الدرس 110

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في المانع الثالث في جريان البراءة الا وهو: دعوى أن جريان البراءة عن الأكثر لا يحل المشكلة لحاظ جريان استصحاب بقاء الوجوب.

وذكرنا انه اجيب عن هذا المانع بوجوه: الوجه الأول ما افاده سيدنا «قده» في مصباح الأصول: من ان المورد من موارد استصحاب الكلي من القسم الثاني، وفي ذلك المورد يكون استصحاب عدم الفرد الطويل حاكما على استصحاب الكلي إذا لم يكن له معارض، وبيان ذلك: أنه مثلاً: إذا أحرز المكلف أنه احدث، ولكن لا يدري انه احدث بالحدث الاصغر أم بالحدث الاكبر. فإذا لم يتوضأ فالاصول في الفردين متعارضة، أي ان استصحاب عدم الحدث الاكبر معارض باستصحاب عدم الحدث الاصغر فتصل النوبة لاستصحاب الكلي، استصحاب كلي الحدث فيترتب عليه مطلق آثار مطلق الحدث كحرمة مس المصحف من دون طهارة.

وأما إذا افترضنا انه توضأ وبعد ان توضأ شك ان الحدث الذي احدث به، هل هو الاصغر فقد ارتفع بالوضوء؟ أو هو الاكبر فما زال باقياً، فهنا الاستصحاب يجري في الفرد الطويل بلا معارض، أي استصحاب عدم حدوث الحدث الاكبر ولا يعارض باستصحاب عدم الحدث الاصغر لانه ارتفع قطعا فلا يجري فيه الاصل. فاذا جرى استصحاب عدم الفرد الطويل أي عدم الحدث الاكبر يكون حاكما على استصحاب كلي الحدث، فإنه يتعين ان يكون الحدث حينئذٍ الحدث الاصغر.

إذن بالنتيجة سيدنا الخوئي يقول: استصحاب كلي الحدث أو استصحاب الكلي في القسم الثاني إذا جرى الأصل في الفرد الطويل ولم يكن له معارض في الفرد القصير يكون الاصل الجاري في الفرد الطويل يكون حاكما على استصحاب الكلي، بلحاظ ان الشك في الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل، وإلا لو لم يشك في ذلك لقطع بارتفاع الكلي بارتفاع الفرد القصير.

وطبق ذلك هذا الكلام على محل كلامنا حيث قال: نحن علمنا بوجوب، لا ندري ان هذا الوجوب ضمن الاقل، أو ضمن الاكبر، وقد اتينا بالاقل، فإن كان الواجب هو الاقل فقد ارتفع، وان كان الواجب هو الاكثر فهو ما زال باقياً، فهل يجري استصحاب بقاء الوجوب من اجل تحصيل الاكثر؟

هنا افاد سيدنا «قده»: بأن استصحاب عدم وجوب الاكثر أو البراءة عن وجوب الاكثر، هذا الاصل حاكم على بقاء استصحاب الوجوب، لأن الشك في بقاء الوجوب مسبب عن الشك في وجوب الاكثر، فإذا جرى الاصل في جانب السبب وهو عدم وجوب الاكثر ارتفع الشك في المسبب وهو بقاء كلي الوجوب.

ويلاحظ على ما افاده «قده»:

أولاً: بأن التسبب هنا تسبب عقلي لا شرعي، أي كون الشك في بقاء الوجوب مسبب عن الشك في وجوب الاكثر هذه السببية عقلية وليست شرعية، يعني هما متلازمان عقلاً، متى ما شك في وجوب الاكثر فقد شك في بقاء الوجوب، فسببية الشك في وجوب الاكثر للشك في بقاء الوجوب سببية عقلية لا شرعية، وحكومة الاصل السببي على الاصل المسببي انما هي في فرض السببية الشرعية والسببية في المقام عقلية.

ثانياً: كلامه يتم لو سلمنا ان السببية شرعية، كلامه يتم في الاستصحاب لا في البراءة، يعني عندنا بقاء استصحاب الوجوب، عندنا استصحاب عدم وجوب الاكثر، يصح ان نقول: استصحاب عدم وجوب الاكثر حاكم على استصحاب بقا ء الوجوب، لان الاستصحاب اصل محرز، فيتصور فيه حكومته على الاستصحاب في الكلي، اما البراءة فلا يأتي كلامه فيه، البراءة عن وجوب الاكثر لا يصح حكومتها على استصحاب بقاء الوجوب، باعتبار ان البراءة غايته اصل مؤّمن وليس أصلا محرزاً، لذلك ذكرنا فيما سبق: ان البراءة عن التقييد لا تثبت الاطلاق، بينما استصحاب عدم التقييد يثبت الاطلاق، لأن الاستصحاب اصل محرز للواقع لا مجرد مؤمن فالبراءة عن وجوب الاكثر لا يصح حكومتها على استصحاب بقاء الوجوب، وانما يتصور هذه الحكومة في استصحاب عدم وجوب الاكثر على استصحاب بقاء كلي الوجوب. نعم، يصح له التعبير بالورود لا بالحكومة من حيث المنجزية، بيان ذلك:

استصحاب بقاء الوجوب، ما هو الغرض منه؟! هل الغرض من استصحاب بقاء الوجوب اثبات ان الواجب هو الاكثر؟ هذا اصل مثبت، استصحاب بقاء الوجوب لا يثبت ان الواجب هو الاكثر الا بالملازمة العقلية.

وإذا كان الغرض من استصحاب بقاء الوجوب هو المنجزية فقط، أي غرضنا من استصحاب بقاء الوجوب أن الوجوب الواقعي يتنجز عليك حتى بعد الاتيان بالاقل، ومقتضى المنجزية وجوب الموافقة القطعية فيجب عليك الاتيان بالاكثر، فالبراءة حينئذٍ تكون واردة _البراءة عن وجوب الاكثر_ ليست واردة على الاستصحاب، واردة على منجزية الاستصحاب لوجوب الموافقة القطعية، فإن استصحاب بقاء الوجوب ينجز الموافقة القطعية التي تتحقق بالاكثر، فالبراءة عن وجوب الاكثر تكون رافعة لهذه المنجزية وبالتالي يصح ان نقول: البراءة عن وجوب الاكثر واردة على الاستصحاب أي واردة على منجزيته لوجوب الموافقة القطعية.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الاستاذ «دام ظله» من ان الاثر تارة يترتب على الكلي، وتارة يترتب على الشخص والجزئي. فإذا ترتب الاثر على الكلي كان من موارد استصحا ب الكلي، واما إذا ترتب الاثر على الفرد كان من استصحاب الفرد المردد. بيان ذلك:

إذا قال المولى: إن وجد مؤمن في دارك يوم الجمعة فتصدق، وكان في الدار مؤمن يوم الخميس، ولكن إن كان ذاك المؤمن الموجود في الدار يوم الخميس فقد خرج قطعا قبل يوم الجمعة، وان كان الموجود في الدار يوم الخميس هو عمر فيحتمل بقائه على يوم الجمعة، فهنا لا يجري الاستصحاب في زيد ولا يجري الاستصحاب في عمر، لأن الأثر ليس مترتب على الفرد وهو كونه زيدا أو عمرا، الاثر مترتب على كلي وهو وجود مؤمن في الدار يوم الجمعة. فبما ان الاثر مترتب على الكلي إذن اقول: صحيح لا يجري الاصل في الفرد لكن يجري في الكلي، وجد مؤمن في الدار يوم الخميس اشك في بقائه الى يوم الجمعة استصحب بقائه. وهذا الاستصحاب من استصحاب الكلي من القسم الثاني وهو جاري وصحيح لأن الاثر للكلي لا للفرد، فعدم جريان الاصول في الفردين لا يضر بجريان الاستصحاب وترتب الأثر عليه. اما إذا افترضنا ان الاثر للفرد لا للكلي، أي قال المولى: إن وجد زيد المؤمن يوم الجمعة في دارك فتصدق، وان وجد عمر المؤمن في دارك يوم الجمعة فتصدق، فجعل الاثر للفرد نفسه، وافترضنا ان احدهما وجد يوم الخميس لكن ان كان الموجود زيد خرج قطعا قبل الجمعة، ان كان الموجود عمر يحتمل بقائه الى يوم الجمعة، هنا لا يصح اجراء الاصل لكلي المؤمن لانه ليس موطناً للأثر، لا يدخل في استصحاب القسم الثاني من اقسام الكلي، لابد ان نصب الاصل في الفرد، لانه هو موطن الاثر، اما لا يمكننا في الفرد لانه من الفرد المردد، إن كان الموجود زيد فقد خرج قطعا، ان كان الموجود عمر فهو مشكوك الحدوث، إذن بالنتيجة كيف نجري استصحاب بقاء الفرد وهو مردد بين مقطوع ومشكوك الحدوث، فليس عندنا شك في بقاء الفرد والاستصحاب متقوم بالشك في البقاء، فاذا دار الامر بين مقطوع الارتفاع ومشكوك الحدوث كيف يجري استصحا بقاق الفرد؟! هذه الكبرى التي ذكرها، طبقها في محل كلامنا:

قال في محل كلامنا: علمنا بوجوب، اما هذا الوجوب للأقل إما هذا الوجوب للاكثر، وان كان هذا الوجوب للاقل فقد ارتفع قطعا لأننا اتينا بالأقل، ان كان للأكثر فهو مشكوك الحدوث من الاول، يقول: الاثر في الوجوب لا للوجوب، الاثر لشخص الوجوب، فحكم العقل بلزوم الجري والامتثال وراء امر المولى ليس موضوعه طبيعي الامر موضوعه شخص الامر، متى ما صار الامر فعليا في حقك حكم العقل بلزوم الجري على طبقه، فموضوع حكم العقل شخص الوجوب، يعني الوجوب الفعلي في حق المكلف لا طبيعي الوجوب وطبيعي الوجوب، فبما ان الموضوع هو شخص الوجوب إذن لا معنى ان نجري الاستصحاب في الكلي، فنقول: نستصحب بقاء الوجوب.

وإذا جئنا للفرد الذي هو موطن الاثر فهو من الفرد المردد لان فرد الوجود مردد بين وجوب ارتفع قطعا بإتيان الاقل ووجوب مشكوك الحدوث، ومع كونه من الفرد المردد فلا معنى لجريان الاصل فيه، إذن لا يجري الاصل في الكلي لأنه ليس موطن الاثر ولا يجري الاصل في الفرد لأنه مردد بين مقطوع الارتفاع ومشكوك الحدوث.

لكن لأننا نختلف معه في المبنى، حيث نرى صحة جريان الاصل في الفرد المردد وفاقاً لشيخنا الاستاذ «قده». فإن الفرد له عنوانان: عنوان تفصيلي: قد لا يجري بلحاظه الاثر، وعنوان اجمالي: قد يجري بلحاظه الاثر، فحينئذٍ إذا وجد فرد يمكن ترتيب اثره الشرعي من زاوية عنوانه الاجمالي فلا يضر عدم امكان جريان الاصل فيه من زاوية عنوانه التفصيلي، مثلاً: إذا علمنا أن احدى الفريضتين باطلة إما الظهر، اما العصر، قطعا احداهما باطلة والأخرى نشك في بطلانها. لا يمكننا هنا اجراء قاعدة الفراغ في الظهر بعنوانها التفصيلي، يعني بعنوان انها ظهر ولا اجرا قاعدة الفراغ في العصر بعنوانها التفصيلي لتعارضهما حيث نعلم ببطلان احداهما، فجريان قاعدة الفراغ في الظهر بعنوانها معارض بجريان قاعدة الفراغ في العصر بعنوانها، لكن عدم جريان الفراغ في الفرد وهو فريضة الظهر والعصر بعنوانه التفصيلي لوجود المعارضة لا يمنع من ترتيب الاثر على الفرد نفسه لكن بعنوانه الاجمالي، فنقول: احدى الفريضتين معلومة البطلان فلا تجري فيها قاعدة الفراغ، والأخرى بعنوان الاخرى أو ما لم يعلم ببطلانه من الفريضتين، هذا العنوان وهو عنوان ما لم يعلم بطلانه نجري قاعدة الفراغ في الفرد الواقعي من زاوية عنوانه الاجمالي حيث يترتب اثر على اجراء القاعدة في الفرد بعنوانه الاجمالي، واثر جريان القاعدة فيه انه نكتفي بالاتيان بأربعة ركعات عما في الذمة.

وكذلك الكلام في الاستصحاب، فإنه يجري الاستصحاب في الفرد المردد لكن بعنوانه الاجمالي لا بعنوانه التفصيلي. مثلا: إذا وجدنا جلدا، لا ندري ان هذا الجلد ماخوذ من هذا الشاة المذكاة قطعا؟ أو من هذه الشاة الميتة قطعاً؟

هنا نقول: إذا نظرنا للفرد بعنوانه التفصيلي لا يوجد شك في البقاء لانه من الفرد المردد، إن كان مأخوذاً من هذه الشاة فهو مذكى قطعا، إن كان مأخوذاً من هذه الشاة فهو ميتة قطعاً. إذن هو دائر بين مقطوع التذكية وبين مقطوع عدم التذكية، فلا يجري الاصل في الفرد بعنوانه التفصيلي لأنه دائر بين مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء، لكن نجري الاستصحاب فيه، نفس الفرد، لكن بعنوانه الاجمالي فنقول: صاحب هذا الجلد لم يكن مذكى فهو الآن ليس بمذكى، لم يكن مذكى حال الحياة فهو ليس بمذكى بعد الممات، إذن بالنتيجة: يصح اجراء الاصل أي الاستصحاب في الفرد الواقعي لكن بعنوانه الاجمالي وهو عنوان صاحب هذا الجلد. في محل الكلام أيضاً نقول: يمكن اجراء الاصل في الفرد المردد، بأن نقول: حدث لدينا وجوب، يعني حدث لدينا شخص من الوجوب، لا ندري ذلك الشخص تعلق بالاقل فقط سقط قطعا، أو تعلق الاكثر فهو باق قطعا، بما اننا لا ندري، لا نجري لا في وجوب الاقل ولا في وجوب الاقل ولا في وجوب الاكثر، يعني لا نجريه في الفرد بعنوانه التفصيلي، ولكن يصح ان نجريه في الفرد بعنوانه الاجمالي، فنقول: شخص ذلك الوجوب _من دون تعيين اقل أو اكثر_ الذي دخل في عهدتنا صار فعليا في حقنا ونشك الآن في سقوطه وارتفاعه فنستصحب بقائه. إذن بالنتيجة: يجري الاصل في الفرد المردد بلحاظ عنوانه الاجمال.

الوجه الثالث: أن يقال: بأن مع غمض النظر عما مضى لا يزيد بقاء الوجوب عن العلم الاجمالي، يعني الحجة الاجمالي ليست احسن حالا من العلم الاجمالي الوجداني، لو كان لدينا علم اجمالي وجداني، هل يتنجز؟ لو كان لدينا علم اجمالي وجداني اما بوجوب الاقل وقد اتينا به أو وجوب الاكثر، هل هذا العلم منجزاً؟ يقول ليس بمنجز، العلم الدائر بين طرفين، طرف فرغنا عنه قطعا، طرف مشكوك من الاول، ليس العلم الاجمالي هنا منجزاً، لو كان لدينا علم اجمالي منجز بوجوب إما للأقل الذي اتينا به، واما للأكثر الذي هو مشكوك، لم يكن هذا العلم الاجمالي منجز، فكيف بالحجة الاجمالية وهي الاستصحاب، فاستصحاب بقاء الوجوب لا يزيد على العلم الاجمالي الوجداني بوجوب اما بالأقل أو بالاكثر، فإذا لم يكن العلم الاجمالي الوجداني منجزا فكيف بالاستصحاب؟!

الوجه الرابع: وهو وجه سليم من وجوه الاجابة عن هذا المانع ان يقال:

مع غمض النظر ولو سلمنا ان استصحاب الوجوب علم اجمالي بمثابة علم اجمالي منجز، بناء على مسلك الاقتضاء في العلم الاجمالي ترتفع المنجزية لوجوب الموافقة القطعية لجريان الخطاب المختص في احد طرفي العلم الاجمالي. فإذا علمنا اجمالا اما بنجاسة الماء أو بنجاسة التراب، يقولون: اصالة الطهارة في الماء تعارض اصالة الطهارة في التراب، وتجري اصالة الحل في الماء بلا معارض، لأن اصالة الحل خطاب مختص ولا معنى لجريانه في التراب، فينحل العلم الاجمالي حكماً بجريان الخطاب المختص في احد طرفيه بلا معارض.

هذا نطبقه على المقام، نحن علمنا اجمالا إما بوجوب الاقل أو بوجوب الاكثر. قال المشكل: يجري استصحاب بقاء الوجوب، قلنا له: بأن عندنا في المقام استصحاب عدم وجوب الاكثر، قال: لانهما تعارضان لا مرجح، لان استصحاب عدم وجوب الاقل لا يأتي باعتبار اننا اتينا بالاقل فلا معنى ان نجري الاصول في الاقل، إذن لدينا استصحاب عدم وجوب الاكثر واستصحاب بقاء الوجوب، يتعارضان، تصل النوبة لجريان البراءة عن وجوب الاكثر بلا معارض، فإن جريان البراءة عن وجوب الاكثر خطاب مختص، إذ لا معنى لجريان البراءة عن الوجوب الذي علمنا به، فتجري البراءة عن وجوب الاكثر بلا معارض وينحل بذلك العلم الاجمالي حكماً.

فتلّخص من ذلك: أن هذا المانع الثالث الذي أفيد لمنع جريان البراءة عن وجوب الاكثر، هذا المانع غير تام.

والحمد لله رب العالمين.