الدرس 111

دوران الأمر بين الأقل والأكثر

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

دخل البحث في الموانع الخاصة، بعد المفروغية عن ذكر الموانع العامة. والمراد بالموانع الخاصة ما كان مانعا من جريان البراءة في وجوب الاكثر في بعض الفروض أو على بعض المباني الفقهية دون البعض الآخر.

المانع الأول _ من هذه الموانع الخاصة_: ما ذكره المحقق العراقي «قده» في «المقالات، وفي نهاية الافكار» وهو يبتني على مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولى: حرمة قطع الفريضة، فبناء على هذه المبنى الفقهي وهو حرمة قطع الفريضة يتصور ورود هذا المانع الذي افاده، واما بناء على الجواز فلا يتم.

المقدمة الثانية: ان مورد هذا المانع ما إذا فات محل التدارك في الصلاة، مثلاً: إذا افترضنا ان المصلي شك في أن القيام المتصل بالركوع شرط في صحة الركوع أم لا؟ فأجرى البراءة عن شرطية القيام المتصل بالركوع وركع من دون قيام، كما لو افترضنا انه انحنى للأرض لأخذ شيء ومن انحنائه ارتفع الى هيئة الركوع ولم يأت بركوع عن قيام، ثم دخل في السجود، فلما سجد فات محل التدارك، فإنه حينئذٍ إذا كان الركوع والجزء هو ما كان عن قيام، فإن هذه الصلاة فاسدة لا محالة، إذ لا يمكنه التدارك بعد ما سجد.

ففي هذا الفرض المحقق العراقي يسجل المانع، أي في فرض فوت محل التدارك، فيقول: بأنه بعد ان سجد المكلف وقد اجرى البراءة عن شرطية القيام المتصل بالركوع، يحصل له علم اجمالي جديد، وهو أنه: ان كان القيام المتصل بالركوع ليس شرطاً فيجب اتمام هذه الصلاة التي ترك فيها القيام المتصل بالركوع من باب حرمة قطع الفريضة، ولذلك قلنا كلامه مبني على حرمة قطع الفريضة، وإن كان القيام المتصل بالركوع شرطا فيجب اعادة هذه الصلاة، إذن تشكل لدى المكلف علم اجمالي، اما القيام المتصل بالركوع ليس بشرط فيجب اتمام هذه الصلاة، اما القيام المتصل بالركوع شرط فيجب الاعادة، لان محل التدارك قد فات.

المقدمة الثالثة: أن هذا المانع الذي أفاده المحقق العراقي مبني على عدم جريان حديث لا تعاد في هذا المورد، إما لأن لا تعاد لا تشمل فرض الجهل حتى لو كان الجهل عن قصور، كما في محل الكلام، حيث إن المكلف جاهل بالشرطية أو الجزئية وقد اعتمد على حجة في ترك ما هو جزء أو ما هو شرط وهو جريان البراءة، فهو جاهل عن قصور، فإذا قلنا بأن لا تعاد كما هو مذهب المشهور ومنهم المحقق النائيني «قده»: ان لا تعاد لا تشمل الجاهل عن قصور، فلا تشمل موارد جريان البراءة في الاقل أو الاكثر، أو قلنا بأن لا تعاد تشمل الجاهل عن قصور الا ان الاخلال هنا ليس اخلال بالسنة، وانما هو اخلال بالفريضة، باعتبار انه اخل بالركوع والركوع من الفريضة لا من السنة، فالمانع الذي ذكره العراقي ناظر لفرض عدم جريان قاعدة لا تعاد، وفرض التسليم بحرمة قطع الفريضة، فلذلك يقول: قولكم كان لدينا علم اجمالي إما بشرطية القيام قبل الركوع أو لا بشرطيته، وهذا العلم الإجمالي انحل بعلم تفصيلي بأن الاقل واجب وشك بدوي في الشرطية فأجريتم البراءة عن الشرطية عقلا ونقلا، هذا كله ما لم يفت محل التدارك، كل ما ذكر في بحث الاقل والاكثر الارتباطيين كان قبل فوت محل التدارك، واما بعد فوت محل التدارك تولد علم اجمالي منجز، إما القيام شرط فتجب الاعادة أو ليس بشرط فيحرم قطع الفريضة، أي يجب الاتمام.

ثم ان المحقق العراقي «قده» اجاب عن هذا الاشكال، الإشكال له اجوبه: الجواب الاول: ما ذكره المحقق العراقي نفسه: قال: يمكن الجواب عن هذا المانع بنحوين: النحو الاول: ان يقال: بأن العلم الاجمالي الذي تنجز احد طرفيه بمنجز تفصيلي ليس منجزا لان المتنجز لا يتنجز، فاذا افترضنا ان لدينا علما اجماليا بأنه انا أما نذرت صلاة الظهر أو نذرت نافلة الظهر، والمفروض ان صلاة الظهر متنجزة بمنجز تفصيلي سابق، فهذا العلم الاجمالي السابق غير منجز، فإن المتنجز لا يتنجز.

كذلك في المقام: صحيح أنه بعد ان سجد ففات محل التدارك حصل لديه علم اجمالي بأنه: ان كان القيام شرطا فتجب اعادة الصلاة، ان لم يكن القيام شرطا يجب اتمام هذه الصلاة، لكن وجوب اتمام هذه الصلاة منجز بمنجز تفصيلي من الاول قبل ان يدخل في الركوع، فإنه قبل ان يتدخل في الركوع وكان متردداً هل ان القيام شرط في الركوع؟ أم ليس بشرط في الركوع؟ على أية حال في ذلك الوقت كان لديه علم تفصيلي بأنه يجب اتمام هذه الفريضة ويحرم قطعها، غاية ما في الباب انه ترك القيام وركع من دون قيام ثم سجد ففات محل التدارك، اما وجوب اتمام هذه الفريضة فهو منجز بمنجز تفصيلي من الاول. لذلك العلم الاجمالي الذي تنجز احد طرفيه بمنجز تفصيلي سابق ليس منجزاً.

ثم أشكل على نفسه بأنه: إن قلت: بأن المنجزية تدور مدار العلم حدوثاً وبقاءً، لان المنجزية من عوارض العلم، فاذا زال الموضوع زال عارضه، والمفروض ان العلم التفصيلي قد زال، هذا العلم التفصيلي كان قبل فوت محل التدارك، فإنه قبل ان يركع كان يقول: انا اعلم اجمالاً إما أن الواجب الركوع بشرط القيام أو ان الواجب الركوع لا بشرط، وهذا العلم الاجمالي الدائر بين الاقل والاكثر قد انحل لعلم تفصيلي، وهو يجب عليّ الصلاة مع الركوع على كل حال وشك بدوي في وجوب الاكثر وهو جوب الاتيان بالقيام قبل الركوع، وبعد ان انحل العلم التفصيلي وشك بدوي اجريت البراءة عن شرطية القيام. ثم بعد ان ركعت بلا قيام وسجدت فات محل التدارك ذاك العلم التفصيلي الذي كان عندي بأنه يجب اتمام الصلاة المشتملة على ركوع بلا قيام ذاك العلم التفصيلي زال وتبخر وأتى علم اجمالي مقارن لزوال ذلك العلم التفصيلي فكيف تبقى منجزية العلم التفصيلي حتى بعد زواله؟ والحال ان المنجزية تدور مدار العلم حدوثا وبقاءً والمفروض أن العلم التفصيلي زال وتولد علم اجمالي مقارن لزوال العلم التفصيلي.

اجاب عن ذلك: قلنا: صحيح ان منجزية العلم فرع وجوده، لا معنى لمنجزية علم مع عدمه، إلا ان أثر المنجزية لا يشترط ان يكون في ظرف العلم فاذا وجد العلم نجز آثاره ولو بقي اثره حتى بعد زوال العلم، فالمنجزية تدور مدار العلم هذا صحيح، اما اثر المنجزية لماذا نحصره بفرض وجود العلم؟ متى ما وجد العلم نجز فتنجزت آثاره ولو كان بعض آثاره مستمرا حتى بعد زوال العلم، بل لا يعقل اصلا ان يكون الأثر في فرض العلم، دائما اثر المنجزية بعد زوال العلم، دائما أثر منجزية العلم لا يتحقق الا بعد زوال العلم اصلاً، فكيف نشترط في المنجزية ان يكون الاثر قائما حال وجود العلم، فإنه لا يوجد اعظم من العلم التفصيلي، والحال بأن اثر العلم التفصيلي بعد زوال العلم التفصيلي. مثلا: علمت تفصيلاً بوجوب صلاة الظهر المؤلفة من كذا جزء وكذا شرط، ولكنني عصيت ذلك فأتيت بها من دون مراعاة ما هو المأمور به حتى فات الوقت، هنا العلم التفصيلي المنجز لوجوب صلاة الظهر قد زال، لأن اصلا يوجد صلاة الظهر، إذا زال الوجوب زال العلم به، نفس الوجوب لان الوقت انتهى، فإذا زال الوجوب زال العلم به أما ان الوجوب زال لزوال العلم به، لكن اثر المنجزية وهو استحقاق العقوبة عن المخالفة فعلي.

أو فقل: انسان علم بحرمة الغيبة تفصيلا فاغتاب، على اية حال حرمة تلك الغيبة التي اتى صدرت منه زالت لانه عصى وأتى بالغيبة فلا تبقى حرمتها بعد حصولها، حرمة تلك الغيبة التي أتى بها زالت فزال العلم بها، مع ان العلم التفصيلي بحرمة الغيبة قد زال مع ذلك اثر منجزية هذا العلم موجود وهو استحقاق العقوبة، دائما اثر منجزية العلم تفصيلا أو اجمالا، دائما اثر منجزية العلم يكون بعد زوال العلم، لأن اثر منجزية العلم تفصيلا أو اجمالا هو استحقاق العقوبة، واسحقاق العقوبة يكون في ظرف المخالفة، والمخالفة تكون بعد زوال الحكم نفسه إذ لا يبقى الحكم بعد مخالفته، فاذا زال الحكم زال العلم به، فدائما اثر منجزية العلم بعد زوال العلم، فكيف تشترطون في منجزيته ان يكون اثره حال وجوده والحال بأن اثر المنجزية دائما يكون بعد زوال العلم. هذا في العلم التفصيلي. فكيف في المقام؟:

حيث يعلم المكلف تفصيلا بأنه يجب الاتيان بهذه الصلاة ولو من دون قيام، واجرى البراءة عن شرطية القيام وركع من دون قيام، ثم سجد بعد ان سجد ذاك العلم التفصيلي بوجوب الاتيان بهذه الصلاة قد زال لانه اتى بها، يجب الاتيان بهذه الركعة من دون قيام طبّقه واتى بالركوع من دون قيام وأتى بالسجود، فالعلم التفصيلي بوجوب الإتيان بركوع من دون قيام ارتفع، لانه طبّقه وامثتله، الآن حدث علم اجمالي جديد، أما صحيح ان ذاك العلم التفصيلي زال وتبخر أما اثره وهو المنجزية يعني وجوب اتمام الصلاة ما زال باقياً، فبما ان أثر المنجز التفصيلي ما زال باقياً وهذا الاثر تنجز بمنجز سابق، فالعلم الاجمالي الجديد اما بوجوب الاتمام أو بوجوب الاعادة ليس منجزاً لتنجز احد طرفيه بمنجز سابق.

هذا هو النحو الأول من جواب المحقق العراقي.

النحو الثاني: المفروض ان احد طرفي العلم الاجمالي السابق مجرى للبراءة عقلاً، لأنه حينما علم أن الواجب عليه اما الصلاة المشتملة على ركوع مع قيام أو الصلاة المشتملة على ركوع لا عن قيام، اما هذا أو هذا.

هذا العلم الاجمالي قلنا انحل الى علم تفصيلي من ان الواجب الصلاة المشتملة على ركوع في الجملة، وأما شرطية القيام فهي مجرى للبراءة، فطرفه الاول تنجز تفصيلا، طرفه الثاني مجرى للبراءة، بما ان أحد الطرفين مجرى للبراءة فكيف يكون العلم الاجمالي الحادث بعد ذلك منجزاً؟ مع ان أحد الطرفين مجرى للبراءة عقلا ونقلا، والسر في ذلك: ان هذا العلم الاجمالي تولد من البراءة، فلو ان المكلف لو لم يجر البراءة وأحتاط واتى بالركوع مع القيام ما حصل له علم اجمالي اما بوجوب الاتمام أو بوجوب الاعادة، فالعلم الاجمالي تولد عن جريان البراءة، فاذا كان العلم متولدا عن البراءة فكيف يكون منجزاً وهو متولد من عدم المنجزية؟

ما كان وجوده وولادته في طول عدم المنجزية كيف يكون سببا للمنجزية؟

والحال بأنه لولا جريان البراءة العقلية ونفي وجوب الاتيان بالركوع عن قيام لولا جريان البراءة عن شرطية القيام ما حصل علم اجمالي، فإذا كان العلم الاجمالي مسبب عن الرخصة فكيف يكون رافعا لها؟ فإن لازم ذلك ان يلزم من وجوده عدمه، وهذا غير معقول.

إذن بالنتيجة: العلم الاجمالي الجديد وهو اما يجب الاتمام أو يجب الاعادة هذا العلم الاجمالي الجديد ليس منجزاً.

هكذا اجاب المحقق العراقي عن الإشكال.

ولكن في جوابه بالنحو الاول وجوابه بالنحو الثاني محل تأمل.

أما جوابه بالنحو الاول: وهو دعوى ان العلم أثره بعد زواله، ولم يجد له مثالاً يثبت به دعوى إلا فرض العلم التفصيلي وهو ما إذا علم بحرمة شرب الخمر فشربه، فقد قال بانه: الحرمة قد زالت فزال العلم بها، مع ذلك اثر منجزية العلم التفصيلي بالحرمة باقٍ وهو استحقاق العقوبة لأجل المخالفة، وهذا ليس صحيحاً، بلحاظ أن الذي حكم باستحقاق العقوبة على فرض المخالفة هو العقل، وحكم العقل ما زال باقيا، لمَ لم يزل؟ لان حكم العقل موضوعه حدوث العلم وليس موضوعه بقاء العلم، فهناك ثبت انه توجد خصوصية في المقام، حكم العقل باستحقاق العقوبة على فرض المخالفة موضوعه ان يوجد علم بتكليف، متى ما وجد علم بتكليف

حكم العقل باستحقاق العقوبة على فرض المخالفة، ولا يتغير هذا الحكم العقلي بحصول المخالفة خارجا أو عدم حصولها.

إذن بالنتيجة: هنا خصوصية في المقام وهي: أن الاثر في المقام هو استحقاق العقوبة لأجل المخالفة، وهذا الأثر حكم عقلي ويكفي في هذا الحكم العقلي العلم بحدوث بالتكليف أو حدوث العلم بالتكليف.

هذا لا يصح ان يعتبر قاعدة بأن نقول: دائما وابداً اثر منجزية العلم بعد زوال العلم، فإنما مثلت به اثر معين وهو استحقاق العقوبة على فرض المخالفة، وهذا الاثر المعين بما انه اثر عقلي موضوعه حدوث العلم بالتكليف لا بقائه، فبلحاظ هذا الاثر نعم يبقى هذا الاثر حتى بعد زوال العلم، لأن موضوعه اصلا حدوث العلم، أما في الآثار التي تدور مدار منجزية العلم ومنجزية العلم دائرة مدار العلم فلا معنى لبقائها بعد زوال موضوعها.

إذا كان هناك اثر شرعي _كحرمة القطع مثلا، أو وجو بالإعادة_ موضوعه العلم المنجز، إذن موضوعه العلم، لان موضوعه العلم لأن منجزية العلم فرع بقاء العلم فإذا زال العلم زالت المنجزية زال الاثر الشرعي.

إذن هذه الدعوى والاصرار عليها بأن اثر المنجزية دائما يبقى حتى بعد زوال المنجزية، هذا ليس صحيحا وهو خلف حكم العقل، نعم اثر العقل وهو الاستحقاق لان موضوعه حدوث العلم بالتكليف صار باقيا حتى بعد زوال العلم التفصيلي بالتكليف.

والحمد لله رب العالمين.