة من النهي، أما النهي ليس مولويا حتى يقال: لا فعلية له حتى في حال العلم، بل هو مجرد نهي إرشادي فلا يتضيق مفاده بفرض الوصول والعلم.

تم بذلك الكلام حول بحث «هل ان المانعية علمية أم واقعية؟». ثبت بذلك أنه لم ينهض دليل على اختصاص المانعية بفرض العلم، فمقتضى الاطلاقات كونها مانعية واقعية.

لكن وقع الكلام في النقطة الثانية، - كما ذكرنا اول البحث - انه على فرض ان المانعية واقعية، لو ان الانسان اتى بالصلاة في ثوب مشكوك، هل يمكن تصحيح صلاته - مع ان المانعية واقعية - في ثوب مشكوك من حيث كونه مما يؤكل لحمه أو مما لا يمكن؟ أم لا يمكن تصحيح صلاته؟ فهنا تعرض المحقق النائيني بعنوان:

الامر الخامس: «ص174»: بعد الفراغ عن كون المانعية في المقام مطلقة غير مقصورة بصورة العلم لموضوعها، فقد تشبثوا لجوازها «لجواز الصلاة» في المشتبه «في الثوب المشكوك» بوجوه:

الوجه الاول: ما ذكره المحقق النراقي في «المستند» من ان لدينا مجموعة روايات مترتبة بإمارية سوق المسلمين، وظاهر هذه الروايات الواردة في إمارية سوق المسلمين: أن الثوب الذي يؤخذ من سوق المسلمين يصح الصلاة فيه وان شك في أنه مما يؤكل أو مما لا يؤكل، مقتضى اطلاق هذه النصوص هو ذلك، أن ما يؤخذ من سوق المسلمين وان شككنا انه مما يؤكل أو مما لا يؤكل.

وهذه النصوص: في «الوسائل، ج4، ص456»:

منها: موثقة اسحاق بن عمار: «الحديث3، باب55، من أبواب لباس المصلي» عن العبد الصالح، انه قال: «لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وما صنع في ارض الاسلام، قلت: فإن كان فيها غير اهل الاسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس».

إذن مقتضى اطلاق الرواية صحت الصلاة فيما يؤخذ من ارض الإسلام، فهذا اعم من سوق المسلمين، ان ما يؤخذ من ارض الاسلام تصح الصلاة فيه وان شك في انه مما لا يؤكل.

ومنها: معتبرة جعفر ابن محمد ابن يونس «الحديث4، نفس الباب»: «ان اباه كتب الى ابي الحسن يساله عن الفرو والخف ألبسه وأصلي فيه ولا اعلم انه ذكي؟ فكتب: لا بأس به».

هذه الرواية يضم اليها رواية علي ابن ابي حمزة «الحديث 2، من الباب 2، من أبواب لباس المصلي، ص346».

«قال: سالت ابا عبد الله وابا الحسن ع عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال: لا تصلي فيها الا ما كان منه ذكيا. قلت: أوليس الذكي مما ذكي بالحديد؟ قال: بلى إذا كان مما يؤكل لحمه».

ظاهرها ان عنوان الذكي ليس فقط انه مذبوح على الطريقة الشرعية بل مما يؤكل لحمه. هذه الروايات تدل على جواز الصلاة فيما يؤخذ من ارض الاسلام وان احتمل انه مما لا يؤكل. هذا الدليل الاول.

الدليل الثاني _الذي ساقه المحقق النراقي_: لازم عدم صحة الصلاة إلا فيما احرز انه مأكول اللحم «الحرج»، ومقتضى دليل «نفي العسر والحرج» ارتفاع هذه الشرطية، لأن استمرارها أو اطلاقها حرج على المكلفين بلحاظ ابتلائهم كثيرا بجلود ما لا يؤكل.

الدليل الثالث: وبدعوى السيرة العملية، _قامت سيرة الناس على انهم لا يتحرزون في المشكوك بل يصلون فيه سيرة متشرعية قائمة على ذلك_، وقد جمع المحقق النراقي الأدلة الثلاثة في «المستند، ج4، ص316» قال:

ولكن تعارضها «تعارض موثقة ابن بكير التي قالت: إنّ الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فاسدة» الأخبار المصرحة بجواز الصلاة في الجلود التي تشترها من سوق المسلمين، وما يصنع في بلد كان غالب أهله المسلمين، من غير مسألة وتعارضهما بالعموم من وجه، لأن تلك التي تقول «الموثقة»: «إن الصلاة فيما لا يؤكل فاسدة». عامة ما لا يؤكل اخذ من سوق المسلمين أو من غيرهم. وهذه التي تقول: ما اخذ من سوق المسلمين تصح الصلاة فيه، عامة لما احرز انه مما يؤكل ولما شك أنه مما يؤكل. فبينهما عموم من وجه، فيتساقطان، والاصل هو الجواز، وهو الأظهر ويؤيده عمل الناس «السيرة» بل اجماع المسلمين، حيث لم يعلم كون اكثر الثياب المعمولة من الصوف مما يؤكل جزما ومع ذلك يلبسها الناس من العوام والخواص في جميع الاعصار والامصار ويصلون فيها من غير تشكيك ولا انكار، بل لولاه «الصحة» للزم العسر والحرج على الأكثر.

الدليل الرابع: وتشبث بعض من عاصرناه بدليل رابع على جواز الصلاة في الثوب المشكوك، وهذا الدليل الرابع مؤلف من مقدمات:

المقدمة الاولى: قامت الروايات على جواز الصلاة في الخز ابتداءً على طوائف اربعة:

الطائفة الاولى: ما دلَّ على جواز الصلاة في الخز في الجملة، راجع: «الباب8، من أبواب لباس المصلي» رواية سليمان بن جعفر الجعفري قال: رأيت الرضا يصلي في جبة خز».

وصحيحة علي ابن مهزيار «الحديث 2»: «رأيت أبا جعفر الثاني يصلي الفريضة وغيرها في جبة خز طاروني، وكساني جبة خز وذكر انه لبسها على بدنه وصلى فيها، وامرني بالصلاة فيها».

وصحيحة زرارة «الحديث 3» قال: «خرج ابو جعفر يصلي على بعض اطفالهم وعليه جبة خز صفراء ومطرف خز اصفر». وأيضا عدة روايات ذكرت ان الحسين قتل وعليه جبة خز.

«الحديث 7، الباب 10» عن صفوان عن يوسف ابن ابراهيم قال: «دخلت على أبي عبد الله وعليه جبة خز وطيلسان خز، فنظر الي، فقلت جعلت فداك، عليّ جبة خز وطيلساني، فقال وما البأس في الخز، ثم قال: قد اصيب الحسين وعليه جبة خز»

في الرواية التي بعدها، عن جابر، عن ابي جعفر، قال: «قتل الحسين ابن علي وعليه جبة خز دكناء».

الطائفة الثانية: ما دلَّ على الجواز حتى في المغشوش بوبر الارانب.

لاحظوا رواية: بشر ابن بشار، «الحديث2، الباب9»: «قال: سألته عن الصلاة في الخز يغش بوبر الأرانب؟ قال: يجوز ذلك».

الطائفة الثالثة: ما دلَّ على الجواز في الخالص لا في المغشوش.

رواية: ايوب ابن نوح، «حديث1، باب9»: «قال أبو عبد الله الصلاة في الخز الخالص لا بأس به، فأما الذي يخلط فيه وبر الارانب أو غير ذلك مما يشبه هذا فلا تصلي فيه». وذلك حملوا رواية بشر ابن بشار على التقية. هذه المقدمة الاولى. بعد ذلك نقول: قامت الروايات على جواز الصلاة في الخز.

المقدمة الثانية: مقتضى إطلاق هذه الروايات شمولها لما يحتمل غشه، لأنّها في مقام بيان الوظيفة الفعلية، ومقتضى الاطلاق المقامي جواز الصلاة فيما يصدق عليه انه خز ولو كان محتمل المغشوشية بوبر الارانب، لان الغش بوبر الارانب كان فردا متعارفا كثيرا فعندما يقول الشارع: صل فيما هو خز، مع التفاته مع ان كثيرا من الخز مغشوش بوبر الارانب، مقتضى الاطلاق المقامي لتجويز الصلاة في الخز مع الالتفات مع أن من أفراده المتعارفة ما هو مغشوش من وبر الارانب جواز الصلاة فيما يحتمل انه مغشوش حيث لم ينبه على ذلك.

المقدمة الثالثة: مقتضى القطع بعدم الخصوصية بجواز الصلاة في اللباس المشكوك من اصله.

اذا جازت الصلاة في الخز المشكوك في انه مغشوش جازت الصلاة في اللباس المشكوك من اصله هل هو مما يؤكل أو مما لا يؤكل جازت الصلاة فيه لعدم احتمال الخصوصية. تصدى المحقق النائيني الى الدليل الأخير، قال: يلاحظ عليه:

أولاً: بأن قول الامام : «يجوز الصلاة في الخز» هل موضوع الجواز الخز الحقيقي؟ أو جواز الصلاة الموضوع العرفي؟ يعني ما يصدق عليه انه خز.

فاذا قال الإمام «يجوز الصلاة في الخز» فالمتبادر منه الخز الحقيقي لا الخز العرفي يعني ما صدق عليه عرفا انه خز، فاذا كان المستظهر هو الخز الحقيقي، فبعض الروايات وهي الطائفة التي دلّت على عدم جواز الصلاة في المغشوش ليس قيدا احترازياً بل قيد توضيحي، تريد ان تقول: ان المغشوش خارج عما هو موضوع الجواز خروجا تخصيصا لأنه اساسا ليس من الخز. فاذا شككنا في أن هذا الخز هل هو مغشوش بوبر الارنب أم لا؟

إذن فالشك شبهة مصداقية لدليل الجواز نفسه، ومع كونها شبهة مصداقية لدليل الجواز لأن موضوع الجواز الخز الحقيقي، فاذا شككنا انه مغشوش أم لا؟ كان التمسك بدليل الجواز تمسكا بالدليل في الشبهة المصداقية لنفس موضوع الدليل، وهذا لا كلام في عدم جوازه.

وإن قلتم ان المراد بالخز الخز العرفي، ما يسمى خزاً تجوز الصلاة فيه. وقد يقول احد نعم هذا هو الظاهر من النص بمقتضى الاطلاق المقامي فإن وجود الخز الحقيقي فرد نادر،، فعندما يقول الامام «يجوز الصلاة في الخز» أو «انا اصلي في الخز» فمقتضى الاطلاق المقامي ان المراد به الخز العرفي، أي ما يسمى خزاً.

وبناء على ذلك: فالنصوص التي قالت: لا تصلي في المغشوش، تكون قيدا احترازيا، لا قيدا توضيحياً. ومقتضى الجمع بين المطلق والمقيد ان تكون النتيجة: ان موضوع الجواز الخز الذي ليس مغشوشاً، فاذا شككنا في ان الخز مغشوش أم لا؟ كان التمسك بالدليل تمسكا به في الشبهة المصداقية للمخصص لا الشبهة المصداقية لنفس الموضوع، كما قلنا في المناقشة السابقة.

ويلاحظ على هذا الاستدلال: _الذي افاده المحقق النائيني وذكرها سيدنا الخوئي أيضاً_:

أما ان تسلموا بالمقدمة الثانية للاستدلال أم لا؟ المقدمة الثانية هي: أن الفرد المغشوش بوبر الارانب فرد شائع متعارف، لأجل انه شائع متعارف مقتضى الاطلاق المقامي لجواز الصلاة في الخز جواز الصلاة فيما يشك انه مغشوش أم لا، وإلا لو لم كن جائزا لكان وضع الجواز بي العامي لغواً. إذا هذه المقدمة لم نسلم بها، قلنا ليس مقتضى الاطلاق المقامي لجواز الصلاة في الخز جواز الصلاة في المشكوك في كونه مشكوكاً، ما نسلم بأصل هذه المقدمة لان المغشوش وان كان فردا متعارفا لكن تحصيل الخز الخالص ليس صعباً إذ يمكن تحصيل الخز الخالص بعلم أو علمي، فلا نسلم بأن الاطلاق المقامي لدليل جواز الصلاة في الخز جواز الصلاة في المغشوش. فاصلا انهدم الاستدلال لا نحتاج الى الاشكال انه تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية. واذا تسلمون بهذه المقدمة وان مقتضى الاطلاق المقامي جواز في مشكوك انه مغشوش، إذن بالنتيجة بعد التسليم بذلك يكون المشكوك في كونه مغشوشا فردا واقعيا من افراد موضوع الجواز لا انه فرد مشكوك كي يكون التمسك بالدليل فيه تمسكا بالدليل في الشبهة المصداقية. هذه مناقشتهم الاولى.

المناقشة الثانية: احتمال الخصوصية، يعني المناقشة الثانية محصلها: جوزنا الصلاة في المشكوك في كونه مغشوشاً، لكن التعدي الى كل ما يشك انه مما لا يؤكل، من أين؟

والحمد لله رب العالمين.