الدرس 105

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: انه استدل على جواز الصلاة في الثوب المشكوك بأدلة. ووصل الكلام الى:

الدليل الرابع: وهو أنه ما دلَّ على جواز الصلاة في الخز دالٌّ على جواز الصلاة فيما يشك في أنه مغشوش بوبر الأرانب أم لا؟ باعتبار كون المغشوش فردا شائعاً. فاذا ثبت جواز الصلاة في المشكوك في كونه مغشوشاً ثبت جواز الصلاة في المشكوك في أنه مما لا يؤكل لحمه أم لا؟ لعدم احتمال الخصوصية، وذكرنا في جوابه: ان الخصوصية محتملة. وبيان ذلك: ان جواز الصلاة في الخز نفسه هو استثناء باعتبار ان الخز مما لا يؤكل لحمه فجواز الصلاة في جلد الخز هو في حد ذاته استثناء من القاعدة حيث ان مقتضى القاعدة هو عدم جواز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه، فاذا جوز الشارع الصلاة في الخز فهو استثناء. فاذا كان جواز الصلاة في الخز استثناء من القاعدة فشمول هذا الدليل التعبدي لما يشك في كونه مغشوشا لا يتعدى عنه الى ما يشك في كونه مما لا يؤكل لحمه من غير الخز بلحاظ خصوصية، حيث إن في الصلاة في الخز خصوصية إذن من المحتمل ان تكون الصلاة في المشكوك في كونه خزا مغشوشا أم لا؟ ايضا خصوصية، فالتعدي بلا وجه، والكاشف عن كون الصلاة في الخز ذات خصوصية ما يظهر من النصوص من انه حيوان لا يؤكل لحمه.

ومنها: رواية ابن ابي يعفور «ح4، ب8، من ابواب لباس المصلي» قال: «كنت عند ابي عبد الله إذ دخل عليه رجل من الخزازين، فقال له جعلت فداك، ما تقول في الصلاة في الخز؟ قال: لا بأس بالصلاة فيه، فقال له الرجل: جعلت فداك انه ميت، وهو علاجي، وانا اعرفه، فقال له أبو عبد الله انا اعرف به منك، فقال له الرجل إنه علاجي وليس احد اعرف به مني، فتبسم ابو عبد الله اتقول انه دابة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فاذا فقط الماء مات؟ فقال صدقت جعلت فداك، فقال له أبو عبد الله إنك تقول إنها دابة تمشي على أربع وليس هو في حد الحيتان _اي ليس من سنخ السمك حتى يكون له فلس أو ليس له فلس حتى يكون حلالاً أم إذا كان له فلس_ فتكون ذكاته خروجه من الماء، فقال الرجل اي والله هكذا اقول، فقال له أبو عبد الله فإن الله تعالى أحلَّ وجعل ذكاته موته كما أحل الحيتان وجعل ذكاتها موتها».

فعلق الاعلام منهم صاحب الوسائل قال: ذكر جماعة من علمائنا «ص360، ج4» انه ليس المراد هنا حل لحمه، بل حل استعمال جلده ووبره والصلاة فيهما. لانه إذا كان مما يمشي على اربع وليس من سخ الحيتان فليس له فلس، فحرمة اكله واضحة بالضرورة، اذن فوضوح حرمة اكله بمثابة القرينة المتصلة بالرواية الموجبة لانصراف الحل فيها الى حل الاستعمال.

ومنها: صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج، «ج1، ب10» قال: سأل ابا عبد الله رجل وأنا عنده عن جلود الخز، فقال ليس بها بأس، فقال الرجل جعلت فداك إنها علاجي، وإنما هي كلاب تخرج من الماء، فقال ابو عبد الله إذا خرجت من الماء تعيش خارجه؟ فقال الرجل: لا، فقال ليس به بأس».

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالروايات الواردة في حلية الصلاة في الخز. وقد تبين المناقشة في هذا الاستدلال.

ثم عاد المحقق النائيني «قده» إلى الأدلة السابقة التي استدل بها على جواز الصلاة في اللباس المشكوك، من هذه الادلة: ما استدل به المحقق النراقي «قده»:

ان ما دل على امارية سوق المسلمين وامارية ارض الاسلام على اطلاقه دال على ان ما يؤخذ من سوق المسلمين أو ارض الاسلام تجوز الصلاة فيه، ولو كان مشكوكاً. فحينئذٍ يصح التمسك بذلك لإثبات جواز الصلاة في المشكوك المتخذ من بلاد المسلمين.

وأشكل المحقق النائيني على هذا الاستدلال بإشكالين:

الإشكال الاول: ان سياق الروايات الواردة في سوق المسلمين أو ارض الاسلام ناظر لاحتمال الميتة لا اكثر، بمعنى ان هذه الروايات لا تعالج احتمالا آخر، وانما تعالج فقط احتمال الميتة، اي انه إذا شك في ان هذا الحيوان المأخوذ من ارض الاسلام أو من سوق المسلمين مذكى أم ميتة؟ فجاءت هذه الروايات لدفع هذا الاحتمال وإثبات انه مذكى، فهي لا تعالج الا نفي احتمال الميتة، وأما احتمال انه مما يؤكل أو مما لا يؤكل، فلا نظر في هذه النصوص له، ولذلك افتى المشهور من الفقهاء: انه إذا شك في أن السمك الموجود في سوق المسلمين من ذوات الفلس أم لا؟ فلا يصح الاستناد الى السوق لإثبات انه من ذوات الفلس لأن السوق غاية ما تثبت أو غاية ما تنفي احتمال الميتة لا انها تتعرض للشرائط الأخرى، فهل انه مما يؤكل أو مما لا يؤكل، هل هو من ذوات السبع أم لا؟ هل له فلس أم لا؟ هذه الروايات ليست ناظرة الى ذلك.

قد يقول قائل بأن هذه الروايات مطلقة؟ مثلاً: موثق اسحاق ابن عمار «ح3، ب55، من ابواب لباس المصلي» عن العبد الصالح أنه قال: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وما صنع في أرض الإسلام، _اي سواء كان الشك في تذكيته أو الشك في كونه مما يؤكل أو مما لا يؤكل، مطلقة_ قلت: فإن كان فيها غير اهل الاسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس».

المدار على الغلبة، يعي لا بأس بالصلاة فيها سواء كان شكك من جهة التذكية أو كان شكك من جهة انه مما يؤكل أو مما لا يؤكل.

فقد يجاب عن ذلك:

بأن السياق المجموعي ان لم يصلح قرينة على كون نظر الرواية لمسألة دفع احتمال دفع احتمال الميتة فلا اقل انه مانع من احراز الاطلاق، وقد ذكرنا في الاصول: ان الاعلام لم يبحثوا الدلالة السياقية في الاصول مع انها من اهم ادوات الاستنباط المشتركة فتحتاج الى تحقيق وفهم.

من أقسام السياق: السياق المجموعي، ومن مصاديق السياق المجموعي: ورود الروايات في باب واحد، أو تلقينا هذه الروايات في باب واحد من قبل ارباب التنصيف في الحديث كالمحدثين الثلاثة، فإذا وردت الروايات في باب واحد، أو تلقيناها ممن ادرك الاصول الاربعمائة في باب واحد فورودها في باب واحد ناظر لدفع احتمال الميتة يكون هذا السياق المجموعي مانعا من احراز اطلاق الرواية لعلاج آخر أو لنفي احتمال آخر، فالسياق المجموعي ان لم يكن قرينة عرفية على تحديد المراد فلا اقل انه مانع من احراز اطلاق الرواية الواردة في نفس الباب. وإذا لاحظتم الروايات كلها ناظرة للتذكية. مثلا:

معتبرة احمد ابن محمد ابن أبي ناصر، «سالته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية؟».

رواية عبد الله ابن المغيرة، «ح2»: «رجل سال أبا عبد الله وأنا عنده عن الرجل يتقلد السيف ويصلي فيه؟ قال نعم، قال أن فيه الكيمخت، قال ما الكيمخت؟ قال جلود دواب منه ما يكون ذكي ومنه ما يكون ميتة، قال: ما علمت انه ميتة فلا تصلي فيه».

ومعتبرة جعفر ابن محمد ابن يونس: «أن اباه كتب الى ابي الحسن يسأله عن الفرو والخوف ألبسه واصلي فيه لا اعلم انه ذكي، فكتب: لا بأس به».

وغير ذلك من روايات الباب.

وزاد المحقق النائيني «قده» بأن ما كان محل الابتلاء والاحتكاك مع العامة هو عدم مبالاتهم لشروط التذكية واستحلالهم لذبائح اهل الكتاب، واستحلالهم للميتة المدبوغة، فلأجل ان اجواء الروايات كانت هي اجواء ابتلائنا بالعامة حيث إن بأيديهم مقاليد سوق المسلمين، والعامة لا يبالون بشرائط التذكية أو يستحلون ذبائح اهل الكتاب أو يستحلون الميتة المدبوغة، فجاءت الروايات في هذه الأجواء، ومقتضى ورودها فهذه الاجواء عدم احراز اطلاقها للنظر الى دفع احتمال ان هذا المأخوذ من سوق المسلمين هو مما يؤكل أو مما لا يؤكل. للنظر الى دفع احتمال ان هذا المأخوذ من سوق المسلمين هو مما يؤكل أو مما لا يؤكل.

وأما رواية علي ابن ابي حمزة التي قال فيها: «اوليس الذكي مما ذكي بالحديد؟ قال: بلى إذا كان مما يؤكل لحمه» فغاية مفادها انه يشترط في صحة الصلاة مضافاً الى التذكية ان يكون مما يؤكل لحمه، لا ان منظور روايات الباب الدالة على امارية سوق المسلمين أو امارية ارض الإسلام نفي احتمالا الشك في أنه مما يؤكل أو مما لا يؤكل، غاية هذه الرواية أنها اضافت قيدا آخر للصلاة وهو ان لابد من ان يكون مما يؤكل لحمه.

الاشكال الثاني: قد يقال ان هذه الروايات واردة على نحو القضية الخارجية، فهي ناظرة للجلود واللحوم والأوبار المستعلمة في ذلك الزمان. لأنها إذا كانت واردة على نحو القضية الخارجية، فتقول: البسوا وصلوا، أو تقول: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وما صنع في ارض الإسلام. إذن هي ناظرة للجلود والأوبار المستعملة في ذلك الزمان.

وبما أن وجود المشكوك في كونه مما يؤكل أو مما لا يؤكل فرد متعارف في السوق إذن بالنتيجة مقتضى ورود الروايات على نحو القضية الخارجية ونظرها للجلود المستعملة وكون المشكوك فردا متعارفا منها، مقتضى عدم تنبيه الامام على انه ان شككت في انه مما يؤكل أو مما لا يؤكل فتنجب، مقتضى الاطلاق المقامي هو جواز الصلاة في المشكوك فيها من هذه الحيثية.

اجاب عن ذلك المحقق النائيني قال: إذ بعد ما عرفت أن مساق هذه الروايات مساق القضايا الخارجية فلا جرم يتوقف صحة هذه الدعوى «الاطلاق المقامي» على العلم بأن ما كانت الفراء والخفاف تعمل منه في ذلك الزمان مردد بين ان يكون من جلود المأكول أو غيره، اي لازم تحرزوا ان المشكوك فرد متعارف شائع في ذلك الزمان، ولكنه ليس كذلك، ذكر شاهدين:

الشاهد الاول: قال المتعارف في بلاد العرب الذي وردت فيه النصوص هو الانعام، لا الفيل أو الاسد أو ما شابه، فإن المتعارف في بلاد العرب وما يتخذ منه الجلد والوبر هو الانعام، نعم قد يأخذون من الارنب أو يأخذون الخز، إلا انه ليس بالنحو المتعارف كما في الانعام.

الشاهد الثاني: ان هذا لو كان فردا متعارفا لورد في الروايات، ومن هنا لا عين ولا اثر للسؤال مما كان يعمل في الصوف والوبر في شيء من الروايات، لا أن الروايات تعرضت في انه إذا شككت انه وبر ثعلب أو شاة فما اصنع؟ إذا شككت انه وبر فيل أو كذا فماذا اصنع؟ ليس عندنا شيء من الروايات في ذلك، فلو كان لبان، فعدم بينونته في الروايات في الروايات شاهد على عدم كونه فرداً متعارفاً. فاذا لم يكن كذلك فحتى لو قلنا بأن هذه الروايات واردة على نحو القضية الخارجية مع ذلك ليس مقتضى اطلاقها المقامي هو صحة الصلاة في المشكوك بكونه مما يؤكلا أو مما لا يؤكل. ثم قال:

المناقشة الثالثة: لهذا الدليل: لا يبعد ظهور الادلة في ان اعتبار اليد في باب التذكية من فروع اعتبارها في الملكية.

ومحصل مناقشته تبتني على امرين:

الامر الاول: يقول ما دلَّ على ان يد المسلم امارة على التذكية لا لموضوعية في التذكية، بل لأن اليد إمارة على الملكية، فدلالة اليد على التذكية من صغريات وفروع دلالتها على الملكية. والسر في ذلك: ان الميتة لا تقبل الملك، ولا تقبل البيع والشراء، فاذا كانت الميتة غير قابل للملك، إذن فما دلّ على التذكية انما دل على التذكية لأنه دالّ على الملكية، فإذا وجدنا جلد شاة تحت يد مسلم فشككنا في ان هذا الجلد مذكى أم لا؟ قلنا يده امارة على الملكية، فاذا ثبت ان الجلد ملكه ثبت ان الجلد مذكى لأن الميتة غير قابلة للملك. فما دلَّ على التذكية إنما هو من صغريات دلالة اليد على الملكية.

الامر الثاني: حيث إن ما لا يؤكل كالأرنب والسنور والفيل والأسد مما يملك ويصح بيعه وشرائه، إذن فاذا وجدنا يداً على جلد وشككنا أنه مما يؤكل أو لا؟ فدلالة اليد على ملكيته لا تدل على أنه مما يؤكل، لأن ما لا يؤكل ايضا يصح ملكه وبيعه وشرائه. فلا يصح من النراقي «قده» ان يستدل بهذه الروايات الدالة على امارية المسلم على التذكية ان يستدل بها على انه مما يؤكل، لأن دلالة اليد على التذكية فرع دلالتها على الملكية، وحيث انما ما لا يؤكل لا يقبل الملك. فلا تدل اليد في دلالتها على الملكية على أن ما تحت اليد مما يؤكل.

ويلاحظ على ما افاده «قده»:

أولاً: بأن استدلال النراقي لا يدل على امارية اليد «يد المسلم» على التذكية، والسر في ذلك: أن هناك عناوين ثلاثة: سوق المسلمين، يد المسلم، تصرف المسلم. هل هذه امارات مستقلة؟ أم بعضها امارة على البعض الآخر؟ حيث ذهب المحقق الهمداني في «مصباح الفقيه» الى ان سوق المسلمين ليست امارة مستقلة وإنما سوق المسلمين امارة على الامارة، اي ان سوق المسلمين امارة على ان اليد يد مسلم ويد المسلم امارة على التذكية.

والثمرة المترتبة على ذلك: انه لو احرزنا ان اليد يد كافر مع ان السوق سوق المسلمين فلا يصح ترتيب آثار التذكية على ذلك.

لكننا إذا راجعنا النصوص وجدناها مطلقة، فإن النصوص الدالة على إمارية ارض الاسلام أو إمارة سوق المسلمين لا إشعار فيها بأن المنظور هو يد البائع وإثبات إسلامه، فمقتضى اطلاقها أنّ امارية ارض الاسلام أو سوق المسلمين امارة مستقلة فهي امارة على التذكية، لأجل ذلك نلتزم حتى لو أحرزنا ان البائع كافر، بما ان السوق سوق مسلمين، اي الغالب عليها المسلمون فمقتضى ذلك اثبات تذكية ما تحت يده. وأخترنا هناك: أن المراد بالغلبة ما اختاره السيد الشهيد «قده» الغلبة يعني «غلبة السيطرة على السوق» اي ان مقاليد السوق من الذبح بيد المسلمين، إذا كانت مقاليد الذبح بيد المسلمين كانت سوق المسلمين امارة على التذكية. كما ان هناك فرقاً بين يد المسلم وتصرف المسلم، حيث ذهب بعض الفقهاء الى ان يد المسلم بما هي يد امارة على التذكية، ولو لم تتصرف فيما تحت اليد تصرفا متوقفا على التذكية، فمثلا: لو وجدنا المسلم حامل اللحم، ولا ندري انه حامل اللحم ليقدمه أو حامل اللحم ليتلفه، فمن يقول: ان يد المسلم في حد ذاتها امارة على التذكية، يقول: لو اعرض عن هذا اللحم أو وهبه جاز اكله.

أما إذا قلنا وهو الصحيح: ان الدال على التذكية تصرف المسلم، ان يتصرف في اللحم تصرف المذكى ولو لم يكن له يد عليه. فإن هذا التصرف هو الكاشف عن التذكية، كما يظهر من رواية اسماعيل ابن موسى «عن الجلود والفراء يشتريها الرجل في سوق من اسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته؟ إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ _يعني من المخالفين_ قال : عليكم انتم ان تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه». فإن مفادها: ان التصرف المتوقف على التذكية إمارة على التذكية، لا أن الامارة هي يد المسلم، وبالتالي لا يصح الاشكال على النراقي في أنك استدلت بيد المسلم والحال بأن امارة يد المسلم على التذكية فرع إماريتها على الملكية، فهو لم يستدل بإمارية يد المسلم إنما استدل بإمارية سوق المسلمين وأرض الإسلام. فافهم.

والحمد لله رب العالمين.